السيد د. جعفر فضل الله

أكّد القرآن الكريم على التوكّل على الله كمبدأ أساس من مبادئ الإيمان، أو كمفعول رئيس من مفاعيل الإيمان الواقعيّة، فقال تعالى: {إنّ الله يحبّ المتوكّلين}[1]، وفي حركة الدّعوة إلى الله: {فإن تولّوا فقُلْ حسبيَ الله لا إله إلّا هو عليه توكَّلت وهو ربُّ العرش العظيم}[2]، وفي الخيارات السياسيّة الكُبرى المتّصلة بحركة المجتمع: {وإن جنحوا للسِّلم فاجنح لها وتوكَّلْ على الله}[3]… إلى الآيات التي تؤكّد جانب التوحيد في التوكّل، فالله وحده متعلّقه: {كفَى بالله وكيلًا}[4]، {فاعبدْهُ وتوكّلْ عليه}[5]، {قلْ هو ربّي لا إلهَ إلّا هو عليْهِ توكّلْتُ}[6]، {ومن يتوكّلْ على الله فهو حسبُه}[7].

والسّؤال الذي يطرح نفسه في البداية: ما هو مفهوم التوكّل؟ ثمّ نحاول الوقوف عند القاعدة الإيمانيّة التي يرتكز عليها التوكّل، بما يجعلنا أقدر على تحديد العناصر التربويّة التي يمكن لها أن تفعّل هذا العنصر الإيماني في شخصيّة الإنسان المسلم، وأخيرًا، يمكن لنا أن نطلّ على علاقة هذا العنصر بحياة الإنسان، سواء كان ذلك مرتبطًا بالدّاخل النفسيّ، أو بالواقع العمليّ الخارجيّ؛ فهذه مواضيع ثلاثة نقف عندها تباعًا.

أوّلًا: مفهوم التوكّل

في المعاجم اللغوية، يبدو التوكّل بمعنى التّسليم والتفويض، وتوكّل الرّجل بالأمر ضمن القيام به، وتوكَّل على الله: اعتمد على الله واستسلم إليه. والوكيل ورد بمعنى الحافظ أو الكفيل أو الّذي يسعى في عمل غيره وينوب عنه فيه، أو من يُعتمَد عليه في تدبير أمرٍ من الأمور.

ومن الواضح هنا أنَّ التوكّل يستبطن عدّة أمور:

أ‌-الحاجة؛ لأنَّ الإنسان لا يوكّل غيره إلّا لحاجة ما، قد تكون عدم القدرة على أدائه، أو عدم توافر الظّروف الموضوعيّة لإنجازه، أو ما إلى ذلك من الاعتبارات الّتي نجدها في حياتنا في عالم الوكالات في أمور التجارة والأعمال والشّؤون الخاصّة والعامّة.

ب ـ الاعتماد على الآخر؛ بمعنى أنّ الإنسان يسلّم من يوكّله القيام بالأمر موضوع الاهتمام، ويفوّضه إليه، ويعتبره كأنّه قائم مقامَه.. وهنا قد نلمح نوعًا من الاعتبار التّجريديّ للإنسان، بحيث يجعل جزءًا من ذاته (المرتبط بذلك الشّأن المهمّ) عند إنسان أو عند موجودٍ آخر يفترض أنّه سيحقّق المطلوب الذي يسعى إلى تحقيقه.

ج ـ الثّقة؛ حيث نلاحظ أنّ الموكِّل لا يلجأ إلى من لا خبرة له بأمر فيوكِّله فيه، ولا إلى القادر من الناحية الذاتيّة على إنجاز أمرٍ، ولكنّه لا يقوم به لظروف معيَّنة، قد تكون هذه الظروف نفسيّة، كما إذا كان الإنسان سارقًا أو خائنًا للأمانة، أو ظروفًا خارجيَّة، كما إذا كان الإنسان خاضعًا لضغوطٍ معيّنة، أو إكراهات من قبل أفراد أو واقع اجتماعي أو سياسي، ما يمنعه من تحقيق العمل أو الفعل الموكَّل به.

