قيل إنّ الإنسان كائنٌ اجتماعيّ بالطبع؛ معنى ذلك ـ ببساطة ـ أنّه منتمٍ حُكمًا إلى مجتمع، إمّا بالفعل، وذلك بأن يعيشَ الإنسان ضمنه، وإمّا بالقوّة؛ بحيثُ ينتمي الإنسانُ إلى ثقافة ذلك المجتمع وعناوين انتماءاته، كالقوميّة والدّين والمذهب والجغرافيا وما إلى ذلك.
وعليه فالذي يحدّد انتماء الإنسان الاجتماعيّ ويعزّزه هو الثقافة التي تجمع الأفكار والمبادئ والعادات والتقاليد والقيم والرموز، والتي تشكّل بمجملها الطريقة التي يعيش فيها المجتمع ويعبّر عن ذاته، ويرى الفرد المنتمي إليه موقعه من خلالها كإنسان في هذه الحياة وهذا الكون الفسيح.
التفاعل بين المجتمع والفرد
وليس من شكّ أنّ الإنسان إذ يحدّد انتماءه إلى مجتمعٍ ما، فإنّه يدخل في دورةٍ من التفاعل بينه وبين ذاك المجتمع، فيُصبح منفعلًا متأثّرًا بكلّ ما ينتجه هذا المجتمع من أنشطة، ومن أفكارٍ، ومن تمثّلات للقيم، ومن تحوّلات، وكذلك من تحدّياتٍ ومخاطر. أمّا حجم التأثّر من قبل ذلك الإنسان، فيتبع القرار أو الموقف الذي يتّخذُه الإنسانُ لنفسه ممّا يجري في هذا المجتمع، بالانسحاق التامّ، أو الجزئي (أي الخاضع لقرار التأثر في مجالات دون أخرى)، وقد يصلُ الأمر إلى الانفصال التامّ والتنكُّر للانتماء إلى ذلك المجتمع والانتقال إلى انتماءٍ آخر، حتّى لو بقي الإنسان يعيشُ جسديًا في المجتمع الأوّل.
ومن الواضح أنّ المجتمع إذ يؤثّر في الفرد ويطبعه بطابعه، فإنّ الفرد الذي يعيشُ ضمنه يمتلك قابليّة التأثير أيضًا في المجتمع، ولكنَّ مستوى تأثير الفرد في مجتمعه يتحدّد بحسب طبيعة الموقف الذي يتّخذه تجاه الاندماج الكلّي أو الجزئي أو غيرهما؛ إذ من الواضح أنّ الذي يأخذ موقفًا منسحقًا كلّيًا أمام ثقافة المجتمع وتعبيراته لن يكون إلا مبرِّرًا ومعيدًا لإنتاج ما هو قائم، وقد يكون لذلك تداعيات على مستوى تكريس الواقع، وتأكيد حضوره وفاعليّته وديمومته، بل وتقديسه أحيانًا. هذا التقديس يحصُل تبعًا للتأقلم الذي يدخل فيها الإنسانُ في مواجهة التحدّيات عندما لا يقوى عليها، فيلجأ إلى عملية تضخيم للذات ولأفكارها وقضاياها، في عمليّة هروب من المواجهة لما يفرض عليها التغيّر، وذلك عبر ابتداع أليّات حماية للذات الضعيفة أمام ذلك..
وأيًّا يكن الحال، فهذه قضيّة ذات أهمّية وحساسيّة في انتماء الإنسان إلى أيّ مجتمع من المجتمعات، حتّى الذي يمثّل بالنسبة إليه تجمّع القيم والرؤى والتطلّعات التي يتبنّاها الفرد والتي على أساسها حدّد انتماءه.
طبعًا، من الضروري لنا هنا أن نرسم خطًّا وسطًا بين الاندماج الكلّي وبين التقديس الأعمى، بما يسمح ببقاء علاقة التأثير بين الفرد والمجتمع في اتجاهين، وذلك عبر إيجاد قاعدة للنقد التي تسمح بأخذ مسافة ممّا يجري في المجتمع من دون الانفصال عنه والتنكّر للانتماء إليه. هذه نقطة محوريّة سنعود إليها في طيّات ما يأتي من حديث.
