الموضوع الذي نحن بصدده في هذه الأوراق يتعلق بفقه الدولة بحسب ما قد يظهر للباحث في ثنايا بعض الكتابات الأخيرة للمفكر الإسلامي، الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وتحديدًا في كتابه الإسلام يقود الحياة، والذي كتبه في مرحلة انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران[1]، بعد سنواتٍ طويلة من العمل الحزبي الحركي[2] الذي قاد السيّد الشهيد (ره) قيادته الفكريّة والتوجيهيّة.

ونعتقد أن عقل الشهيد الصدر (ره) التنظيري لا بد أن يغري الباحث في هذا الموضوع المهم، ولا سيما في هذه المرحلة التي يراد لها أن تحتضن الطرح الإسلاميّ الحضاريّ في قضيّة هي من أعقد القضايا على المسرح الفكري والسياسي العالميّين، وفي ظلّ أشرس هجمةٍ يواجهها الإسلام – بنموذجه الحضاريّ – من خلال تناقضاتٍ داخليّة تجتذب – من جهة – العودة إلى عصور الجاهليّة والانطلاق به في فضاءات الفكر والممارسة الإنسانيّة الواسعة – من جهة أ خرى-.

ونعتقد هنا أن مقاربات السيّد الشهيد (ره)، ذات البناء النظري الذي يعتمد التركيب بين المفردات الشرعية، يجعلنا أمام مقاربة مختلفة للفقه، بين فقهٍ موضوعُهُ أو خلفيّتُه الفردُ المكلّف، وبين موضوعٍ أو خلفيّة تتّصل بإطار اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي مرتبط بحركة المجتمع، ولعلّنا نوضح المقصود هنا في ما يأتي، وذلك ضمن نقاط:

النقطة الأولى: في ضرورة فقه الدولة

يعتبر الشهيد الصدر (ره) بأنّ “الدولة ظاهرة نبويّة، وهي تصعيدٌ للعمل النبوي، بدأت في مرحلة معيّنة من حياة البشريّة”[3]، وبذلك يؤسّس (ره) لاعتبار الدولة، وبالتالي الانشغال السياسي في بنائها وحركتها، جزءًا لا يتجزّأ من الممارسة الإيمانيّة؛ بل ضرورة تفترضها النبوّة في مرحلة تفعيلها على أرض الواقع. يقول الشهيد الصدر (ره): “ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء، وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة أسسها وقواعدها – كما لاحظنا ذلك في الآية الكريمة: (كان الناس أمّة واحدة فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)[4] -، وظلّ الأنبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولّى عدد كبير منهم الإشراف المباشر على الدولة، كداود وسليمان وغيرهما، وقضى بعض الأنبياء حياته وهو يسعى في هذا السبيل، كما في حالة موسى (ع)، واستطاع خاتم الأنبياء (ص) أن يتوّج جهود سلفه الطاهر بإقامة أنظف وأطهر دولة في التأريخ، شكّلت بحقّ منعطفًا عظيمًا في تأريخ الإنسان، وجسّدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيدًا كاملًا ورائِعًا”[5].

ولعلّنا هنا نستطيع أن نربط بين هذه الفكرة وبين الرؤية التي يطرحها القرآن الكريم لحركة التاريخ البشري وموقع الأنبياء فيه، حيث يقول تعالى – في قصّة آدم وبدء الخليقة -: (قُلنا اهبِطوا منها جميعًا فإمّا يأتينَّكم منّي هدًى فمن تبعَ هُدايَ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون)[6]، مؤسِّسًا بذلك أنّ الأنبياء دورُهم يرتبط بمواكبة التاريخ البشري وتفعيل عناصر الهداية للتجربة البشرية حتى تتّجه في خطّ تكاملها من جهة، ولكي لا تنحرفَ عن ذلك من جهة أخرى. وعلى هذا لا يعود ثمّة انفصالٌ بين التاريخ الديني والتاريخ البشري، بل إنّ الآثار الدينية تتحوّل إلى ثقافة تفرضُ نفسَها على المجتمعات البشرية، لتتوارث الأجيال مفرداتها حتى وإن ابتعدَت عن الدّين في التزاماتها.

ومن خلال الفكرة التي يطرحها السيد الشهيد (ره) نستطيع أن نخلص إلى ما يلي:

أوّلًا: أنّ الواضع لأسس الدولة وقواعدها هو الله تعالى، وهذا يقودنا إلى ضرورة اشتمال الفقه الإسلامي على فقه الدولة، ولو كان ذلك متمثِّلًا في القواعد العامّة التي يمكن أن تحكم حركة التشريع التفصيلي. وبناءً على ذلك أيضًا يُصبح انشغال الفقيه بالفقه السياسي أمرًا مرتبطًا بمجال طبيعي من مجالات التفكير الفقهي والدّيني عمومًا، وليس مسألةً هامشيّة قياسًا بالمواضيع التي درج عليها الفقهاء، والتي ترتبط بالجانب العبادي والمعاملي في عالم التجارات والأحوال الشخصيّة بشكل خاصّ.

وعلى هذا، قد يمكن أن نذهب إلى اعتبار مسألة الدولة أو الولاية وبناء أدلّتها على أمور الحسبة، غير منسجم مع هذه الفرضيّة التي تشير إلى بيان الله تعالى لأسس الدولة وقواعدها وتحديد الخطوط التي تحكم بناءها وحركتها؛ بل قد تبدو – في كلام السيّد الصدر – أمرًا مفروغًا عنه، ومسلّمًا من حيثُ شرعيّته، وإنّما البحث في قواعده وتفاصيل حركته.