وبالتالي، يمكن لنا أن نحدّد مفهوم التوكّل على الله بأنّه الاستسلام وتفويض الأمر إليه سبحانه وتعالى، انطلاقًا من قناعتنا وشعورنا الإيماني بأنّه قادر على تحقيقه.

ثانيًا: قاعدة التوكّل الإيمانيّة

بملاحظتنا لعددٍ من الآيات القرآنية المتعرّضة لموضوع التوكّل على الله، نستطيع أن نستخلص عدّة عناصر تشكّل بمجموعها القاعدة الإيمانيّة للتوكّل. ونقصد بالقاعدة الإيمانية، ما يكون وجوده في شخصيّة الإنسان المسلم شرطًا ضروريًّا لتحقّق التوكّل. كما نقصد بالإيمان، عنصرَي الفكر والشّعور اللّذين يجعلان المبدأ أو الفكرة الاعتقاديّة حيّةً في الوجدان وفي حركة النفس الداخليّة، ما يجعل المبدأ أو الفكرة الاعتقادية قادرةً على تحريك الإنسان بما يناسبها في الواقع؛ لأنَّ العنصر الفكري وحده يشكّل البناء النظري الّذي يمكن أن يخفت تحت ضغط الحركة وتعقيداتها، بينما تمثّل الفكرة الحيّة النبض الوجداني الدّائم، الذي ما إن توجد مثيراته الخارجيّة ويحتكّ بها الإنسان، حتّى يتفاعل معها وتحضر تلك الفكرة لتكون موجّهًا ذاتيًّا للحركة والفعل.

ولتعميق النقطة السابقة، نشير إلى أنّ هناك فرقًا بين الإيمان بوجود الله وبين الاعتقاد بوجوده؛ فالاعتقاد يقوم على أساس المعادلات العقلية التي يذعن لها العقل، ويستكين إلى الأدلة والبراهين التي يفكّر فيها ويستنتج من خلالها. نتيجة ذلك، يمثّل القناعة بوجود الله، ولكنَّ هذه الفكرة قد تكون موجودة في دماغ المليارات، إلّا أنّها تخفُت بسبب انشغال الإنسان بعمله، حيث يتوجّه عقله وفكره نحو إنجاز هذا العمل المطلوب منه أو ذاك، وعندما يتوجَّه العقل نحو شيء، يخفت ما عداه.

أمّا عندما يقوم الفكر بعمليّة ربطٍ بين مظاهر الحياة وبين الله الخالق، فعندما يشرب الماء، يذكر أنّ الله أنزله من السّماء بالقوانين التي أودعها في الكون، وعندما يأكل طعامه، يشكر الله الّذي أنعم به عليه، وعندما يحسّ بقوّة بدنه يذكر قوّة الله، وعندما يشاهد جمالات الكون والحياة، فإنّه يفكّر في عظمة الله.. وبالتّالي، تتحوّل مظاهر الحياة كلّها إلى مثيرات لهذه الفكرة الاعتقاديّة، فتتعمّق في نفسه، وتتحوّل إلى فكرة حيّة، ترافقه حيثما ذهب، وكيفما توجَّه.. وهذا هو الإيمان الذي عناه الله تعالى بقوله: {قالت الأعراب آمنّا قلْ لم تؤمنوا ولكنْ قولوا أسلمْنا ولمَّا يدخلِ الإيمانُ في قلوبِكم}.

بالعودة إلى موضوع التوكّل، نستعرض بعضًا من الآيات القرآنيّة التي يمكن أن تمدّنا بعناصر القاعدة الإيمانيّة التي أشرنا إليها آنفًا:

{ومن يتوكّل على الله فإنَّ الله عزيز حكيم}[8]. والعزّة هي المنعة، وهي تختزن معنى القوّة مع الرفعة. ورد الحديث عنها في قوله تعالى: {الّذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة لله جميعًا}[9]. وطالما أنّ العزّة له سبحانه، فهو يمنحها لمن يشاء، وهو ما وردت الإشارة إلى أنّه يتحرّك في إطار الارتباط به تعالى: {من كان يريد العزّة فللّه العزّة جميعًا}[10]، {ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين}[11].

