السيد د. جعفر فضل الله

حدّدت الآية الكريمة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[1] الوظائف الأساسيّة للرّسول، وهي تعليم النظريّات والمفاهيم الإسلاميّة (الكتاب)، والتّدريب على تطبيقها تبعًا للأوضاع والظروف الواقعيّة (الحكمة)، والتزكية.

ما سنقف عنده في هذه المقالة هو هذه الأخيرة، أعني التزكية، محاولين أن نبيّن أهمّيتها ومركزيّتها في بناء شخصيَّة الإنسان المؤمن، وفي انعكاسها على مجمل نشاطه، حتّى في ما له علاقة بالأمرين الآخرين، أعني معرفة الكتاب والحكمة.

ارتبطت التزكية – في اللّغة – بعدّة معانٍ، هي النّماء والطِّيبُ والصّلاح والتّطهير وصفوة الشّيء[2]، ومن النّاحية العمليّة، تتمظهر التزكية في المحافظة على النّفس خالصةً من الشّوائب الّتي يمكن أن تعلق بها نتيجة تفاعلها مع الحياة، ذلك أنَّ الإنسان عندما يحيا حياته، ويحتكّ بأوضاعها، ويتفاعل مع علاقاتها، وينفعل بمؤثّراتها، ومنها مؤثّراته الداخليّة من مشاعر وغرائز، فإنّ صفحة نفسه هي المحلّ لذلك كلّه، وآثار ذلك الإيجابيّة أو السلبيّة تبدو كذلك عليها.

وقد يمكن لنا القول هنا إنَّ الله – تعالى – قد خلق الإنسان على فطرته، وبالتَّالي يمكن أن نعتبر أنَّ محور التّزكية هو هذه الفطرة بهدف المحافظة على صفائها ممّا يمكن أن يعلق بها في مسيرة الحياة. لكن ليس معنى ذلك أنَّ هذه الفطرة في بساطتها الأولى هي الّتي تمثِّل كمال الإنسان، بحيث يكون كمال الفطرة هو عندما يستهلّ الإنسان وليدًا، فقد نستفيد هنا من قول الله – تعالى -: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[3]، أنَّ كمال الإنسان إنّما هو بتحقيقه قيمة الشّكر في مسيرة حياته، بحيث تكون حياته هي الّتي تحقّق هذا التكامل في وجوده الإنساني الحقيقي، وهو شكر المنعم معرفةً ووجدانًا وعملًا. إنَّ التزكية هنا هي عمليّة إحيائيّة مستمرّة استمرار حياة الإنسان، وهي لا تنتهي إلا مع آخر رمقٍ للإنسان في هذه الدّنيا، وربّما يكون هذا هو المعنيّ بقوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[4].

وبالعودة إلى موضوعنا، يمكن أن نستخلص من ذلك كلّه، أنّ التزكية عبارة عن عمليّة ترسيخ الملكات والآثار الإيجابيَّة، وتخليص النّفس من الآثار السلبيّة، وأن تتحوّل إلى ملكاتٍ تنطق النفس بها نبضًا وسلوكًا. ولعلَّ الغاية القصوى من التزكية حينئذٍ، هو إبقاء حقل التواصل مع الله فعّالًا، وهذا الحقل قوامه النّفس الزكيّة، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}[5]، وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى}[6]، ويؤيّد هذا المعنى ما ورد في دعاء السّحر المرويّ عن الإمام عليّ بن الحسين(ع): “وأنّك لا تحتجب عن خلقك إلّا أن تحجبهم الأعمال دونَك”[7].

دور العبادة في التّزكية

من خلال ما تقدَّم، نستطيع أن نفهم الدَّور الّذي تلعبه منظومة العبادة في الإسلام، سواء كانت العبادة بمعناها المصطلح، أي تلك الّتي تضمّ مجموعةً من الممارسات الطقسيَّة العباديَّة، كالصَّلاة والصّوم والحجّ وغيرها، أو العبادة بمعناها الأعمّ، بما يشمل كلّ حالة تتوجّه فيها النّفس إلى الله – تعالى – في عمليّة تجسيدٍ لمعنى العبوديّة المطلقة تجاه الربوبيّة المطلقة له – جلَّ وعلا -.

