السيد د. جعفر فضل الله

يطرح الخطاب السياسي بشكل وبآخر مسألة قيادة المنطقة، تتقاسم الصّراعَ على ذلك دولٌ وقوًى إقليميّة متعدّدة. ولعلّ هذا الأمر طبيعيّ ومفهوم، بمعزل عن قضيّة الحقّ والباطل في كلّ ذلك.

الخطاب الديني أيضًا ليس بعيدًا من هذا الاتجاه، بل إنّه يفوق الخطاب السياسي حدّةً، وذلك لاستناده إلى خطاب عقدي يدخل الصّراع في المنظومة الإيمانيّة للفرد المسلم، ولذلك، يكتسب هذا الصّراع ديمومةً أطول وزخمًا أشدّ. وهذا النّوع من الخطاب هو – في الواقع مستثمَر ومستغلّ من قبل المجال السياسي – وذلك ناشئ من حالة الفرز المذهبي الّتي تعيشها الأمّة منذ مئات السنين، وانعكست على مجمل نشاطها، وبخاصّة السياسي.

ولعلّ ما يهمّنا هنا، هو الإشارة إلى أنّه لا يجانب الصّوابَ القولُ إنّ ما هو كامن في اللاوعي الجمعي المذهبي، هو رفض كلّ جماعة مذهبيّة لقيادة جماعة أخرى العالمَ الإسلاميّ، أو حتى لقيادة قضايا الأمّة الأساسية والمصيرية، وذلك انطلاقًا من شعورها وإيمانها بأنّها تمتلك الحقّ الذي يبرّر لها ذلك، في مقابل الباطل الذي عليه الجماعة الأخرى، والذي لا يسمح لها بأن تكون في موقع القيادة.

وهذا في الواقع يطرح مسألة الثّقة المتبادلة، وكثيرًا ما يلجأ اللاوعي، سواء كان نخبويًّا أو شعبيًّا، إلى اقتناص الدلائل والشّواهد على أنّ الآخر المذهبي لا يحتكم إلى الحقّ، وقد تحضر في هذا المجال الصّورةُ المختزنةُ من قبل كلٍّ منهما عن الآخر تاريخيًّا، بحيث يبدو الأمر وكأنَّ ما فعله الأسلاف المذهبيّون في حقبة زمنيّة معيّنة، تعيد تلك التي اعتُبرت شواهد أو دلائل إنتاجه في الزّمان الحاضر.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا يعني رفض المسلمين لقيادة المختلف عنهم مذهبيًّا؟

وللإجابة عن ذلك، لا بدّ من الانطلاق من نقطة واقعيّة، وهي أنَّ موقع القيادة – أيًّا كانت – يعبّر عن نفسه كعنصر من عناصر القوّة الواقعيّة، أكثرَ ممّا هو عنوان يمنحه الإنسان لنفسه بطريقة جوفاء ليس لها ما يبرّرها على الأرض. وهذه القيادة، لأيّ طرف من أطرف الأمّة، تنشأ من خلال ظروف واقعيّة تراكمت غالبًا عبر مسارٍ من الفعل والجهد، إضافةً إلى ما تمنحه المرحلة التاريخيّة من عناصر.

مثالان واقعيّان

لو أخذنا المقاومة الإسلاميّة في لبنان كمثال، فإنّها لم تصل إلى موقع التّأثير في حركة الصّراع والقوّة، لأنّ مجموعة ما قرّرت ذلك في لحظة شعور بالقوّة أو الغلبة، وإنّما تمّ ذلك من خلال تراكم حركة المقاومة للاحتلال الصّهيوني لجنوب لبنان وبقاعه الغربيّ من العام 1982 حتّى العام 2000، ثمّ في العام 2006. وهذا ما جعل منها قوّة حاضرة بقوّة في حركة الصّراع لتحرير فلسطين على المستوى الإقليمي، وليس على مستوى لبنان فحسب.

إقليميّتها لم تنطلق من ارتباطها بدولة إقليميّة فقط، وإنما كان ذلك عاملًا خارجيًّا يُضاف إلى عوامل أساسيّة، وهو ما يمثّله الكيان الصهيوني من قوّة إقليمية يراد فرضها – دوليًّا – بالقهر والنّار على كلّ المنطقة وشعوبها، بل وعلى تاريخها أيضًا.. ولذلك، فعندما تكونُ أيّة جهة في موقع الصّراع مع قوّة عنوانها إقليمي، وهي جزء من مشروع دوليّ استعماري، ثم تنتصر من خلال فرض إرادتها على تلك القوّة، لتسحب قوّاتها بذلّة في العام 2000، ثم لتدفع باهتزازات عدوانها نحو الجدل البنيويّ حول الكيان ومدى صموده في العام 2006، كلّ ذلك يجعلها في الموقع الفاعل بالنّسبة إلى واحدة من قضايا الأمة، بل هي قضيّتها المركزيّة؛ لأنّ الكيان الصهيوني هو عنوان الصّراع الذي تمثّل فلسطين وجهته.