أمّا الحكمة، فهي بمعنى وضع الأمور في مواضعها العمليّة. وحكمة الله حكمة مطلقة، تتحرَّك وفق علمه المطلق بالخلق، وتقديره للأمور في حركة السّنن التي ترتبط فيها الأسباب بمسبَّباتها، والمقدّمات بالنّتائج.

واستنادًا إلى ذلك، فإنَّ التوكّل على الله لا بدَّ من أن يستند إلى أنَّ الله تعالى هو موقع القوّة الحقيقيّة {أنَّ القوّة لله جميعًا}[12]، والإيمان بذلك شرطٌ أساسٌ لتحقيق التوكّل؛ فلو كان البشر أو تجلّيات القدرة المادّية أقرب إلى نفس الإنسان من الله، أو كان الإنسان متردّدًا في حالة شكٍّ نفسيّ من قدرة الله عزّ وجلّ، فإنّه لن يستطيع أن يسلّم أمره إلى الله، وسيغدو الأمر إليه أقرب إلى إلقاء نفسه في الهواء، حيث لا يرى أرضًا ولا يتعلّق بوسيلة بين يديه. وكلّما انغلق الأفق أمام الإنسان، وكلّما افتقد الإنسان العناصر المادّية، وكلّما قلّ وثوقه بما يحيط به من ظروف وأوضاع، كان التوكّل في حاجة إلى إيمانٍ أعمق بالله تعالى. ومن هنا، يبدو المعدن الأصيل لإيمان الإنسان كلّما علت التحدّيات، وكبرت التّضحيات، وتعمّقت الآلام، بما قد يجعل الإنسان أقرب إلى السّقوط في كُفر اليأس[13].

{قل هو ربّي لا إله إلّا هو عليه توكّلت وإليه متاب}[14]. إنّ الذي تطرحه الآية هو عنوان الربّ الذي يوحي بالتّدبير والرعاية والعطف والحنان، وختمت بأنَّ المتاب إلى الله، والرجوع إليه، وبالتالي، فكلّ ما يجري في الحياة هو رهن تدبيره، وهو بعينه الّتي لا تنام، وعلمه الذي لا ينسى، وهذا ما يجعل الإنسان واثقًا من توكّله عليه، راكنًا إلى حُسن تدبيره، وإلى حكمة صنعه وخلقه.

{فإن تولّوا فقلْ حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكَّلْتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم}[15]. العرش في المدلول القرآني هو موقع السلطة، أو قد يكون رمزًا لمكانٍ ما يمثّل مركز الحركة الوجوديّة للكون المخلوق لله تبارك وتعالى، بحيث تكون السيطرة عليه تمثّل الشّيء العظيم، ولعلّ هذا ما يمكن أن يوحي به قوله تعالى: {ويحملُ عرشَ ربِّكَ فوقَهم يومئذٍ ثمانية}[16]. في كلّ الأحوال، لا يهمّنا تتبّع مفهوم العرش هنا، ولا نملك وسائل معرفته التفصيليّة كثيرًا، وما يعنينا منه، هو جانب السّلطة العظيمة المتحكّمة بكلّ مفاصل الكون، وبذلك، فالتوكّل سيكون استنادًا إلى ذلك الإيمان بالواقع الحقيقيّ وراء هذا الكون، وبالسّلطة الحقيقيّة التي لا تتحكَّم بظواهر الأمور بل ببواطنها.

