قصّة استعراض النبي سليمان (ع) للصافنات الجياد، وهي الخيول ذات الجمال والقوّة في الهيئة والسرعة في العدو، والتي يكفي استعراضها لتدخِلَ الإنسان في استغراق المشاعر والأحاسيس.

في التفاتةٍ روحيّة، قال سليمان (ع): (إنّي أحببتُ حبَّ الخير عن ذكر ربّي)، فكأنّه رأى هذا الاندماج الشعوريّ في مشهدها مشغلةً لنفسه، وربّما لوقته لأجل ما يتطلّبه الاستعراض الدَّوري.. وقيل إنّها شغلته عن الصَّلاة فتأخّرت عن أوّل وقتها.. فطلبَ ردّ الخيل إليه، وهنا صنع بالجياد ما يوبّخ نفسه عليه لقاء استغراقه واندماجه، وضحّى بها لقاء أن يبقى منشدًّا ومشغولًا بلذّة حضور الله في نفسه.

ولا يهمّنا هنا الخوض في الإشكالات التفصيليّة والأسئلة العقدية التي يثيرها وقوع ذلك من نبيٍّ معصوم، بقدر ما نريد أخذ العبرة لحياتنا..

لو تأمّلنا في كثيرٌ من المقتنيات المادّية التي تشغلنا، وتستغرق تفكيرنا، ونصرفُ لأجلها جهودنا وأعمارنا، ونبذلُ في سبيلها طاقاتنا، ونخوضُ للحصول عليها المخاطر، وقد تفرض علينا استعداء الأقربين، وتوارث الأحقاد والعداوات.. من السعي لاكتساب الأموال الطائلة، والممتلكات والمقتنيات، وجمع العقارات، ووسائل النقل الفارهة، والهواتف الحديثة، والأجهزة التقنية.. أو نبالغ في اهتمامنا بمقتضيات الجمال الجسدي، من ثيابٍ ومجوهرات وعطورات وتجميل وما إلى ذلك..

كلُّ ذلك لم يحرّمه الله تعالى، وقد أراد لنا أن نأخذ بهذه الزينة، ولكنّ القصّة تعطينا عبرة للالتفات إلى الأولويّات، وما الحجم الذي نعطيه لذلك من الجهد والعمر والطاقة..

والمعيار الرئيس في ذلك: هل أحبُّ حبّ الخير عن ذكر الله؟

هذا يحتاج إلى الالتفات إلى النفس في عمق مشاعرها، وأدقّ أحاسيسها، لنرصد الخفقة والنبضة والميل والهوى.. كما صنع سليمان (ع)..

فإذا اكتشفنا أنّ زينة الحياة تلهينا عن عباداتنا، تواصلنا مع الله الذي فتح كلّ أبوابه رحمته ولطفه لنا، الذي هو أقربُ إلى نبض قلوبنا اللاهية، وهو معنا أينما كنّا، يسمعنا، يرانا، ينادينا لنذكره.. لا لحاجة إلينا، بل ليذكّرنا ذكرُهُ بمسؤوليّاتنا..

إذا اكتشفنا ذلك، احتجنا إلى عدّة خطوات لنعالج موقفنا ونعيد قلب الأولويّات:

  1. أن نعترف لأنفسنا بوجود هذه المشاعر المستغرقة في زينة الحياة واللاهية عن ذكر الله.
  2. أن نبحث عن سبب هذه المشاعر؛ فقد يكون السعي لاقتناء الأشياء لأجل تحقيق الأمان النفسي، أو لامتلاء الأنا والذات، أو ربما غيرةً من الآخرين، وكم نعيشُ الاحتكاك بذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، في عرض الناس لما يعيشونه في لحظات حياتهم مع هذه الأمور..
  3. أن نعي أنّ ذلك يمكن أن يزول في لحظة، تمامًا كما قصّ الله علينا قصّة قارون الذي أعمته زينة المال عن ذكر الله الذي رزقه كلّ ذلك، وهيّأ له أسبابه، وفي لحظة انهار كلّ ذلك دفعة واحدة.. نستطيع أن نرى ذلك في الكثير من النماذج التي عايشناها فافتقرت بعد غنًى، وتلاشت بعد قوّة!
  4. أن نفرّق بين الجوهر والزينة؛ وذلك أنّ الجوهر هو ذواتنا، والزينة وسائل لهذه الحياة..
  5. أن نحدّد مقدار الحاجة من الزينة ليومنا.. تمامًا كالذاهب في رحلةٍ لثلاثة أيام، فإنّه لا يتزوّد فيها لشهر من حاجاته..
  6. أن نقوم بتصرّف مضادّ يهذّب نفوسنا.. وهنا تبرز فلسفة الزكاة ونفهم لماذا قرنها الله بالصلاة؛ لأنّ الصلاة استحضار مباشر لذكر الله، والزكاة إزالة لهذه الملهيات الكامنة في أعماق نفوسنا، والمتأصّلة بغريزة حبّ الملك..
  7. أن نأخذ بالمعادلة التي بينها الله للتعامل مع زينة الحياة: (لا تفرح – وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة – لا تنسَ نصيبَك من الدنيا – أحسن كما أحسن الله إليك – لا تبغِ الفساد في الأرض)؛ بذلك تتحوّل الحياة كلّها إلى ذكرٍ لله تعالى، ويصبح الأخذ بزينة الحياة في ما أهمّنا من أوضاعنا (زينة الله التي أخرج لعباده)، ننظرُ عبرها فنتذكّر، ولا ننظرُ إليها فتلهينا؛ والله من وراء القصد.

 

من الدروس الرمضانية 1442هـ / الدرس الثاني/ الخميس 3 رمضان 1442هـ/ 15-4-2021م