تحديد موضوعنا
وكيفَ كان، فوجهة سيرنا في هذه المقالة هي تحديد المواصفات التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز، وأكدّها النبيّ (ص) في سنّته الشريفة، لمجتمع المؤمنين، في مقابل المجتمعات الأخرى ذات القيم المختلفة جزئيًّا او كليًّا، ثمّ محاولة تحديد الآليّة التي تُمكّن الإنسان من أن يعيش في تلك المجتمعات الأخرى، ويتعايش مع أهلها، ويتفاعل مع مجالاتٍ من أنشطتها، من دون أن يعني ذلك انسحاقه الكامل لتلك المجتمعات، كما أسلفنا في المقدّمة؛ معترفين سلفًا بأنّ الإحاطة التامّة بهذا الموضوع لا تتّسع لها هذه المقالة، ممّا يجعلنا مكتفين بإشارات سريعة، تاركين للقارئ الكريم تلمّس مفرداتها، وتوسعة مداها، من خلال التأمّل والتفكير المستمرّ في هذا المجال.
1- من هو مجتمع المؤمنين؟
من خلال التأمّل في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم التي تحدّثت عن المؤمنين وصفاتهم، نستطيع أن نحدّد ملامح أساسيّة لمجتمعهم، وذلك على أساس المواصفات التالية:
أوّلًا: الصّلة الإيمانية: لا تتجلّى هذه الصلة بالعقيدة فقط، وإنّما حرص الإسلام على التحقيق الوجودي لهذه الصّلة عبر مجموعة من الشعائر والطقوس العباديّة، والتي يقع في مقدّمتها الصّلاة. اللافت هنا أنّ القرآن الكريم استخدم تعبير “إقامة الصَّلاة” بما قد يُشير إلى ضرورة التجسيد الحيّ للصّلاة على أرض الواقع، فهي كالبنيانِ القائم الذي تكون صورتُهُ بارزة في حركة المجتمع الإيماني وثقافته. ولعلّ الممارسة التاريخية للمسلمين في الحرص على صلاة الجماعة، انطلاقًا من الحثّ عليها في النصوص الشريفة، إضافة إلى إقامة الأمكنة التي تحتضنها، وهي المساجد، هذه الممارسة تشير إلى البُعد الفيزيائي لإقامة الصّلاة. ومن الطبيعي أنّه كلّما كانت نوعيّة الصلة متشابهة، كلّما كانت اللحمة أقرب، والصلة الاجتماعيّة بين المؤمن والمؤمنين الآخرين أشدّ وآكد؛ لأنّ ذلك يعكس جملة من القيم المشتركة التي تقوم عليها الصلاة بطبيعة الحال.
نلمحُ في هذا المجال مجموعة كبيرة من الآيات، نذكر منها:
قوله تعالى: (ذلك الكتابُ لا ريبَ فيه هدًى للمتّقين، الذذين يؤمنون بالغيبِ ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون)[1].
قوله تعالى: (إنّما وليُّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)[2].
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنّ الله عزيز حكيم)[3].
ولعلّه التأمّل السريع في الآيتين الأخيرتين يوحي بطبيعة العلاقة بين الولاية – التي تعني اللحمة والاندماج – وبين ما تذكره الآية من إقامة الصلاة وغيرها.
وهنا نقول: إذا كانت الصلاة عمود الدين – كما ورد في الروايات – وعنوانًا لتجلّي الصلة الإيمانية بالله تعالى، فلا يُمكن للمؤمن أن ينفصل عن مجتمع المصلّين، ليتكبّر عليهم، أو ليعتبر نفسه خارجًا عن دائرتهم، فضلًا عن أن يعتبر نفسه مشدودًا إلى غير المصلّين الذين يعكسون بذلك فقدان الصلة بالله تعالى.
ولكنَّ البُعد الفيزيائي لإقامة الصّلاة لا يعني أبدًا أنّ الصّلاة، أو سائر مظاهر الصّلة بالله تعالى، هي العنوان الحاسم في سلامة الانتماء وصحّته؛ لأنّ للأخلاق المعامليّة دورها الأساس أيضًا، كونها تمثّل تجليًّا من تجليّات الصلة بالله تعالى، عبر إدراك الإنسان أنّ صلته بالله تفترض عليه أن يجسّد كلّ القيم التي منبعها صفاتُه تعالى؛ فلا يكفي أن يكون الإنسان مصلّيًا ليكون قريبًا من الله، وخلوقًا مع النّاس، بل هي الخطوة الأولى لتحقيق التجانس بين الصلاة العباديّة والصلاة المعامليّة كإنسانٍ يمثّل إنسانَ الله في المجتمع. ولذلك قال الله تعالى: (أقمِ الصَّلاة إنّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)[4]، كما ورد في الحديث الشريف: “مَن لم تنهه صلاتُهُ عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلّا بُعدًا”[5].
