الأصنام البشرية بين الماضي والحاضر


السيد د. جعفر فضل الله

مثال الأوّل: في المجال السيئ، حيث برز فرعون بوصفه إلهًا لقومه: (ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري)[1]، وقال: (أنا ربُّكُمُ الأعلى)[2]؛ كذلك نموذج النمروذ الذي جرت محاورة موحية بينه وبين إبراهيم (ع): (قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم فإنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغربِ فبُهِتَ الذي كفر)[3]، حيث نستوحي من ذلك أنّه كان يتألّه ويقارن نفسه بفعل الله.

لقد حوّل هؤلاء الطغاة والجبابرة أنفسهم إلى مرجعيّة معيارية للقيم، فهم مصدر الحقّ والعدل، وفعلُهُم هو الخير، وبذلك ألغوا أيّ مرجعيّة فوقهم تُقاس عليها أقوالهم وأفعالهم، ويُحدّد على أساسها ما إذا كانوا مستقيمين أو منحرفين.. هذه المفاهيم، أعني الاستقامة والانحراف وغيرهما، لا يعود لها معنى مع تألّه هؤلاء، وإذا خضع النّاس لهذا المنطق، فإنّهم يفقدون وجودهم وذواتهم وأي وجود للمعنى إلّا من خلال هؤلاء.

هذا الأمر هو ما يحاول الطغاة والجبابرة أن يحقّقوه لدى الناس، ولذلك هم يربطون كلّ شيء بهم، فلا سياسة إلا بهم، ولا اقتصاد إلا من خلالهم، ولا أمنَ إلا بإرادتهم، ولذلك يجعلون الناس تتحرّك وكأنّ هؤلاء يُحيون من يريدون بقاء على قيد الحياة، ويميتون من لا يريدون وجوده، ويرزقون الناس ويمنعونهم، وما إلى ذلك.. هذا المعنى للتألّه هو معنًى عمليّ، والناس عندما تركنُ إليه وتستسلم له يمارسون نوعًا من العبادة من حيث لا يشعرون!

ومثال الثاني: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيحَ ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلّا هو سبحانه عمّا يُشركون)[4]، ويشرح الإمام جعفر الصّادق (ع) ذلك: “أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون”[5]. من خلال ذلك نفهم أنّ اتخاذ الأرباب لا يقوم فقط على الاعتقاد بالألوهيّة، والعبادة لا تقوم فقط على أداء طقوس على النحو الذي يؤدّيه الإنسان للخالق، بل يشمل التعامل معهم على أساس الانقياد لهم على قاعدة أنّهم مصدر القيمة ويمثّلون المعيار الذي على أساسه يتمّ القياس والتقييم للأشياء. ولذلك صحّ أن يسمّى اتّباع الشيطان عبادة: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان)[6]

تحرير الإنسان وسلامة تصوّرهتحرير الإنسان وسلامة تصوّره

وقد عمل القرآن الكريم على ضرب صورة الإله في هؤلاء المجال السيّئ، فأهلك فرعون وجنوده، وقال له: (فاليوم ننجّيك ببدنِكَ لتكون لمن خلفَكَ آيةً)[7] وأسقط في يد النمروذ الذي لم يستطع أن يتخلّص من إبراهيم (ع)، ولا أن يدافع عن أصنامه من فأس خليل الله، كما أكّد في الجال الثاني على بشريّة الأنبياء، فضلًا عن أتباعهم، لا بمعنى أنّهم كسائر البشر في موقعهم من الله، بل لا شكّ أنّهم في موقع الاصطفاء، ولكنَّ التأكيد على البشريّة مع النبوّة لأجل سلامة التصوّر العقدي تجاههم من قبل أتباعهم. ولذلك قال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابنُ مريم قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يُهلك المسيح ابنَ مريم وأمّه ومن في الأرض جميعًا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير)[8]، ووصفَ المسيح بأنّه عبدٌ، فقال تعالى: (إنْ هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلًا لبني إسرائيل)[9]، ثمّ أعطى الخطّ الرئيس لهويّة الأنبياء، فقال تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم افسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، ما جعلناهم جسدًا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين)[10].

وإذا كان هذا الحال مع الأنبياء، فإنّه لا يمكن للإنسان أن يُلغي فكره مع مَن عداهم، وهؤلاء قد يخطئون ويصيبون،

ملخص المحاضرة الرمضانيّة الخامسة: الأحد 6 رمضان 1442هـ/ 18-4-2021م

[1] سورة القصص، 38.

[2] سورة النازعات، 24.

[3] سورة البقرة، 258.

[4] سورة التوبة، 31.

[5] الكليني، الكافي، ج1، ص53، ح1.

[6] سورة يس، 60.

[7] سورة يونس، 92.

[8] سورة المائدة، 17.

[9] سورة الزخرف، 59.

[10] سورة الأنبياء، 7-8.