السيد د. جعفر فضل الله
بسم الله الرحمن الرحيم
وسلامٌ على عباده المصطفيْن الأخيار
في البداية أشكر المنظّمين لهذا المؤتمر على الدعوة لتقديم ورقة فيه بعنوان:
الغرب والشرق والمنطقة في الإطار اللبناني[1]
العنوان أعلاه مصاغٌ بطريقة ترتبط بجغرافيّة العلاقة بين الإطار اللبناني وثلاثِ دوائر؛ هي الغرب والشرق والمنطقة. ومن الواضح أنّه لا تعنينا هنا الجغرافيا المجرّدة، وإنّما تعنينا من حيث هي عنوان لتجربة بشريّة مرتبطة بمجالات متعددة، ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية وأمنية وما إلى ذلك، الأمر الذي يجعلنا من البداية أمام عنوان مركب وليس بسيطًا كما توحي مفرداته.
سوف نتوقف في فضاء هذا العنوان حول المنهج بالتركيز على محطتين:
المحطة الأولى، مرتكزات نظرية وواقعيّة لا بدّ من البناء عليها في مقاربتنا هذه.
المحطة الثانية، هي عبارة عن أفكارٍ تأمّليّة يمكن أن تتمّ مناقشتها وتطويرها؛ إذ لا تدّعي أنّها ناجزة بشكل نهائي.
المحطّة الأولى: مرتكزات نظريّة وواقعيّة:
في ما يرجع إلى النقطة الأولى، يمكن أن نذكر هنا أربعة مرتكزات:
- ليس هناك من علاقاتٍ حقيقية متوازنة في البلد من دون الانطلاق من وطن يشكل ذاتاً مكتملة ولو نسبياً، تشكّل وحدةً حتّى وإن كانت متنوّعة من داخلها.
- لا شكّ في أنّ بلدنا هذا متنوّع في داخله بشكل كبيرٍ قياسًا بحجمه، وعندما نريد الحديث عن بناء للذات المكتملة، فلا بدّ من انخراط الجميع المتنوّع في عمليّة واعيةٍ تنطلق من خصوصيّات الداخل، في تحديدها لهويّتها وبناها ومن ثمّ مصالحها، وذلك قبل الحديث عن أيّ علاقة مع الخارج (بمعزلٍ عن أنّنا حُكمًا مستبطِنونَ لهذا الخارج في مسبقاتنا بنسبة ما، ولكنّنا لن ندخل في جدلٍ حول صفاء هذه الذوات، فهذا لا معنى له ولا حاجة إليه).
- ولا بد من وجود أرضيّة مشتركة للقيم يمكن الانطلاق منها للحوار حول الوطن، وهذه القيم تنادي بها المسيحيّة والإسلام؛ إذ ليست هذه القيمة ذات طبيعة متأطّرة بالدّين ولا بالجغرافيا ولا بالعرق ولا بأي إطارٍ آخر، بل هي – في نظرتنا الدينية – قيم عليا نابعة من أسماء الله الحسنى أو صورة الإله المتجلّية في هذا العالَم. وبتعبير آخر: الصدقُ ذو حقيقة موضوعيّة، سواء كان نابعًا من المسلم أو من المسيحي، والأمانة في العمل والمسؤولية والحكم والإدارة والعلاقات وما إلى ذلك لا تفاوُتَ فيها بين صاحبِ دينٍ وغير صاحب دين؛ وهكذا الأمر في سائر القيم.
- منذ تأسيس الكيان اللبناني وحتى اليوم، ثمة تطورات ومتغيرات كثيرة حفل بها العالم والمنطقة ولبنان، ولا سيما خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وعلى ذاتنا التي يراد تثبيتها أو صوغها أن تلحظ كل ذلك. ومن البداهة القول إنّنا في حاجة إلى التأسيس لهذه النقطة قبل أي شيء آخر، والهروب من تبعات ذلك إلى ادّعاء ثبات المعادلة التي يقوم عليها هذا البلد ومثل هذا المؤتمر يدحض هذا الادعاء…
المحطة الثانية: أفكار تأمّلية
تأسيسًا على ما تقدّم، ومن أجل مقاربةٍ جادّة لهذا الموضوع الحسّاس والانقسامي على مستوى الخطاب، يمكن التفكير بعدّة أمور:
أوّلًا: تتطلّب المعالجات الثقافية والفكريّة الارتفاع عن الراهن من الخطاب والأوضاع، وإلّا كانت نقلًا للمشكلة إلى مستوى النخبة، وهذا ما يزيدها تعقيدًا، وذلك عبر المبرّرات النظريّة التي قد تعتبرها جزءٍاً من المعتقد والهويّة.