{وتوكّل على الحيّ الّذي لا يموت وسبّح بحمده}[17]. يعطي مفهوم الحياة معنيين: الأوّل هو معنى التفاعل، فعندما يتوكّل الإنسان على الله تعالى، فإنّه يتوكّل على ربٍّ يسمع ويرى، وعلى ربٍّ يعلم الأمور كلّها، في كلّ دقائقها وتفصيلاتها، وفي تجلّياتها وتفاعلاتها القريبة والبعيدة، وهو أقرب إلى العبد {من حبلِ الوريدِ}[18]، وهو القريب الّذي يجيب عبده إذا دعاه[19]. أمّا المعنى الثاني، فيُشير إليه قوله: {الّذي لا يموتُ}، حيث إنَّ الحياة التي لا انقطاع لها، هي التي تمتدُّ نتائج تفاعلها مع العبد في حركة المستقبل، وهذا ما يجعل الإنسان واثقًا بحصول نتائج أيّ جهد يقوم به، وكم من الجهود إنّما أثمرت نتائجها في المستقبل، بحيث لولا الجهد الّذي بذله صاحبه في الماضي، لكان عنصر من هذه العناصر مفقودًا. وفي كثير من الأحيان، فإنَّ الإنسان يرى نتائج جهوده في عمله في الدّنيا، أقلّه أن يرى مؤشّراتها أمامه.

{ربُّ المشرقِ والمغربِ لا إلهَ إلا هو فاتّخذْهُ وكيلًا}[20]. المشرق والمغرب كناية عن الجهات القصوى بالنّسبة إلى موقع الإنسان، بما تشتمل عليه من ظروف وأوضاع تؤثّر في حياة الإنسان، أو كأنّ المشرق هو إشارة إلى مبدأ حركة النور، والمغرب إشارة إلى انتهائها، بما يعطي معنى المبدأ والمعاد، وبالتّالي، فإيمان الإنسان بأنَّ الله تعالى هو ربّ المشرق والمغرب، يتأسّس عليه التوكّل الذي يوحي بالثقة بأنّ ثمّة قوّة تدبير إلهيّ يلجأ إليه الإنسان في كلّ حركته في الحياة، في مبدئها ومعادها.

{فتوكّلْ على الله إنّك على الحقّ المبين}[21]. لعلّ هذه الآية من الآيات المهمّة جدًّا في مسألة التوكّل، وفيها نوعٌ من التعليل الخفيّ، وهو أنَّ السبب الذي ينبغي أن يمنح الإنسان القدرة على التوكّل، هو قناعته أنّه على الحقّ، وهذا يعني أنّ الإنسان في انسجامه مع منظومة القيم، ومع المعايير الضروريّة لحقّانية الموقف والحركة والقول والفعل، يجعله في الموقع الذي يعيش فيه السّلام الدّاخليّ، والطمأنينة الروحيّة إلى ما يتحرّك فيه في كلّ ذلك؛ لأنَّ القلق عادةً ما ينشأ من خلال اضطراب الفعل مع المعايير، والاختلال بين السّلوك والقيم. أمّا ذلك الانسجام إذا تحقَّق، فإنّ الله تعالى يؤكّد أنّه هو الحقّ: {ذلك بأنَّ اللهَ هو الحقُّ}[22]. وعليه، فارتباط سلوك الإنسان بالحقّ، هو نوع من التوكّل على الحقّ، الّذي يشعر الإنسان معه بأنّ تكليفه أو دوره قد انتهى، والباقي على الله تعالى.

ثالثًا: علاقة التوكّل بالحياة

انطلاقًا من كلّ ما تقدّم، نستطيع أن نضيف معنى يتعلّق بوظيفة التوكّل، ولعلّه يرتبط أيضًا بالمفهوم، وهو أنَّ التوكّل يمثّل الشّعور الذي يقتصر فيه همّ الإنسان وتركيزه على عمله وجهده، أي أن يقوم بدوره وتكليفه ووظيفته هو، من دون أن يحمل همًّا لا يستطيع حياله شيئًا:

1- إمّا لأنّه مرتبط بعناصر وظروف لم تتحقّق، وإنّما يُنتظر تحقّقها في المستقبل. هنا المستقبل لا يكون همًّا، بل الحاضر هو همّ الإنسان، أي ما يفعله الإنسان في اللحظة التي يعيش فيها حركة المسؤوليّة في قوله، أو في فعله، أو في موقفه.

2- أو لأنّه يمثّل الهدف الكبير الّذي لا يتوقّف عليه هو، فهنا على الإنسان أن يبذل جهده في مسؤوليّته الفردية، وأن يبذل طاقته في دعوة طاقاتٍ لتنضمّ إليه في حركتها نحو تحقيق الهدف، وهو في الحالتين يشعر بأنّه يقوم بما عليه، وأمّا النّتائج، فهي ليست بيده. ولعلّ هذا ما أشار إليه الله تعالى بقوله: {إنَّما عليك البلاغ وعلينا الحسابُ}[23].