بل لعلّنا نستطيع القول إنّ إقامة الصّلاة له بُعدان: فيزيائي وروحي سلوكي، ولا تكتمل الإقامة إّلا بهما، لكنْ ما يهمُّنا هنا هو أنّ الصلاة بما هي تعبيرٌ عن الصّلة بالله تعالى تمثّل مدماكًا أساسيًّا من مداميك انتماء الفرد إلى مجتمعه الإيماني.
ثانيًا: الصلة الاجتماعية؛ إذ إنّ مجتمع المؤمنين هو المجتمع الذي تشتدّ لُحمته، وتقوى العلاقات بين أفراده، وذلك يتجلّى في عدّة مظاهر:
الزكاة، التي تمثّل وجهًا من وجوه الإحساس بمسؤوليّة الإنسان المسلم عن الفئات المستضعفة والمحرومة في مجتمعه،
التواصل، وذلك عبر التلاقي الإيجابي في دائرة الرحم، وفي دائرة الجوار، وفي الدوائر الأوسع فالأوسع.
التسامح والتراحم؛ إذ إنّ التسامح يمثّل القاعدة الأساس في إبعاد المشاعر السلبيّة التي تفكّك العلاقات بين المؤمنين، وتنشر البغضاء فيما بينهم. ومنه إقالة العثرات، وقبول الأعذار، والتجاوز عن الجاهلين، وما إلى ذلك.
إرادة الخير للآخر، وذلك عبر أخلاقيّات الإيثار والغبطة، في مقابل الأنانيّة والحسد.
ثالثًا: الأمان القيمي، وبشكل أساس قيام العدل، لا على مستوى القضاء والحكم فحسب، بل على مستوى العلاقات الإنسانيّة التي تدور في حياة المؤمنين العامّة؛ فالعدل لا بدّ أن يتحوّل إلى روح انسيابيّة في حركة المواقف والكلمات والأحكام التي يُصدرها الناس تجاه مفردات حياتهم، في حين يقتصر دور القضاء على حلّ المنازعات والخصومات التي تُعرض أو تُحال عليه.
رابعًا: الأمان التعاقدي، وذلك عبر الوفاء بالعهود والمواثيق والالتزامات؛ سواء الالتزامات التعاقديّة في المجال التجاري، أو الالتزامات السياسيّة في ما تمثّله برامج الانتخابات والسلطات المتنوّعة، أو الالتزامات الاجتماعيّة التي تتحرّك في شكلٍ عفويّ بين أفراد المجتمع.
خامسًا: الغايات الجامعة، وذلك يتمّ عبر التعاون على البرّ، بحيث يشعر الإنسان أنّه معنيّ بضمّ طاقاته إلى طاقات الآخرين في سبيل تعزيز حضور الخير في المجتمع على كلّ المستويات.
سادسًا: الطهارة السلوكيّة، وذلك بالابتعاد عن الفواحش والرذائل الأخلاقيّة والسلوكيّة، وأهمّها القتل والسرقة والفواحش الجنسيّة، والنميمة وما إلى ذلك، ولعلّ سلسلة المواصفات التي ذكرها الله تعالى في سورة الفرقان تؤكّد على ذلك. قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَمًا* وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا* إِنَّهَا ساءت مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا* وَالَّذِينَ إذا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا* وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا* وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتابًا* وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرامًا* وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا* أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسلامًا* خالدين فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ومقامًا* قل مَا يَعْبأ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دعاؤكم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا)[6].
سابعًا: التواضع وخفض الجناح، انطلاقًا من قول الله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا)[7]، وقوله تعالى: (أذلّة على المؤمنين)[8]، وقوله تعالى: (رحماءُ بينهم)[9] والتواضع لا ينعكس فقط في المعاملة بين الأفراد، وإنّما في النظرة التي ينظر فيها المجتمع المؤمن لنفسه؛ إذ أيّ نظرة توحي بالاستكبار الذاتي، الذي يستبطن فقدان الاعتراف بنقاط الضعف لا بدّ أن تكون بعيدة عن مجتمع المؤمنين.