عندما يقول الله: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ}[8]، فقد نستفيد هنا أنَّ الآثار الإيجابيَّة (الحسنات)، النَّاشئة من استثمار الصَّلاة كعبادة لله، مهمَّتها أن تمحو الآثار السلبيَّة (السيّئات) الّتي علقت بنفس الإنسان في الوقت المتخلِّل بين الصَّلاة السابقة والصَّلاة الحاليَّة، وبذلك، تمثّل الصَّلاة محطّةً للتَّطهير أو للتّزكية من كلّ السيّئات الّتي ثبتت آثارُها عبر الاحتكاك بموجبات العداوة أو البغضاء أو الحسد أو بسبب الغضب أو ثورة الغريزة أو شهوة المال أو الجاه أو الاستكبار أو ما إلى ذلك، ولعلّه إلى ذلك يشير ما روي عن رسول الله (ص) في تشبيه الصّلاة بعين ماء على باب الإنسان، يغتسل منها خمس مرّات في اليوم، فلا يبقي ذلك على جسمه شيئًا من الدَّرَن[9]. وبهذا، يكون تجسيد البُعد الحقيقيّ للصّلاة التي عناها الله – تعالى – بقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}[10]، والحديث القائل: “من لم تنهه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلّا بُعدًا”[11]، أو “رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوع والعطش، وربَّ قائمٍ حظُّه من قيامه السهر”[12].

وهكذا سائر العبادات الّتي تمثِّل الطّريق إلى تحقيق غاياتٍ قصوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[13]، فكانت التّقوى هي الأثر الكبير الّذي ينبغي للصّوم أن يحقّقه، وإلّا لم يفد الصَّوم في إذابة تلك الشّحوم الشيطانيَّة الّتي قد تسبِّب للإنسان كلَّ الأمراض المعنويّة والروحيَّة.

وبهذا نفهم أنَّ دور العبادات في بناء الشخصيّة الإسلاميّة دور محوريّ، وليس سلوكًا هامشيًّا يطبّقه الإنسان كطقسٍ جامدٍ، أو كواحدٍ من سلوكيَّات الإنسان المجرّدة الّتي يحصل من خلالها على أجرها الكامل بمجرّد أدائها بطريقة آليّة. الأدلّة التي سقناها آنفًا، وغيرها، دليلٌ على عكس ذلك.

دور الأخلاق في التّزكية

وكما العبادة كذلك الأخلاق، والّذي يراجع التّوجيهات الإسلاميّة للأخلاق، ويدرس أهدافها العميقة، يستطيع أن يصل إلى قناعةٍ بأنَّ فلسفة الأخلاق الإسلاميّة تقوم على تصريف كلّ السلبيّات إلى خارج النّفس، وبذلك تعود فائدة الأخلاق على الذّات أوّلًا قبل أن تكون أخلاقًا تبادليّة مع الآخر، وهي بذلك تؤدِّي وظيفة التزكية أيضًا، ولعلّه إلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ}[14].

إنَّ تركيز الإسلام على العفو والإحسان والعطاء وتأكيد التّواصل الدّائم وعدم قطيعة الرّحم، إضافةً إلى محاولة السّيطرة على مفاعيل الغضب والحسد والبغض، وغير ذلك، يؤكِّد أنَّ الإسلام لا يريد لشيءٍ من ذلك أن يعشِّش في داخل نفس الإنسان؛ لأنَّ ذلك يفقد النَّفس أصالتها وصفاءها؛ بل يجعلها غير قادرةٍ على التَّواصل الشفَّاف مع الخالق – عزَّ وجلَّ -، ولهذا كانت مكارم الأخلاق هي المبادرة إلى السّلوك الأخلاقيّ بمعزلٍ عن طبيعة السلبيَّة التي يواجِهُ بها الآخر، فقد ورد عن رسول الله (ص) أنَّ مكارم الأخلاق أن “تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك”[15]، وبهذا يمتنع الإنسان أن يبقي ملفّاتٍ سلبيّةً في أفق ذهنه، بل هو في حالة إغلاقٍ دائمٍ لأيِّ ملفٍّ يفتح ويمكن أن يشكِّل في سلبيَّته خللًا في عمل النّفس وتوازنها وتواصلها مع الله – تعالى-. وعلى سبيل المثال، ورد عن رسول الله (ص): “إنَّ في التباغض الحالقة، لا أعني حالقة الشّعر، ولكن حالقة الدِّين”[16].