والذي جعل من حركة المقاومة الإسلاميّة الفلسطينيّة قوّة فاعلة على المسرح الإقليمي، هو السّياق ذاته، ولكن في مجال إسلاميّ آخر من حيث الانتماء المذهبي، كحركة حماس والجهاد الإسلامي وحركة فتح، وغيرها، ساهمت في تعزيزه – بالنّسبة إلى حماس بالذّات – انتماءاتٌ لحركة إسلاميَّة كبرى، هي حركة الإخوان المسلمين، إضافةً إلى الدَّعم المادّي والمعنويّ الذي تلقّته من قوى إقليميّة كإيران بشكل رئيس، وكذلك التراكم التاريخي للكفاح المسلَّح الذي قامت به قوى فلسطينيّة أخرى.. وعزّزتها حالة الصّمود والمواجهة لآلة الغطرسة الإسرائيليّة، ولا سيّما في حرب غزّة 2008 و2012…

وعلى هذا الأساس، ينبغي على العقل الاسراتيجي الإسلامي أن يبني على موازين القوّة المتراكمة تاريخيًّا وواقعيًّا في عملية تجميع أوراق القوّة، وتحريك مشروع التحرير للأرض، والبناء للنموذج الإسلامي القادر على الحياة في ظلّ حركة السياسة الدولية وأنظمتها الضاغطة في حركة الدول والمجتمعات والشعوب، لأنَّ عدم الاعتراف بواقعيّة القيادة ولو نسبيًّا، يعني التنكّر لواقع القوّة المتحصّلة على الأرض وفي حركة السّياسة.

لو عمدنا إلى المثال السّابق، وهو القوّة الواقعيّة للمقاومتين الإسلاميّتين اللبنانية والفلسطينية؛ يعني عدم اعتراف كلّ واحدة بعناصر القيادة النوعيّة، عدم اعترافٍ بورقةٍ من أوراق القوّة الّتي يمكن بتراكمها أن تعزّز عناصر الضّعف في جبهة العدوّ؛ ولذلك لا يصلح لأيّ من المقاومتين اللجوء إلى رفض هذا الأمر الواقع تحت ذريعة الاختلاف المذهبيّ.

بصريح العبارة، ما هو المانع من أن يقبل المسلم السنّي قيادة المسلم الشيعي لحركة الصّراع؟ وفي موازاة ذلك، ما هو المانع الذي سيمنع المسلم الشّيعي من قبول قيادة المسلم السنّي لحركة الصّراع؟ كل ذلك عندما يكون الحساب حساب القضايا الكبرى.

الخلاف الأوّل وتجلّيه الواقعيّ

ولنكن صريحين أزيد من ذلك، لنقول: إنَّ قضيّة الخلاف على الخلافة والإمامة، لم يعد لها واقع موضوعيّ في سياسة الحركة الإسلاميّة المعاصرة، بمعنى أنّه ليس المطلوب أن تنصّب الحركة الإسلاميّة الشيعيّة عليّ بن أبي طالب خليفةً أوّل، وأن تثبّت الحركة الإسلاميّة السنّية أبا بكر كذلك، أو أن تتنازل كلّ حركة عن قناعاتها في ذلك. ما هو الواقعيّ، أنْ نلاحظ تأثيرات قضيّة الخلافة والإمامة ضمن كلّ مجال مذهبيّ في حركتها الإسلاميّة على أرض الواقع، بمعنى أن نلمح العنصر الواقعي الذي لعب دور صناعة القوّة في كلّ مجال مذهبي، انطلاقًا من ثقافته المتراكمة عبر التّاريخ، حيث لكلّ مجال مذهبي رموز بطولته، هذه الرموز التي قد تكون على طرفي نقيض فيما تراه المذاهب. فعندما يستعيد المقاومون المسلمون الشّيعة نموذج عليّ بن أبي طالب أو الحسين بن عليّ وكلّ أبطال عاشوراء، لكي يحفّزوا كلّ إرادة العزة فيهم، في مواجهتهم لكلّ الإرادة العسكريّة والسياسيّة الصهيونيّة أو الاستعماريّة التي تصارعهم، فتلك نقطة تحسب لهم لا عليهم. وعندما يستعيد المقاومون المسلمون السنّة نموذج عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد لكي يشحنوا في نفوسهم كلّ توقٍ للنّصر والفتح في نفوسهم، فتلك أيضًا نقطة تحسب لهم لا عليهم.

وعلى هذا الأساس، تصبح الخصوصيّة المذهبيّة عامل قوّة في ميدان الجهاد العسكري والسياسي، ومن الخطأ، بل من المميت، أن يُقحَم الخطاب السياسي والثقافي في جدل حول هذه الشخصيّة أو تلك، أو في خطأ ما تتصوّره كلّ جماعة عن هذا البطل أو ذاك. المسألة هنا تراكميّة؛ إذ يتطلب بناء رمزيّة شخص لدى جماعة ما عشرات بل مئات السّنين، وإن ضرب نموذج ما من دون مراكمة ما يثبت البديل، يفسح في المجال للفراغ الشعوري لكي يأخذ مداه في النفوس وفي حركة الواقع والصّراع أيضًا.