الانتماء لا يتطلّب عصمة المجتمع
وانطلاقًا من النقطة الأخيرة، نستطيع أن نؤسّس قاعدة، قد نكون قد أشرنا إليها في بداية كلامنا، وهي أنّ الانتماء إلى مجتمع المؤمنين هو مسألة ضروريّة عفويّة، لا تَصدُرُ بقرار سوى أن لا يُصدر الإنسان قرارًا معاكسًا لها، كما أنّ الانتماء لا يعني أنّ المجتمع لا بدّ أن يكون معصومًا؛ لأنّنا نسمع كثيرًا من التبريرات لانسلاخ الإنسان عن مجتمعه الإيماني، بأنّه مجتمع قد يفتقر إلى الأخلاقيّة في بعض المواقع، وإلى الإخلاص، وإلى التواضع، وإلى العدالة، وما إلى ذلك!
طبيعي أنّ الجانب العبادي لا يختصر كلّ شيء في هذا المجال، فقد أكّدنا على ذلك، ولكنّ التعميم أيضًا نظرةٌ خاطئة؛ لأنّ أيّ مجتمع لا يخلو من السلبيّات، وقد كان مجتمع الرسالة الأوّل غير خالٍ من الشوائب، ومن نقاط الضعف، وهو ما نلمحه ببساطة في القرآن الكريم في كلّ ما بيّنه من نقاط الضعف إلى جانب نقاط القوّة، بل إنّ كثيرًا من النواهي كانت تعالجُ أخطاءً واقعيّة حصلت من قبل مَن كانوا جزءًا من المؤمنين، وتحت ظلّ قيادة رسول الله (ص) لهم؛ ولكنّه المجتمعُ الذي كان يتكامل في حركة بناء القوّة في كلّ المجالات، الاجتماعيّة والنفسيّة والاقتصاديّة والروحيّة والبدنيّة والعسكريّة وما إلى ذلك، فقد كان هذا المجتمع يمتلك الآليّات التي يستطيع من خلالها أن يحوّل نقاط الضعف إلى نقاط قوّة، وأن يطوّر نفسه وأفرادَه في خطّ تصاعديّ في حركة القيم في حياة الناس.
وهذه النقطة هي التي ينبغي أن ننظر إليها حينما نشعر بالضيق من سلوك المجتمع الذي ننتمي إليه، بمعنى أن نختبر المسألة التالية: هل في هذا المجتمع آليّات ووسائل وقواعد يُمكن تفعيلها لإبعاد السلبيّات عن الواقع، وتعزيز الإيجابيّات لتسيطر على المشهد العام لحركة المجتمع، أو ليس فيه أيّ من ذلك؟
ذلك لأنّنا إذا استغرقنا في السلبيّات فقط، فقد نشعر بعدم الانتماء، وأنّ هذا المجتمع لا يُشبهنا، فيدفعنا هذا الاستغراق إلى التخلّي عن انتمائنا إلى مجتمعنا، ويساهم استغراقٌ آخر في إيجابيّات مجتمعات أخرى إلى الشعور بأنّها تشبهنا، وقد نجدُ بعض القواعد والأدبيّات التي أوردنا بعضها أعلاه في مواصفات مجتمع المؤمنين تبريرًا لهذا الانتماء، وبذلك نحسب أنفسنا على مجتمعات أخرى تفتقر إلى كثير من القيم الموجودة أصلًا في المجتمع الأوّل.
ولذلك ترى الكثيرين منّا ينسجمون مع جماعةٍ فاسقين أو ظالمين أو منحرفين، أو بعيدين عن الله وعن كثير من القيم الأساسيّة، لمجرّد أنّنا استغرقنا في السلبيّات التي نجدها في مجتمع المؤمنين؛ فهربنا من سلبيّات مجتمعنا إلى إيجابيّات المجتمعات الأخرى؛ وتلك معادلة خاطئة؛ لأنّ الموازنة ينبغي أن تكون بين الإيجابيّات هنا مع الإيجابيّات هناك، والسلبيّات هنا مع السلبيّات هناك.
لقد وجدنا في حياتنا كثيرًا من الأفراد، ومنهم من هم في المواقع المتقدّمة، رموا أنفسهم في أحضان مجتمعات أخرى تتنافر مع مجتمع المؤمنين، لمجرّد أنّهم استغرقوا في سلبيّات مجتمعهم، وحاولوا المقارنة بينها وبين ما وجدوه من إيجابيّات في مجتمعات المستكبرين والظالمين، وهذا ما دفعهم، من دون أن يشعروا، لتبرير سلبيّات تلك المجتمعات التي أقبلوا عليها وانتموا إليها، أو حاولوا التخفيف من غلوائها على الأقلّ، وعملوا على التوهين من إيجابيّات مجتمع المؤمنين، والانخراط الدائم في حديثٍ عن سلبيّاته.