انعكاسات التّزكية

في أكثر من موقفٍ، تبرز تزكية النَّفس كعاملٍ أساسٍ في استدعاء التّسديد الإلهيّ، فها هم الملائكة ينزلهم الله في بدرٍ عندما “استغاث المسلمون بالله تعالى”، في حالةٍ من الانقطاع إلى الله عن كلِّ الأسباب المادّية المعدومة للنّصر، وكان النّصرُ من عند الله.

وإذا تحقَّق للإنسان أن يزكّي نفسه من كلِّ نوازع الشرّ والهوى، فإنَّ ذلك سينعكس على سلامة الأهداف الّتي يتحرّك نحوها؛ لأنّه سيعمل على استبعاد أيِّ عنصرٍ من العناصر الّتي تغلّب الهوى أو حبّ الدُّنيا، في مالها وجاهها وسلطانها وما إلى ذلك. وإذا كان الهدف سليمًا، كان محلًّا للتّسديد الإلهيّ؛ لأنّ سلامة الهدف تعني أنّه مرضيٌّ لله، ومحقِّق لإرادته. وقد رأينا كيف أنَّ انحراف الهدف أدَّى إلى فقدان عامل التَّسديد، وبالتَّالي، تحوَّل النَّصر إلى هزيمة، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ…}[17]؛ هذا كان في وقعةٍ أُحُدٍ، عندما تحوَّل نصر المسلمين إلى هزيمةٍ بسبب ثلّةٍ ممّن استزلّهم الشّيطان نحو الدّنيا والمصالح المادّية. وهذا الأمر نفسه تكرَّر في حُنَيْنٍ، عندما أعجب المسلمون بكثرتهم، وتراخوا عن دراسة الواقع وتحريك عناصر القوَّة فيه، فتشتّتوا، لولا أن تداركتهم رحمة الله حمايةً للمسيرة عند تعرّضها للخطر.

انطلاقًا من ذلك، قد نجد أنَّ هناك علاقة مطَّردة بين التحدّيات الّتي يواجهها الإنسان في حياته، وبين البرنامج الرّوحي والعبادي الذي ينبغي أن يتسلَّح به؛ فكلّما زادت الأعباء والضّغوط النفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة على صاحب الموقع مثلًا، فلا بدَّ من أن تزيد نوعيّة العبادة – بمضمونها العامّ -؛ لأنَّ من شأن هذه الضّغوط أن تسحق إرادة الإنسان أمامَها إذا ما كانت أدوات المواجهة ضعيفة، وهذه سنَّة من سنن الحياة.

وقد نلمح هذا المعنى من خلال ما هو معروف، أنَّ من مختصّات النبيِّ (ص) وجوب صلاة اللّيل عليه دون سائر المؤمنين، ولكنَّنا قد لا نفهم ذلك سوى للعلاقة بين موقع النبوّة وتحدّياتها، وبين أسلحة المواجهة الّتي تسيطر فيها النَّفس على كلِّ أوضاعها القلقة أو المنجذبة، فيكون ثمّة تكافؤٌ في أدوات المعركة والصِّراع. هذا التَّناسب يكون واضحًا جدًّا في الآيات القرآنيَّة التي أشارت إلى صلاة اللّيل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً}[18]؛ كما أنَّ الآية الأخيرة من سورة المزّمّل تشير إلى أنَّ طائفةً من المؤمنين كانوا يقومون مع النبيِّ (ص) اللّيل، فقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ…}[19]، وإن لم يكن ذلك على نحو الوجوب عليهم.