ثانيًا:: الانفتاح أو العلاقة التي تقوم بين أيّ ذاتٍ والآخر، شرقًا كان أم غربًا أم غيرهما، يجبُ التفريق فيها بين ثلاثة أنحاء:
أ. العلاقة القائمة على انعدام الوزن أمام الآخر، أي – بتعبير آخر – ليس هناك ذاتٌ، وإنما حركة آليّة تعكس الآخر، ليكون لدينا ذاتٌ عنوانًا، وآخر مضمونًا، لتكون الذاتُ واقعًا صدًى له في الثقافة أو السياسة أو الاقتصادٍ أو الأمنٍ أو العلاقات وما إلى ذلك.
ب. العلاقة التي تعيشُ الآخر كعقدةٍ سلبيّة، وهنا تفقد الذات حرّيتها، لتكون حالةً ضدّيّةً مع الآخر أو بعضِه.
ج. العلاقة القائمة على أساس الندّية، حيث تكون هناك ذاتٌ متشكّلة ومكتملة، وهناك آخر مماثل، وهاتان الذاتان هما اللتان تحدّدان طبيعة العلاقة ومداها.
ثالثًا: إذا أردنا أن نكون واقعيّين، فإنّ الداخل اللبناني ليس واحدًا تجاه الخارج، والحديث عن تجرّد كاملٍ لأيّ من هذه المكوّنات حديثٌ خياليّ. ولكنّ تثبيت صورة للذات اللبنانية يمكن أن يبدأ من التوازن الذي يحقّقه تفاعل التنوّع مع بعضه البعض، وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم عنوان “التدافع”: (ولولا دفعُ الله النّاسَ بعضَهُمْ ببعضٍ لفسدَتِ الأرضُ)[2]، أو – كما في آية أخرى – (لهُدّمتْ صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكر فيها اسم الله كثيرًا)[3]، ، وذلك بهدف الوصول إلى صورة كلّية متّفقٍ عليها تمثّل الحدّ الأدنى المعقول، بحيث تملك هذه الصورة وجودها بين الدّول والأمم. نعم، لا ينبغي أن نُغفل هنا دور المؤسّسات النظاميّة التي تضبط حركة التدافُع لئلّا تتحوّل إلى صراعٍ دمويّ أو حربٍ أهليّة عند كلّ منعطَف.
رابعًا: من المفيد تحديد العقبات التي تحول دون الوصول إلى توافق على صورة واضحة للذات، حيث يمكن أن نتساءل: في أي مستوى تكمن هذه الاختلافات؟ هل هي لدى الجماهير؟ أم هي لدى النخبة؟ وهذه النخبة إلى أيّ مجالٍ تنتمي؟
ثمّ هل مصادر هذا الاختلاف خارجيّة؟ أم هي داخليّة؟ وما إذا ذلك من أسئلة تنزلُ من العنوان الكبير إلى القضايا الحيّة التي يطرحها ذلك العنوان.
هذه المشكلة هي ذاتُها تبرز عند الحديث عن أيّ إدارة للتنوّع، أو عند عقد حوارٍ حول أيّ قضية وطنية أو دينية أو سياسية أو ما إلى ذلك، حيث تغيبُ هذه الأسئلة أو تُغيَّبُ لأكثر من سبب، يرتبطُ في كثيرٍ من الأحيان بامتيازات النخبة، السياسية وغيرها. ولا بأس هنا أن نستعيد كلامًا للسيّد محمّد حسين فضل الله (ره) أطلقه في خضمّ الحرب اللبنانية الداخلية[4]: رغم ما نجد من إيجابيات على صعيد العلاقات بين أفراد الشعب:
“أنا أعتقد أنّ الحوار الإسلامي – المسيحي بخير بين أفراد الشعب اللبناني، لكنّه بالغ التعقيد بين السياسيّين وبعض رجال الدين. لذلك ستبقى هذه الدوّامة في الدوائر العليا، أمّا الشعب فقد حاوَرَ بعضه البعض وأخذ العِبَر([5]).
ولنا أن ننسج على منوال ذلك لنقول إنّ الشّعب قد أنجز تصوّره لذات وطنِهِ وأخذ العِبَر، بينما بقي من هم في الأبراج العاجيّة يعيشون تعقيداتٍ تتّصل بالكثير من الامتيازات الفئويّة وغيرها، أكثر ممّا ترتبط بالنّيّة الجادّة في الوصول إلى صورة واضحة عن الذّات.
