السيد د. جعفر فضل الله

ورد في الحديث[1] عن رسول الله(ص): “من تعصَّبَ أو تُعُصِّب له، فقد خلعَ ربقَ الإيمان من عنقه”. وعنه(ص): “من كان في قلبه حبّة من خردلٍ من عصبيَّة، بعثه الله يومَ القيامة مع أعراب الجاهليَّة”. ولعلَّ في ذلك إشارةً إلى الآية الكريمة: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}[2]؛ وسنقفُ في ما يأتي من سطورٍ عند المعنى العميق لهذه الآية. وعن رسول الله(ص): “ليس منَّا من دعا إلى عصبيَّة، وليس منّا من قاتل على عصبيَّة، وليس منّا من مات على عصبيّة”.

واضحٌ من خلال هذه الأحاديث، أنَّ العصبيَّة تلعبُ دورًا سلبيًّا هامًّا في قضيّة الإيمان والمصير على حدٍّ سواء، ولذلك لا يمكن أن تجتمع العصبيّة مع الإيمان، ومجتمع المتعصِّب هو المجتمع الجاهليّ الّذي يقف من مجتمع المؤمنين على طرفَي نقيض.

وحتّى نفهم الخلفيَّة التي تقف وراء هذا التوجيه، نحتاج إلى التدبّر في معنى العصبيّة أوّلًا، وفي معنى الإيمان ثانيًا.

جاء في قاموس لسان العرب، أنَّ “العصبيّة أن يدعو الرجل إلى نصرة عصَبَته، والتألّب معهم على من يناويهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، وقد تعصَّبوا عليهم إذا تجمَّعوا، فإذا تجمّعوا على فريقٍ آخر قيل: تعصَّبوا… العصبيَّةُ والتعصُّبُ: المحاماة والمدافعة”[3]

وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص) – لمّا سئل عن العصبيَّة -: “أن تعين قومك على الظُّلم”. ومن الواضح أنَّ هذا التفسير منه(ص) تفسيرٌ بالنّتيجة العمليَّة، وما يهمّنا هو تفسيرها كحالةٍ تعتري الإنسان ويلتفت إلى وجودها، ليتمكّن من التحكّم بها. وقد نستطيع أن نجمع مفردات المفهوم ممّا يلي:

أـ العصبيّة – في أصلها – شعورٌ نفسيّ يختزن حرارةً تدفع الإنسان للتحرّك وفقه، يُقال: “فلانٌ ذو حميَّةٍ منكَرة، إذا كان ذا عضبٍ وأنفةٍ… وإنّه لرجلٌ حميٌّ: لا يحتمل الضّيم، وحميُّ الأنفِ. وفي حديثِ معقل بن يسار: “فحميَ من ذلك أنفًا، أي أخذته الحميَّة، وهي الأنفة والغيرة”[4]، وهذا الشّعور إذا تعلّق بأمرٍ سلبيٍّ كان سلبيًّا، وقد وردت في الكتاب العزيز مضافةً إلى الجاهليَّة، ليكون الذّمّ لا لأصل الحميَّة، وإنّما لكونها حميّةً جاهليّة.

إنَّ العصبيَّة كشعورٍ أمرٌ محمودٌ، وقد فطر الله النّاس عليها ليملكوا الدافع الذي يدفعهم نحو الفعل أو الترك، وهو أمرٌ تحتاجه الحياة الإنسانيّة، ولولاه، لأصيبت حركة الإنسان بالبرودة والتردّد، ولكنَّها قد تتحوَّل إلى حالةٍ سلبيّةٍ عندما تتعلّق بأمر سلبيّ، وتنفلت من عقال القيم، ولذلك ورد عن رسول الله(ص) المدح لها في قوله: “خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم”.