التمايز في الانتماء والانفتاح
وربّما نجد الأساس لضرورة التوازن في الموقف في كتاب الله العزيز في الحديث عن الولاية، التي تعني الاندماج التامّ والانسحاق الكامل والسماح بتدفّق التأثير من خارج الفرد إلى داخله، حيث توضح الآية الآتية حدود العلاقة بين المؤمن والمجتمعات الأخرى، وذلك قوله تعالى: (لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أنّ تتّقوا منهم تقاةً ويحذّركم الله نفسه وإلى الله المصير)[10]، وقوله تعالى: (بشّر المنافقين بأنّ لهم عذابًا أليمًا، الذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة لله جميعًا)[11]، إضافة إلى ما أوردناه أعلاه، وما إلى ذلك.
يبقى أن نُشير إلى أنّ مسألة الولاية لا تعني أنّ على الإنسان لا بدّ أن ينغلق على إطاره المجتمعي، فلا ينفتح على المجتمعات الأخرى، ولا يتفاعل معها؛ لأنّ الولاية تعني الانسحاق التامّ والاندماج التامّ الذي يملك على الإنسان كلّ كيانه في حركة الاندماج، بينما مسألة الانفتاح مسألة نسبيّة، تخضع لمقدار ما يجده الإنسان من قيم متبنّاة لديه، ومتجسّدة لدى تلك المجتمعات، حيث إنّ العدالة والحرّية إذا وجدت في مجتمع ما، كفلت الحدّ المقبول من التعايش بين الإنسان المؤمن الملتزم وبين المنتمين إلى تلك المجتمعات، وأمّنت مستوى مهمًّا من أرضية التعاون والفهم؛ لأنّ هاتين القيمتين هما اللتان تحافظان للإنسان المؤمن على شعوره بالانسجام بين انتمائه الإيماني وبين عيشه الكريم في تلك المجتمعات. وهذا ما ربّما نلمحه في قوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون)[12].
مسؤوليّة الإصلاح
من أكثر الأمور وضوحًا في القرآن الكريم وصفُ المجتمع الإيماني بأنّه المجتمع الإصلاحيّ، وذلك من خلال مبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. إحدى الآيات التي أوردناها أعلاه ذكرت هذا المبدأ قبل الصَّلاة، وذلك قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) الآية[13]، وجعل القرآن الكريم ذلك المبدأ أساسًا لخيريّة الأمّة الإيمانية، وذلك قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه)[14]، وهذا المبدأ هو الذي يجعل الإصلاح مسؤوليّة فرديّة في قلب المجتمع الإيماني.
إلّا أنّ هذا المبدأ، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يعملان ولا حافز لهما إذا كان الإنسان شاعرًا بعدم الاعتزاز بالانتماء إلى مجتمعه الإيماني، وباليأس عن التغيير. هذا مضافًا إلى أنّ الانسلاخ عن مجتمع المؤمنين يجعل الإنسان عُرضةً في الانخراط في التبرير للمجتمعات الأخرى عمليّات التغيير التي تمارسها في ضرب ثقافة مجتمع المؤمنين. وعندما نتحدّث عن ضرب ثقافة، فنحن نعني ذلك المركّب الكلّي، بما يتضمّن القيم والمبادئ والأمور التي يُفترض أن تشكّل هويّة الإنسان المؤمن فلا يملك التنازل عنها.
كثيرٌ من التجارب التي وقع فيها مؤمنون صالحون أسرى الحالة النقدية لمجتمعاتهم والتي تضخّمَتْ بعيدًا عن الانخراط في حالة إصلاحية في المجتمع الإيماني، جعلتهم شيئًا فشيئًا يفقدون الانتماء إلى مجتمع المؤمنين، ويصبحون بالتالي جزءًا من مشاريع التفتيت التي تمارسها مجتمعات أخرى بمحمولاتها الثقافية بهدف إفقاد المجتمع الإيماني اعتزازه بنفسه، ولو عبر التغيّر الجيليّ الذي لا يرى معه الجيل الأوّل حافزًا لنقل هويته أو ثقافته أو اعزازه بهما إلى الجيل الثاني، وإذا غُلبَ مجتمعُ ما على ثقافته أصبح عدوَّ نفسه من دون أن يدري، أو مفسدًا من حيثُ يُريد الإصلاح!