خامسًا: فيما يرتبط بالشرق والغرب والمنطقة، وبالمعنى الدّيني يمكن النظر إلى التجربة الإنسانيّة التي تحصل في أيّ مكانٍ في العالَم انطلاقًا من منظومة القيم العليا. هذا نظريًا.
وأمّا واقعيًا، فإنّ التطوّرات الإنسانيّة الأخيرة قد أزالت الحدود في أغلب المواقع، وتكاد تجعل الحدود السياسية لا معنى لها، وقد جاءت العولمة لتزخيم حركة التواصل بشكل باتت الصورة الشاملة غير موجودة، لا عن الشرق ولا الغرب ولا المنطقة..
ولذلك بات الحديث عن صورة نمطية شاملةٍ للغرب أو الشرق أو للمنطقة مضلّلًا، وأصبح من المنهجيّ طرح أسئلة للبناء عليها: عن أيّ غربٍ نتحدّث؟ وعن أيّ شرقٍ؟ وعن أيّ منطقة؟ وفي كلّ منها ما الذي نتحدّث عنه؛ هل هو الشأن التكنولوجي؟ أو الثقافي؟ أو السياسي؟ أو الاقتصادي؟ أو الاجتماعي؟ أو ما له علاقة بالدّين؟
إنّ كُلًّا من هذه الأسئلة تمثّل جزءًا من الصورة التي علينا الاطّلاع عليها ومادّة من موادّ الحوار الذي يجب أن ينشأ في كلّ لحظةٍ في الإطار اللبناني، سواء بشكل مباشر أو عبر مؤسّسات الحكم أو عبر الأطر التي تمثل مصالح أغلبية الناس. ونحن نعرفُ أنّ كثيرًا من المنسجمين مع الغرب في بعض السياسة، قد يكونون معادين لبعض ثقافته، انطلاقًا من رؤية دينية أو ثقافية شرقيّة وهكذا..
من دون ذلك، سيكون الأمر أشبه بجعل العناوين جزءًا من عدّة إدارة الصراع، الذي يريد أن يعمي عيون النّاس عن التعقيد الحقيقي لمشهد العلاقات.
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنّ الشرق والغرب والمنطقة ليسوا ملائكة ولا أنبياء، وإنّما يتحرّكون وفق مصالحهم وأهوائهم، وأحيانًا وفق غرائزهم وأمزجتهم، ولذلك لا يمكن – دينيًا ووطنيًا – أن نتحدّث عن علاقات تقوم على القيم وتحكمنا فقط من جهة الإطار؛ أي لأنّ الشرق شرقٌ فلا بدّ من الانسجام مع إرادته، ولأنّ الغرب غربٌ فكذلك، والقضيّة ذاتها فيما يخصّ الدول العربية أو الإسلاميّة أو غيرها..
يقول السيد فضل الله:
“إننا نتصوَّر أنّ المشكلة الآن بين الغرب والشّرق، ليست في العمق على مستوى العلاقات الثقافيّة، وإن كان للثقافة دورها في أكثر من جانب، ولكنها تأخذ مناحي اقتصاديّة وسياسيّة وأمنيّة. فالغرب بما يملك من قوّة عسكرية وتكنولوجيا ماديّة وما إلى ذلك، يحاول السيطرة على الشرق من خلال السيطرة على مواقعه الاستراتيجيّة. وعندما تحدث صراعات في الغرب نفسه حول الموقع الاستراتيجيّ الذي يسيطر به على مصادر القوة، كما البترول والأسواق الاستهلاكية والاستثمارات، فإنّنا نلاحظ أنّه يحاول أن يسيطر على الشّرق، لأنّ الشّرق هو مخزن الثروات، ويتمتّع بمواقع استراتيجية، فضلاً عن كونه يشكل مجالاً واسعاً للتوظيفات الاقتصادية والاستثمارات والأسواق الاستهلاكية”([6]).
المسألة هنا من أين نقاربُ المسائل؛ فقد نكون مع بعض الشرق وضدّ بعضه الآخر، وكذلك مع الغرب، والأمر ذاته بالنسبة لهذه الدولة أو تلك.. مسائل المصالح تُدرس بالمفرّق لا بالجملة – كما يُقال -، ونقطة الارتكاز في الدراسة هي ما هي مصلحتنا، وفق الرؤية العامة التي نختزنها عن أنفسنا، ووفق الأهداف التي نسعى إليها، ووفق القيم التي نحتكم إليها.. وهذا يعيدُنا إلى أنّ المشكلة في العلاقة تكمن في كلّ النقاط السابقة، وهي من نحن؟
سادسًا: بالمعنى الديني الإنساني أيضًا، إنّ مقاربتنا للراهن من المواقف والأفعال والأقوال ممّا يصدر من الغرب أو الشرق أو المنطقة، لا بدّ أن يُبنى على ميزانٍ واضحٍ للتقييم، نظريًا على الأقلّ، وإنّ من الخطورة بمكانٍ أن يكون الخطاب تبرير كلّ ما يقومُ به القويّ للاصطفاف معه.. وإنّ واحدةٍ من أخطر القضايا في النظام العالمي هو أنّه يجعل الشرعيّة تابعةً للقوّة بدلًا من العكس، ولذلك شُلّت كلّ المنظّمات الدولية.