ب ـ استنادًا إلى ذلك التّقسيم، يُصبح لعصبيَّة الجاهليَّة مضمونٌ قيميّ، باعتبار أنَّ الجاهليّة نفسها تشير إلى منهج حياة، والّتي منها ما شاع من مقولة: “انصر أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا”، أي أنَّ القرابة النّسبيَّة تصبح هي القيمة المقدَّمة على قيمة العدل وعدم الظّلم، وبذلك يتحوَّل النَّسبُ إلى قيمةٍ عليا، وتفرَّغ القيم العليا، كالحقّ والعدل والإحسان وما إلى ذلك، من مضمونها؛ وبالتّالي يفقد الإنسان أيّ معايير موضوعيَّة يقيس بها الأشياء ويعطيها قيمها من خلالها. وبهذا نفهم أنَّ حديث رسول الله(ص) أنّها إعانة الإنسان قومَه على الظّلم، باعتبار أنَّ الانتماء إلى الجماعة هو الذي يحدِّد وجهة الفعل وردّ الفعل، وليس الحقّ والباطل، أو العدل والظّلم، وما إلى ذلك.

ج ـ يظهر من ذلك أنَّ العصبيّة تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون حسنًا، ومنها ما يكون قبيحًا سيّئًا، وهذا ما يوضحه حديثٌ للإمام عليّ بن الحسين(ع) – في تعريف العصبيّة -: “العصبيّة التي يأثم عليها صاحبُها، أن يرى الرجل شرار قومه خيرًا من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبَّ الرّجل قومَه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظّلم”؛ حيث لم يكن مجرّد الانتماء إلى أيّ إطار عصبيّة تستوجب الإثم، وإنّما العصبيَّة التي تفرّغ الإطار من القيم الحاكمة، فيُصبح الشرّير الذي ينتمي إلى جماعتي أفضل من الخيِّر الذي ينتمي إلى الجماعة الأخرى، فقط لأنَّ الأوّل يشاركني الانتماء، والثّاني لا يشاركنيه، فليست المسألة مسألة خيرٍ وشرٍّ، بل مسألة إطار وانتماء.

د ـ بهذا المعنى، قد نصل إلى شرحٍ عمليٍّ لمفهوم العصبيَّة، وهي الحالة النفسيّة التي تقدّس الانتماء بعيدًا عن القيم المتضمّنة فيه؛ الأمر الّذي يدفع الإنسان نحو القيام بما يعزّزه، والدّفاع عمَّا يهدّده، من دون اعتبارٍ لموقع الحقّ من كلّ ذلك.

وللوقوف أكثر عند هذه النّقطة، لنتأمّل في مسألة الحاجة إلى الانتماء؛ إذ قد نجد أنَّ الانتماء حالةٌ فطريّة يسعى الإنسان إليها طلبًا للأمن أو للقوَّة، عبر التكتّل ضمن جماعةٍ ما، وقد يكون ذلك لتحقيق أهدافٍ كبرى، وغاياتٍ عليا لا يمكن للإنسان بمفرده أن يحقِّقها، وهذا ما تمظهر في نشوء الأحزاب والحركات والجمعيَّات وما إلى ذلك.

إذًا، وظيفة هذه التجمّعات أو الأطر هي مدّ الإنسان بالقيم التي يلتزم بها ويسعى لترسيخها وتحقيقها في نفسه وفي المجتمع، فالمبرّر الّذي يدفع الانسان للانتماء، هو القيم بالدّرجة الأولى، ولذلك يختار الانتماء إلى هذا الحزب مثلًا، ويرفض الانتماء إلى ذاك، ليس إلّا لأنّه وجد الأوَّل منسجمًا مع مبادئه، والثّاني مخالفًا لها.

وعلى أساس ذلك، يكتسب الانتماء والانخراط في جماعة قيمةً مضافةً لحركة المبادئ وتجسيدها في حياة الإنسان الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، ولكنَّ المشكلة تبدأ عندما يتحوَّل الإطار إلى قيمةٍ بذاته، ويصبح الإنسان منشدًّا إليه بعيدًا عن القيم، وبذلك يتحوَّل إطار الانتماء إلى حالةٍ لا يمكن أن تتقاطع مع أيِّ إطارٍ آخر؛ لأنّه ليس هناك مشتركات بين عناوين الأطر.