وربّما لأجل ذلك تفاوتت قوَّة المقاومة للضّغوطات لدى بعض المؤمنين، مع رسول الله (ص) أو بعده، قياسًا بالبعض الآخر، حيث وجدنا كيف كان لمستوى قوَّة الإيمان، والمستندة إلى كلِّ أدواته العباديّة والروحيّة، دورٌ أساسٌ في تحديد طبيعة الموقف أمام التحدّي؛ فكان البعضُ هو الَّذي يثبت في الهزاهز والشَّدائد، والبعضُ الآخر يفرّ منها، كما لمسنا ذلك في وقعة أُحُد والأحزاب وحنين، وكان بعضُهم يضعف أمام قوَّة المشركين أو أمام إغراءات المال أو السلطة أو النّساء أو الولَد أو ما إلى ذلك، في مقابل الّذين يتحدّون كلّ نوازع النّفس، فيسطّرون بذلك أروع قصص الإخلاص لله والثّبات على سبيله.

ويبقى أن نؤكِّد نقطة جوهريّة، وهي أنّه لا يمكن الفصل بين البُعد العباديّ والرّوحيّ بين البُعد الفكريّ؛ لأنَّ الفكر هو الذي يمثّل قاعدة الحركة، والمستند الّذي تنبثق منه أهداف الإنسان في الحياة، والعبادة إنّما تقوم بعمليّة تثبيت تلك القاعدة والمستند، ولذلك ورد في الحديث: “ركعةٌ من عالِمٍ بالله، خيرٌ من ألف ركعةٍ من متجاهلٍ بالله”[20]؛ وكم وجدنا في التّاريخ، وفي الحاضر أيضًا، من أصحاب الثّفنات من كثرة السّجود، الّذين يقومون الليل ويصومون النّهار، ولا يتركون عملًا مستحبًّا إلا ويفعلونه كالواجب تمامًا، ويجتنبون كثيرًا من ملذَّات الدُّنيا تحت عنوان الزّهد، وجدنا هؤلاء ينزلقون إلى أكبر المعاصي، حيث يفقدون القاعدة الفكريّة الصَّلبة التي يدركون فيها خطوط الواقع، وحركة المؤامرات، بحيث إنّه ليس أسهلَ على أيِّ جهاز مخابراتٍ من أن يدفع جاهلًا متنسّكًا ليقتل النّفس الحرام، ويهتك العرض الحرام، وينهب المال الحرام، باسم العبادة والتّوحيد! هذا ما تناقلته روايات التّاريخ، وعايشناه عيانًا في مفردات الحاضر!

ومن هنا، قد نفهم الارتباط بين العقيدة والشّريعة والعبادة في شخصيّة الإنسان المسلم، والعقيدة هنا لا تقتصر على أصول الدّين فحسب، وإنّما تشمل كلَّ المفاهيم الضروريّة لمعرفة الخطّ والوجهة والهدف في كلِّ مفردات حياة الإنسان؛ فالذي يفهم الحياة أكثر، هو الّذي يشعر بأهمّية التزامه بدينه أكثر، والّذي ازداد علمًا ومعرفةً بأسرار الخلق في الكون والإنسان، هو الأقدر على تحسّس عظمة الخالق عزَّ وجلَّ، والّذي يعرف كيف يطبّق النظريّات والمفاهيم في مواقعها بدقّة، هو الأكثر انسجامًا مع إرادة الله تعالى في حركته الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الاقتصاديّة وما إلى ذلك، وقد قال تعالى: {إنّما يخشى اللهَ من عبادِهِ العلماءُ}[21].

