السيد د. جعفر فضل الله

هناك ثلاث قضايا رئيسة للإجابة على هذا السؤال:

أوّلًا: الرؤية الكونية أو الوجوديّة للإنسان

وهي تحدّد لنا ما هو العنوان أو المهمّة أو القضيّة التي ترتبط بجوهر وجودنا على هذه الأرض؛ هنا نجد ثلاثة ركائز:

(أ) (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة)؛ هذا هو العنوان الذي يأخذه الإنسان لوجوده وحياته، وهو أن يقود الحياة انطلاقًا من إرادة المستخلِف، وهو الله تعالى.

(ب) (قلنا اهبطوا منّي جميعًا فإمّا يأتينّكم منّي هدًى فمن تبعَ هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون)؛ حيث اتّباع الهدى الإلهي هو الذي يعرّف الإنسان كيفَ يجسّد معنى الخلافة على الأرض، وفي الوقت عينه يحقّق الأمن والسعادة.

(ج) (وما خلقتُ الجنّ والإنس إلّا ليعبدون)؛ والمقصود هنا تجسيد العبوديّ لله، فإذا وصلنا هذا المعنى بالخلافة، فإنّ الخلافة الحقيقية للإنسان لن تحصل إلّا من خلال عبوديّته لله؛ ولذلك كان أهمّ ما وُصفَ به الأنبياء (نعمَ العبدُ) في إشارة إلى هذا التكامل الوجودي عبر العبوديّة.

ثانيًا: الزينة

الزينة هي ما يكسو الظاهر من أيّ شيء، ويكون جاذبًا للمشاعر والأحاسيس، وهي أيضًا قد تكون الوسائل والأدوات التي يحتاج إليها الإنسان في حياته، وكذلك قد تمثّل الموارد التي يحتاجها لتحقيق أهدافه ضمن الرؤية التي أشرنا إليها. وهنا ثلاث قضايا أيضًا:

(1) أنّ الزينة جزءٌ لا يتجزّا من الحياة، ليس المطلوب التنكّر لها، بل المطلوب تنظيم العلاقة بها، ولذلك قال تعالى: (زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدّنيا)[1]، وقال: (المال والبنون زينة الحياة الدُّنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربّك ثوابًا وخير أملًا)[2]، وقال: (وما أوتيتم من شيءٍ فمتاعُ الحياة الدُّنيا وزينتها)[3].

بل في بعض الآيات إشارة إلى أنّ هذه الزينة هي موارد لا بدّ أن يأخذ بها المؤمنون؛ لأنّهم بها يحقّقون معنى الخلافة المستندة إلى عبوديّتهم لله، فقال تعالى: (قل من حرّم زينةَ الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة)[4]. ولذلك لا نوافق على مفهوم الزهد الذي يعني ترك الموارد المادّية في الحياة؛ لأنّ هذه الموارد هي شرط أساس في تحقيق المهمّات الملقاة على عاتق الإنسان، والتنكّر لها سيجعل الحياة بيد الكافرين الذين ينطلقون ليجسّدوا رؤية كونية مناقضة للرؤية الوجودية الإيمانية التي تحدّثنا عنها.

(2) أنّ الزينة تؤثّر على التوازن النفسي والفكري للإنسان، ولذلك تنقلبُ عنده الموازين، ويعيش الزهو والخيلاء والبغي والطغيان نتيجة غياب ذلك التوازن. قال تعالى في ما قصّه من شأن قارون: (إنّ قارون كان من قومِ موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوءُ بالعصبة أولي القوّة إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحبُّ الفرحين) إلى أن يقول: (قال إنّما أوتيته على علمٍ عندي)[5]، حيث إنّ المال أفقده النظرة المتنوازنة إلى نفسه، فأنكر الله واستمرّ في زينته.

(3) أنّ الزينة قد تكون مخترعة ومصنوعة من الإنسان نفسه، ثمّ يضفي عليها المعنى والرمزيّة والقداسة، وتوظّف من أجل أن تستحوذ على المشاعر والأحاسيس، فيرتبط الإنسان بها ويغفل عن الجوهر؛ وهذا التزيين هو المهمّة الأساسيّة للشيطان: (قال ربّ بما أغويتني لأزيّننَّ لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين)[6].

هذا الأمر قد يكون عبارة عن مخترعات، كالعجل الذي صنعه السامري؛ وأقنع الناس بقداسته انطلاقًا من سطحيّتهم التي جعلتهم مستغرقين زينته: (فإنّا فتنّا قومَك من بعدكَ وأضلّهم السامري)[7]، ثمّ يقول على لسان قومه: (ولكنّا حمّلنا أوزارًا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري)[8]..

وقد يكون ذلك عبارة عن العادات والتقاليد والتراث الذي يستحوذ على اهتمام المجتمع واندماج أفراده فيه: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدوًا بغير علمٍ كذلك زينّا لكلّ أمّة عملهم)[9]، ولولا هذا الانشداد إلى مقدّساتهم (الباطلة) لم ينزلقوا إلى أن يسبّوا الله كردّ فعل لسبّ آلهتهم وهم يؤمنون به.

وقد يكون ذلك بسبب القوّة أو المال أو السلطة، وهو الذي وجدناه في قصص الأقوام السابقة، كعادٍ وثمود، حيث يقول تعالى: (وعادًا وثمود وقد تبيّن لكم من مساكنهم وزيّن لهم الشيطان أعمالهم)[10]

ثالثًا: معادلة التحكّم

نتيجة ما تقدّم، تحدّد الرؤية الوجودية الجوهر الذي يمثّل أساس وجود الإنسان وحركته على الأرض، والزينة، سواء الطبيعية أو المخترعة، من شأنها أن تغطّي هذا الجوهر، فيتحرّك الإنسان من خلال اللاوعي الغرائزي، وتتحوّل عنده الوسيلة إلى غاية، والمظهر إلى جوهر؛ ولذلك كان لا بدّ من التحكّم بالزينة لكي لا تطغى على الجوهر، وتوجب الغفلة وفقدان التوازن، وهذا يتطلّب تفعيل المنظومة الإلهية، أي العبادة والقيم والشرائع، أو الهداية كما هو العنوان الذي أعطته الآية للمواكبة الإلهية للتاريخ البشري.

والمعادلة لهذا التحكّم يوضحها قوله تعالى: (أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن زُيِّنَ له سوء عمله)[11]، حيث العلم بما يريد الله تعالى، وما شرع وأنزل وأرسل، هو الذي يحقّق للإنسان الكون (على بيّنة من ربّه)، وبذلك يكون لديه القدرة على التحكّم بالأشياء حتّى لا يزيَّنَ له ما هو وهمٌ وباطلٌ فيتصوّره حقيقة وحقًا؛ والله من وراء القصد.

من الدروس الرمضانية 1442هـ / الدرس الثالث/ الجمعة 4 رمضان 1442هـ/ 16-4-2021م

[1] سورة آل عمران: 14.

[2] سورة الكهف: 46.

[3] سورة القصص: 60.

[4] سورة الأعراف: 32.

[5] سورة القصص: 77 -78.

[6] سورة الحجر: 39.

[7] سورة طه: 85.

[8] سورة طه: 87.

[9] سورة الأنعام: 108.

[10] سورة العنكبوت: 38.

[11] سورة محمّد: 14.