ويمكن أن نمثّل لذلك ببعض مسائل الرياضيّات، حيث إنّ الدوائر تتقاطع بملاحظة العناصر المتضمَّنة لكلٍّ منها، فإذا كان ثمّة عنصر مشترك على الأقلّ بين الدّائرة (أ) والدّائرة (ب)، فيصبح هذا المشترك نقطة التقاء الدّائرتين، فإذا فرغت الدّائرتان من عناصرهما، فإنّنا لن نجد أيّ تقاطع بينهما، ويصبح اسم كلّ دائرة كافيًا لإيجاد تباين تامّ بينهما.

وهكذا في التّجربة الحزبيّة على سبيل المثال، فإنّنا إذا لاحظنا الحزب من دون عناصره القيميّة، فإنَّ التعصّب سيمنع الإنسان من أيِّ حالة لقاءٍ مع الآخر، فقط لأنّه منتمٍ إلى إطار آخر، حتّى لو اشترك معه في الكثير من القيم؛ لأنَّ التعصّب يجعل القيمة كعدمها، ويعطِّل أولويَّتها في نظر الإنسان المنتمي. وبذلك تحوّل العصبيّة العلاقة بين الأطر الاجتماعيّة والسياسيّة إلى حالة تبايُنٍ وتصادُم وصراعٍ خالٍ من أيِّ أرضٍ مشتركة، وهذا يؤسِّس لسياسة “إمَّا معنا وإمَّا ضدّنا”، فإذا لم يتنازل الآخر عن انتمائه وينخرط معنا، فهو ضدّنا، وحكمه الإلغاء التامّ، تكفيرًا أو تضليلًا أو نفيًا أو قتلًا وما إلى ذلك.

ولعلّنا نشير هنا إلى ما ورد عن الإمام عليّ(ع) في وصفه لإبليس بأنّه “إمام المتعصّبين”، فقال: “فافتخر على آدم بخلقه، وتعصَّبَ عليه بأصله، فعدوّ الله إمام المتعصّبين، وسلف المستكبرين، الّذي وضع أساس العصبيَّة، ونازع الله رداء الجبريَّة، وادَّرع لباس التعزّز، وخلع قناع التذلّل”، ويقول في كلام آخر: “اعترتْه الحميَّة، وغلبت عليه الشقوة، وتعزّز بخلقة النّار، واستوهن خلق الصلصال”؛ وبذلك فقد إبليس، نتيجة تعصّبه، أيَّ شعورٍ بحضور الله تعالى الّذي هو منبع القيم وأصلها، فاختصر آدمَ(ع) بطينيّته، واختصر نفسه بناريّته، ورأى أنَّ طبيعة النار أقوى من طبيعة الطّين، وهذا ما أعماه عن أن يلتفت إلى الخصائص الّتي أودعها الله في آدمَ، والخصائص الّتي أودعها في داخله في كونه من الجنّ، بحيث تشكّل الخصائص نقاط التقاءٍ مشترك لكي يتعاونا في تحقيق إرادة الله تعالى، كما تعاون الملائكة مع آدم فيما يوحي به معنى سجودهم له، وفيما يوحي به رفض إبليس السّجود له.