أطروحة للحوار الجدّي

وانطلاقًا من كلّ ذلك، نستطيع أن نؤسّس لفكرة لا بدَّ من أن يقوم عليها حوار جدّي، وهي تقوم على أمرين:

أ‌- الانتهاء من الجدل حول التقويم الذي تضفيه كلّ حركة إسلاميّة على الحركات الأخرى بما يتعلّق بالانتماء الإسلامي؛ لأنّنا قد نلمح – في كثير من ألوان الخطاب المذهبي – استعادةً لأدبيّات الخروج أو المروق من الانتماء إلى الإسلام، كما في عنوان الرّافضة الذي برز بشدَّة في السنوات القليلة الماضية في مواجهة الحركات الإسلاميّة الشيعيّة، وبرز – وإنْ بنحوٍ أقلّ – عنوان النّواصب أو عنوان الصفة الأمويّة في مواجهة الحركات الإسلامية السنّية. وهذا من شأنه أن يضع حركات التّكفير في إطارها الضيّق قياسًا بالحالة الإسلامية العامّة التي تجمع عموم السنّة والشيعة.

ب‌- تقبّل كلّ حركة إسلاميَّة لإمكانيَّة أن تكون قيادة العالم الإسلاميّ – واقعيًّا – في قضايا الصِّراع لقوّة مختلفة من الناحية المذهبيّة، ولو مرحليًّا، وعدم اعتبار ذلك قبولًا بسيادة الكفر أو الشّرك أو نحو ذلك من المصطلحات الّتي تُرجعنا إلى المشكلة التي أثرناها في النّقطة (أ).

من شأن ذلك، ربّما، أن يشكّل أرضيّة تعاوُن بين الحركات الإسلامية في إنضاج النظرة الإسلاميّة الموحّدة أو المتقاربة تجاه حركة الصّراع مع حركات الاستكبار والاستعمار، وإعداد المشاريع المشتركة لمحاصرة الخطط والمؤامرات الخارجيَّة التي أثبتت – بالتأمّل والتجارب – أنّها تريد تمزيق أو مصادرة أيّ ورقة للقوّة يملكها الإسلاميّون في قيادة الواقع أو الصّراع، وكذلك في تقويم الموقف من الدّول وانتماءاتها الإسلاميّة على مستوى حركة السياسة؛ لأنّه لا يكفي أن يكون عنوان دولةٍ ما إسلاميًّا لكي تحسبَ الحركة الإسلاميّة نفسها عليها، وتجعل نفسها جزءًا من حركتها السياسيّة؛ بل إنَّ هذا – بحسب التجارب التاريخيّة – أوقع الحركة الإسلاميّة في حالات من فقدان الدّور، أو حتّى الدخول في مشاريع غير إسلاميّة بالمعنى القيمي أو بالمعنى السياسي الاستراتيجي للأمَّة.

البناء على وجدان الشّعوب

في مسألة القيادة، قد يحسن لنا أن نرصد بدقّة عفويّة الشّارع الإسلامي وصدقه في الانسجام الشّعوري مع أيّ حركة تعيد النّبض إلى عنوان الأمَّة على أرض الواقع، انطلاقًا من حضور القضايا الكبرى في هذا الوجدان الإسلاميّ العامّ، وهو ما شهدناه مع انتصارات الأمّة التي حصلت في المجال الإسلاميّ السنّي، فتفاعل معها الشّارع الإسلاميّ الشّيعي كما السنّي، وكذلك انتصارات الأمّة التي حصلت في المجال الإسلامي الشّيعي، فتفاعل معها الشارع الإسلامي السنّي.. والمفارقة الّتي لا بدَّ من قراءتها بدقَّة وصدق، هي كيف كانت الأنظمة الاستبداديّة تحاصر هذا الشّارع عندما يتحرّك بروحيّة إسلاميّة جامعة، ولنا أن نتوقّع كيف تعمل أجهزة هذه الأنظمة لبذر الشّقاق والتعصّب في هذا الشّارع من أجل تشويه عفويّته وتعقيد انطلاقته.

البوصلة في هذا المجال واضحة: تحرير فلسطين من البحر إلى النَّهر، فلا بدَّ من جعلها بوصلة الحلول في المنطقة الّتي نزعم أنها يمكن أن تتسارع عبر حوار جدّيّ بين الحركات الإسلاميّة، ومصارحة شعوبها بصدقٍ؛ وعدم الانزلاق وراء آليَّات إدارة اللّعبة السياسيَّة الّتي لا تقوم على مبادئ الإسلام وقواعده؛ والله من وراء القصد.