إنّ الحالة النقدية ضروريّة للتطوّر والتطوير، ولكنّها إنّما تكون كذلك عندما تتصاحبُ مع اعتزاز بالانتماء الكلّي، إضافة إلى الانخراط العملي في مسؤوليّة الإصلاح، بوعيٍ للعوامل التي تساهم فيه داخليًا وخارجيًا، وما الذي تتطلّبه تلك المسؤوليّة من أدواتٍ ووسائل ووقتٍ، وكذلك أن يكون هناك وعيٌ لطبيعة التحدّيات وربّما المؤامرات التي يتعرّض لها المجتمع الإيماني.
إنّ الاعتزاز بالانتماء إذا تضخّم وحده، فقد يؤدّي إلى تقديس الأخطاء، وجمود المجتمع، وتشوّه الرؤية والثقافة مع حركة الزمن، وإنّ روحيّة الإصلاح إذا تحرّكت بعيدًا عن الاعتزاز بالانتماء إلى المجتمع (الذي يعيش بشريّته في إيجابياته وسلبيّاته) فإنّها قد تكون سببًا في حرف المجتمع عن مساره، أو عن تمكين القوى الخارجيّة من السيطرة عليه وتوجيهه، وبالتالي إفقاده الآليّات الداخليّة لتطوّره الذاتي، وفرض نماذج أخرى عليه من الخارج.
المسألة بالغة التعقيد، ولذلك فإنّ أكبر آفةٍ فيها هي أن تجتمع النوايا الحسنة للمؤمنين مع السطحيّة في مقاربة واقع الأمور ومتطلّبات الإصلاح؛ لأنّ ذلك سيجعل المجتمع الإيماني يتحرّك بالشعارات الصحيحة ولكنْ بتطبيقاتها الخاطئة، بما يفوّت فرص الإصلاح في حركة الواقع.
خلاصة واستنتاج
إلى هنا، نكون قد خلصنا إلى عدّة نقاط:
أنّ الذي يحدّد الانتماء إلى مجتمع المؤمنين هو العنوان العريض للقيم التي ينتمي إليها ذلك المجتمع، وذلك من خلال مفهوم الولاية التي تعني الاندماج التامّ الشعوري والانتمائي التفاعلي.
أنّ مجتمع المؤمنين، كغيره من المجتمعات، ليس مجتمعًا معصومًا، فقد يعاني من نقاط ضعف ووهن، نتيجة العوامل المؤثّرة في المجتمعات في شكلٍ عام.
أنّ علينا أن نبقي على الحالة الشعوريّة التي تُبقينا مشدودين إلى مجتمع المؤمنين، وذلك عن طريق عدم الاستغراق في سلبيّات مجتمعنا إلى جانب الاستغراق في إيجابيّات الآخرين؛ لأنّ هذا يجعلنا نحمل وزر سلبيّات المجتمع الآخر، ونخسر إيجابيّات مجتمعنا.
أنّ الشعور بالانتماء يحتّم علينا أن نبقى في حركة إصلاح دائمة للسلبيّات التي يقع فيها مجتمعنا الإيمانيّ، عن طريق تفعيل الآليّات الموجودة التي تكفل تحقيق هذا الإصلاح، وإيجاد الآليّات المفقودة في هذا المجال، ولكنّه الإصلاح الذي يتطلّب أعلى درجات الوعي للواقع والخبرة العميقة في التعامل معه للوصول إلى الأهداف المنشودة؛ والله من وراء القصد.
السيد د. جعفر فضل الله
مقالة نشرت في مجلة الوحدة الإسلامية الصادرة في بيروت، وأعيد تحريرها مع بعض الإضافات في 19-5-2022م.
[1] سورة البقرة، الآيتان 2-3.
[2] سورة المائدة، الآية 55.
[3] سورة التوبة، الآية 71.
[4] سورة العنكبوت، الآية 45.
[5] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج79، ص198.
[6] سورة الفرقان، الآيات 63-77.
[7] سورة الفرقان، الآية
[8] سورة المائدة، الآية 54.
[9] سورة الفتح، الآية 29.
[10] سورة آل عمران، الآية 28.
[11] سورة النساء، الآيتان 138-139.
[12] سورة الممتحنة، الآيتان 8-9.
[13] سورة التوبة، الآية 71.
[14] سورة آل عمران، الآية 110.