في مقابل ذلك، قد نلاحظ أنَّ العلاقة منعكسة بين العبادة والمواقع الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وغيرها في واقع الحياة؛ فتجد الإنسان يرتاد المساجد، ويحرص على أداء عبادته في أوقاتها، ويتنفَّل بالصّلاة والدُّعاء والذّكر، فإذا أقبلت الدّنيا عليه، وظهرت عليه نعم الحياة، وزادت حساباتُه المصرفيّة، وراجت تجارته في الأسواق، فقدتَه من المساجد إلّا في المناسبات الاجتماعيّة، وأصبح يسرق الوقت للصّلاة حتّى لا تفوته بخروج وقتها، هذا إذا لم ينسِهِ المالُ بعض صلواته في غمرة مفاوضاتٍ تجاريّة أو استغراقٍ في حركة المال!

وكثيرة هي نماذج الّذين تبوّأوا المناصب السياسيّة، فأصبحوا وزراء أو نوّابًا أو رؤساء، فإذا بحضور المساجد لديهم يتحوَّل إلى نوعٍ من مقتضيات العلاقات الاجتماعيّة، والإطلالة الموسميّة على الناس، ولا سيَّما في أيّام الانتخابات، وباتوا يقتصرون على الواجبات في أدنى مستوياتها، معلِّلين ذلك بكثرة المسؤوليَّات التي هي أيضًا عبادة! هذا فضلًا عن تساهلهم في الحلال والحرام في المواقف التي يقفونها أمام هذه القوّة أو هذا الضّغط السياسي أو تلك التوازنات الفئويّة أو الصفقات الماليّة الكبرى أو قضايا العدالة والفساد وما إلى ذلك، بحجّة الواقعيّة أحيانًا، وذلك كلّه نتيجة فقدان معايير التّطبيق، أو ضبابيّة النظريّة في أذهانهم من أساسها، بسبب قلّة احتكاكهم بالأبعاد الفكريّة للعمل السياسي.

حتّى إنّنا قد نجد في المجال الدّيني من يقع في مثل هذه المنزلقات، فإذا لم يكن رجل الدّين إمامَ مسجدٍ أو جماعَةٍ، فإنّه لا يتقبّل أن يصلّي مأمومًا؛ لأنَّ قد يرى موقعه الدّيني أكبر من ذلك! أو لا يحرص على برنامجه العباديّ والرّوحيّ بالنّحو الذي يوجّه فيه النّاسَ إليه! وهذا ما يفسِّر في كثيرٍ من الأحيان كيف يكون الإنسان العاديّ أكثر تقوًى والتزامًا من بعض من يعظونه ويعرّفونه كيف يقترب من الله سبحانه!

هذه بعض التأمّلات في وظيفة البرنامج العبادي والروحي، وعلاقته بحركة الإنسان وطبيعة المواقع التي يحصل عليها، والتحدّيات الّتي يواجهها بسبب ذلك، ونسأله تعالى أن يعصمنا من الزّلل، ويوفّقنا للأخذ بأسباب الرّشاد؛ إنّه أرحم الرّاحمين.

[1] سورة الجمعة، الآية 2.

[2] انظر: ابن منظور، لسان العرب، ج14، ص358 (مادّة زكا).

[3] سورة النحل، الآية 78.

[4] سورة الأنفال، الآية 24.

[5] سورة الشمس، الآيتان 9-10.

[6] سورة الأعلى، الآية 14.

[7] الشيخ الطوسي، مصباح المتهجّد، ص583.

[8] سورة هود، الآية 114.

[9] انظر: محمد الريشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص1629.

[10] سورة العنكبوت، الآية 45.

[11] الريشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص1628.

[12] م. ن.، ج2، ص1686.

[13] سورة البقرة، الآية 183.

[14] سورة فاطر، الآية 18.

[15] الريشهري، م. ن.، ج1، ص 800.

[16] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص346.

[17] سورة آل عمران، الآية 154.

[18] سورة المزمّل، الآيات 5-7.

[19] سورة المزمّل، الآية 20.

[20] المتّقي الهندي، كنز العمّال، ج10، ص154.

[21] سورة فاطر، الآية 28.