لعلّنا هنا نستطيع أن نشير إلى مفهومي الرؤية (vision)، والمهمّة أو الرسالة (mission) في علم الإدارة، حيث إنَّ الرؤية تمثّل الطموح العالي الذي يسعى الإنسان إليه، ولكنَّه لا يرتبط بحجم المسؤوليّة الفعلية، ففي حركة الدّعوة، يُمكن أن يكون الهدف هو (أن يسود الإيمان كلّ ربوع الأرض)، ولكنّ هذا ممكن التحقيق من الناحية النظرية، ولكنّه غير ممكن من الناحية العملية، وهو يتوقف على شروط وأوضاع ليست بمقدور الإنسان وحده، كما أنّها قد تحتاج إلى تراكم ظروف وعوامل في مدى أزمنة وأحقاب من العمل… لكنّها مع ذلك، تشكّل الحافز الكبير الذي يجعل النّفس تمتلئ بالكثير من الطاقة الإيجابيّة في الحركة نحو الهدف. أمّا عندما يرتبط الأمر بالمسؤوليّة، فيضعها الإنسان وفق أمور محسوبة بدقَّة في عالم الطاقة الفعليّة، والظروف الموضوعيَّة، والإمكانيات الذاتيَّة، والحاجات التي يُطلب توافرها في مدًى زمنيّ منظور، فيضع الإنسان مهمّةً ويضع خطّةً من أجل تحقيقها بواقعيّة، ومع كلّ ذلك، وهو ما يرتبط بموضوعنا، سينشغل الإنسان في كلّ لحظة بالفعل الّذي يصبّ في النهاية في الخطّة، فهو لا ينظر كيف سيحقّق الآن، وفي هذه اللّحظة، كلّ مهمّته على مدى الخمس سنوات المقبلة مثلًا، وإنّما همّه الآن كيف ينجز عمله الّذي قد يكون متابعة معاملة جزئيّة، أو بيع سلعة معيّنة، أو قراءة كتاب محدَّد أو عدد صفحاتٍ منه، أو إعداد كلمة أو محاضرة بعدد محدود من الكلمات، وما إلى ذلك…

لنتصوّر حالة الإنسان هذا! سنجد أنّه يعيش الكثير من الطمأنينة النفسية، وهذا هو الدور الذي يؤدّيه التوكّل؛ إنّه الشعور الدّائم الحاضر بأنَّ الله تعالى يتلقّى من الإنسان عمله جزءًا جزءًا، وينمّيه، ويهيِّئ له الظروف الموضوعية ليكتمل وليتمّ. أمّا عندما يستغرق الإنسان في لحظته التي يكون عليه أن ينجز فيها عملًا ما، بالمشروع النهائي الّذي ينبغي أن يصل إليه، وربما تخطر في باله التعقيدات التي يمكن أن تكتنف ظروفه المستقبليّة، والصعوبات التي قد تواجه خطوات الطريق، فإنّ هذا ما يجعل الإنسان يشعر بثقل المسؤوليّة، وتمتلئ نفسه بالشعور بالهمّ، وبالتالي يسقط تركيزه على ما عليه الآن مسؤوليّة إنجازه.