وفي كلامٍ رائعٍ للإمام عليّ(ع)، يتناول فيه العلَّة التي تدفع الإنسان نحو التعصّب، يقول: “ولقد نظرتُ فما وجدتُ أحدًا من العالمين يتعصَّبُ لشيء من الأشياء، إلّا عن علّةٍ تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجّةٍ تليط بعقول السفهاء، غيركم؛ فإنّكم تتعصَّبون لأمرٍ ما يُعرَف له سبب ولا علّة. أمّا إبليس، فتعصَّبَ على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناريٌّ وأنت طينيٌّ، وأمّا الأغنياء من مترفة الأمم، فتعصّبوا لآثار مواقع النِّعم، فقالوا: نحن أكثر أموالًا وأولادًا وما نحن بمعذَّبين؛ فإن كان لا بدَّ من العصبيّة، فليكن تعصُّبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء النّجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرّغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة. فتعصَّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذّمام، والطاعة للبرّ، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكفّ عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض”. وبذلك، فإنَّ الإمام (ع) يربط العصبيَّة بالقيم، لتتحوَّل من عصبيّة جاهليّة لا ترتكز إلى قيمة، وإنّما تتحرّك وفق المصالح والأهواء والغرائز والشّهوات، إلى حميّةٍ محمودة، تبعث على الغيرة على مواقع الحقّ والخير والعدل في المجتمع، وبذلك تتحوَّل إلى شعورٍ جارفٍ يأبى الباطل، ويجانب الشّرّ، ويكره الظّلم، ممّا يكون فيه صلاح الحياة لا فسادها، وعمارة الأوطان لا خرابها.

من خلال ما تقدَّم، نستطيع أن نخلص إلى أنَّ العصبيَّة مانعٌ شعوريّ جارفٌ من الأخذ بالحقِّ حيثما وجد، والإنسان أسرعُ استجابةً لغرائزه التي يوطّن نفسه عليها، قياسًا بمعايير العقل والمنطق والحكمة. وهنا يدخل التَّوحيد، ودخول الإيمان به في القلب، لكي يتحوَّل إلى عاملٍ حيويٍّ وحيدٍ، يعمل في اتّجاه ترسيخ حضور القيم في نفس الإنسان المؤمن، ويمنع من تحويل أيّ إطارٍ إلى قيمةٍ بعيدًا عن تلك القيمة، بحيث يتحوَّل الإطار إلى ما يُشبه الصّنم الذي لا يمتّ إلى الله بصلة، كما قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ}[5].

ولو تأمَّلنا في ما تقع فيه أمّتنا من الفتن المذهبيّة والطائفيّة، وضغط حركات التكفير والقتل والتّشريد، لوجدنا أنَّ العصبيَّة عاملٌ أساس فيها؛ لأنّنا عندما نفرّغ المذهب أو الطائفة من القيم، ونجعل من عنوان المذهب أو الطّائفة، هو كلّ القيمة، فلن يجد المسلم السنّيّ مشتركاتٍ بينه وبين المسلم الشّيعيّ، ولن يكون الإسلام هو الهدف الكبير الّذي يسعيان إليه في انتهاج هذا المذهب أو ذاك، وستتحوَّل الأديان حينئذٍ إلى دوائر صراع، ولن يعنينا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[6]؛ لأنّه ليس من كلمةٍ سواء أصلًا في منطق العصبيّة.

وإذا أردنا نتائج أخرى، فحريٌّ بنا أن نعيد النَّظر في طريقة تربيتنا على انتماءاتنا؛ فهل نربّي أجيالنا على حبِّ الله وتوحيده، وأن ترتبط بأيِّ إطارٍ بمقدار ما يغذِّي قلوبها بحبّ الله، وسلوكها في مسار توحيد الله، فإذا فقد الإطار هذا المسار فقد شرعيّته، وتحوّل إلى صنمٍ نعبده من دون الله! والله تعالى يقول: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[7]؛ والله من وراء القصد.


[1] انظر: الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، ج3، ص1992-1994.

[2] سورة الفتح، الآية 26.

[3] ابن منظور، لسان العرب، ج1، ص606.

[4] م. ن.، ج14، ص199.

[5] سورة النجم، الآية 23.

[6] سورة آل عمران، الآية 64.

[7] سورة الرعد، الآية 11.