إنّ الدين يحتّم علينا العدل مع القريب، فيقول الله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالديْن والأقربين)[7]، ومع البعيد: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآنُ قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقربُ للتقوى)[8]. وبالتالي يكون منطقها منطق المفرّق لا “الجملة” والشموليّة التي تجعل الإطار أساسًا للرفض والقبول.
هذه العدالة الغائبة لو تمأسست فهل سنواجه مشكلةً بالعمق الذي نواجهه اليوم؟ إنّ المشكلة أنّ العصبيّة هي النظام الوحيد الذي يحكم هذ البلد، وكثيرًا من جماعاته، ولذلك فقدت الدوائر أيّ حالة مشتركة فيما بينها؛ لأنّ كلّ عنوان باتَ صَنَمًا يُعبد من دون الله، الله المتجلّي بالقيم، فهي وجهه وهي أسماؤه التي ندعوه بها ونتوجّه بها إليه.
في تراثنا الدّيني:
“العصبيّة التي يأثم عليها صاحِبُها أن يرى الرجُلُ شرارَ قومِهِ خيرًا من خيارِ قومٍ آخرين، وليسَ من العصبيّة أن يحبَّ الرجلُ قومَهُ، ولكن أن يعينَ قومَهُ على الظُّلم”([9]).
ولذلك عندما يُفرَّغ الانتماء من القيم، تصبحُ كلّ دائرةٍ منطوية على ذاتها، ولا ترى الآخر إلّا عدوًّا، وتتحوّل القيمة إلى عناوين وانتماءات صنميّة، يسهل على كثيرٍ من اللاعبين المحليّين والإقليميين والدوليّين أن يدخلوا على خطّها، ليجتذبوا عبر شدّ العصب المذهبي والطائفي إلى تحقيق مصالحهم – أي هؤلاء اللاعبين – باسم حقوق الطائفة أو المذهب أو الجماعة وما إلى ذلك!
أخيرًا: ربّما يكون هذا البلد قد نشأ معادلةً أكثر منه وطنًا، وإنّ التحوّل من البلد/المعادلة إلى البلد/الوطن يحتاج إلى اعترافٍ أوّلًا بواقع ما نحن عليه من مشكلة مع الذات قبل أن تكون مشكلةً في العلاقة مع الآخر، ونقطة البداية هي في الإرادة و النيّة والتي نعتقد أنّها لا تزال مفقودة لدى كثيرٍ من الطبقة السياسية المؤثرة وان كانت موجودة لدى الشّعب وكثيرٍ من النخب الفكرية والثقافية، ولذلك يرسُمُ الصورة من لا يريدُ حلّ مشكلتها، ويصوغُها من لا يملك مشروعية رسمَها على مساحة خريطة العالَم، ليبقى هذا البلدُ نهبًا لكل طامعٍ، فاقدًا حتّى للذات التي تتمالك نفسَها أمام من يسرق نفطه وغازه ويمنعه من خزن مياهه واستثمار أرضه…
[1] كلمة في مؤتمر أقامته جامعة الروح القدس – الكسليك (USEK) في جونية – لبنان، ضمن محور “العلاقات المسيحية – الإسلامية في الحالة اللبنانية”، وقد كان المؤتمر بعنوان: “البابا يوحنا بولس الثاني ولبنان الرسالة”. الكلمة ألقيت الأربعاء الواقع فيه 2-2-2022م.
[2] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 251.
[3] القرآن الكريم، سورة الحج، الآية 40.
[4] الحرب الداخلية اللبنانية امتدّت من 1975 وحتى 1989م.
[5] فضلالله، محمدحسین، أمراء و قبائل، الصفحة: ٤٢٨، رياض الريس للکتب و النشر، بيروت، 2001 الميلادي
[6] نور الدین، نجیب، الإسلام دین الرحمة و العدالة، الصفحة: ٨٣، المرکز الإسلامي الثقافي، بيروت، 1432 الهجري
[7] القرآن الكريم، سورة النّساء، الآية 135.
[8] القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 8.
[9] الكليني، الكافي، ج2، ص308، حديث 7.