هذا الأمر هو بابٌ من أبواب الشيطان، حيث نجد أنَّ ما يطلق عليه علم النفس الوسواس القهري، الذي يصيب المتديّنين عادةً في أمور الطهارة والنجاسة والصّلاة والعبادات وما إلى ذلك، ويصيب سائر النّاس في كثير من أمور الصحّة والمرض، والأمن والخطر، والعلاقات الاجتماعيّة، وغير ذلك… كلُّه ينشأ من محاولة الشّيطان إثقال ذهن الإنسان بالكثير من الأفكار التي تمنعه من الإحساس باللّحظة وإنجازها، وتعيقه عن الإحساس بخشوع الركوع، بسبب أنَّ ذهنه مشغولٌ بصحّة القراءة، أو بصحّة وضوئه الذي مضى وانتهى. ولعلّ من اللافت جدًّا أن يرد التوكّل كجزءٍ من الوقاية من سلطان إبليس، كما في قوله تعالى: {إنّه ليس له سلطانٌ على الّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكّلون}[24].. ويؤيّد ذلك ما ورد في الفقه الإسلاميّ من قواعد تمنع الإنسان من الاستغراق بما أنجزه، بحيث يتحوَّل إلى هاجسٍ دائمٍ، كقاعدة صحّة العمل بعد الفراغ منه، أو قاعدة الحكم بالإتيان بالعمل بعد تجاوز محلّه المقرّر له ودخول الإنسان في عملٍ آخر.

في الدائرة الأوسع، وفي عالم الصّراع بين القوى المتنوّعة على مساحة الوطن أو العالم، نجد أنَّ التوكّل على الله هو الّذي يجعل الطمأنينة تنسحب على كلّ مشاعر الإنسان، وإذا بردت نفسُهُ وأعصابُه في غمرة التحدّيات، كان الإنسان أقدرَ على التفكير بعقل بارد، وعلى رصدِ ما يحيط به بدقّة أعلى ممّا لو كان يتحرّك بعقل حامٍ، أو بتوتّر عالٍ.. وفي هذا نلمسُ روح قول الله تعالى: {ومن يتّقِ اللهَ يجعلْ له مخرجًا ويرزقْه من حيثُ لا يحتسب ومن يتوكَّلْ على الله فهو حسبُه إنَّ اللهَ بالغُ أمرِه قد جعلَ الله لكلِّ شيءٍ قدرًا}[25].

يبقى أن نلفت إلى إلى أنَّ الجملة الأخيرة من الآية، عنصرٌ يمكن أن يضاف إلى العناصر السابقة التي ذكرناها آنفًا، وهو العنصر المرتبط بوعي القوانين الّتي تحكم الحياة، وحركة التّغيير في المجتمعات، وعلاقة الأسباب بالنّتائج، وحجم الزمن الذي تحتاجه لتتحقّق، إلى ذلك من الأمور التي بوعيها يكون الإنسان أقدرَ على التوكّل، ولا سيّما في المشاريع الكبرى التي يأخذ الإنسان بها؛ تلك التي تحتاج إلى جهود متضافرة قياسًا بالجهد الفرديّ، وإلى أجيال متعاقبة – ربّما – قياسًا بزمن الفعل الّذي يقوم به الفرد.

والخلاصة، أنَّ التوكّل على الله تعالى ليس حالة استقالة من المسؤوليّة، بل هو آليّة من الآليّات الإيمانيَّة التي يحتاجها الإنسان وهو يخوض غمار الحياة، ويواجه الصّراعات، ويقابل التحدّيات، وهذه الآليَّة هي التي يستطيع من خلالها أن يحقِّق أعلى درجات السّكينة، وأرفع مستويات الطّمأنينة النفسيّة والروحيّة، وتمنع اليأس من أن يزحف إلى نفسه، والشّعور بالفشل من أن يخترق كيانه وعمله؛ والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[1] آل عمران: 159

[2] التوبة: 130.

[3] الأنفال: 62.

[4] النّساء: 170.

[5] هود 123.

[6] الرّعد: 32.

[7] الطّلاق: 3.

[8] الأنفال: 50.

[9] النساء: 139.

[10] فاطر: 10.

[11] المنافقون: 8.

[12] البقرة: 165.

[13] مصداقًا لقول الله تعالى: {إنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف : 87].

[14] الرّعد: 32.

[15] التوبة: 130.

[16] الحاقّة: 17.

[17] الفرقان 58.

[18] سورة ق: 16.

[19] {وإذا سألك عبادي عني فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون} [البقرة: 186].

[20] المزمل: 9.

[21] النمل: 79.

[22] الحج: 62.

[23] الرعد: 40.

[24] سورة النحل: 99.

[25] الطلاق: 2-3