إنّ الدّولة – فيما نحسبه من كلامه – جزءٌ من الاجتماع الإنساني الطبيعي، وهي توجّه فطريٌ نحو التنظيم الذي نما مع الإنسان في وجوده وتطوّره بفعل تعقيدات الحياة والحاجة إلى انضباط في قيمٍ عليا، ترجع إليها الجماعات عندما تتنافى أهواؤها وتتضاربُ مصالحها. وهذه القيم تلحظُ الحاجات المشتركة للجماعة.

وبعبارة أخرى: إنّ حصول الإنسان على حاجته الفرديّة يمثّل الباعث الأساس والأوّل الذي يقودُ الإنسان شيئًا فشيئًا إلى إدراك ضرورة النظام العام، الذي وإن لم يكفل تمام الحاجة للإنسان الفرد، إلّا أنّ التضحية بجزءٍ من ذلك يعتبر أولويّة تجاه ما يحصل عليه الإنسان بسبب الانتظام العام ضمن الجماعة.

وإذا صحَّ مثل هذا التصوّر، فإنّه ليس من الضروري البحث عن مسوّغات شرعيّة جعليّة لأصل نشوء الدَّولة، حتّى فيما يرتبط بشرعيّتها؛ بل تكون المسألة من قبيل المسائل التي قياساتها معها، ويكون البحثُ عن محمولاتها. نعم، قد تمسُّ الحاجة إلى رأي الفقيه لإمضاء المصداق، وأنّ هذا التشكّل للدولة يحقّق إسلاميّتها أو لا، وهذا ما يرتبط بالنقطة الثانية الآتية.

وإن شئت قُلتَ – بحسب قواعد الفقه والاستنباط – إنّ السيرة العقلائيّة قائمة على ضرورة وجود نظامٍ للحياة، يجلب للناس مصالحهم، ويدفع عنهم المفاسد، ويقيم حياتهم على قواعد تشكّل مدخلًا لحلّ نزاعاتهم في علاقتهم البينية، وهذه السيرة ضاربة في أعماق التاريخ، وإنّما جاءت مسيرة الأنبياء لتصحّح مسارها، حيث استبدّ بها الجبابرة والطغاة وحوّلوها إلى مجالٍ لتحقيق أطماعهم التي لا تشبع، وخضع النّاس لهؤلاء حتّى فقدوا وجودهم الفاعل في الحياة، فإذا بها تصبح سلطةً لقهرهم، وقوّة لمسخ نفوسهم، كما يُشير إلى ذلك قول الله تعالى – حكاية عن فرعون -: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)[7] حيث فرض عليهم الخفّة الثقافية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فأصبحوا مقهورين أمام صورته، وكان أقصى ما تصلُ إليه نفوسُهُم عندها أن يروه ربًّا يعبدونه من دون الله.

ثانيًا: بناء على ذلك، يؤسّس الشهيد الصدر (ره) أصل سيادة الشريعة للدولة، في دستورها وقوانينها، ويُعتبر حينئذٍ أمرًا مفروغًا منه، وليس مثار بحثٍ أو جدلٍ، ولا معنى لفرضيّة انفصال الدِّين – ولا سيّما بمعناه التشريعي والقانوني – عن السياسة.

ثالثًا: أنّ النبوّة هي التي تقود التنظير والتأسيس للدولة، وقد يتيسّر لها الحكم المباشر وقد لا يتيسّر ذلك. هل ذلك يعني أنّ النبوّة أو من يمثّلها ليست بالضرورة هي الممارسة للحكم، وبهذا هل يتنافى كلامه مع نظريّة ولاية الفقيه؟

لا نعتقد أنّ الأمر كذلك في ما يرتبط بكلام السيّد الشهيد هنا؛ إذ لا يظهر أنّه بصدد التفكيك بين الدولة والفقيه، بل أقصى ما تفيده عبارته هنا أنّ مسألة عدم ممارسة الأنبياء للحكم مسألة مرتبطة بالظروف الموضوعية التي تمنع من واقعيّة الحكم، أمّا حين تتوافر الظروف، فعليهم هم مسؤوليّة قيادة الدولة والمجتمع. ويقول السيد محمد حسين فضل الله (ره) في هذا المجال: “أمّا الوليّ الفقيه المتصدّي للقيادة، فلا بدّ له – كي تستقرّ له الأمور – من رضا معظم الأمّة به وقبولها لقيادته، وذلك إمّا من خلال معرفتها التامّة به، أو من خلال شهادة كثيرين من أهل الخبرة المرضيّ عنهم من قبل الأمّة بكفاءته وأهليّته، أو من خلال تعيينه من بين الفقهاء بذلك”[8]. إنّ الأمر هنا يرتبط بواقعيّة الحكم وليس بأصل شرعيّته؛ والله العالم.

رابعًا: يبدو بديهيًّا أمام ما تقدّم أن تكون إقامة الدولة والإسلاميّة من الواجبات التي تقع على المكلّفين ولو كفايةً، كما أنّ وجوب التصدّي للحكومات أو الأنظمة غير الإسلاميّة والعمل على إسقاط الحاكم الذي يرأس الدولة الإسلاميّة نفسها في حالة انحرافه وتنكّره للإسلام وتعاليمه وإصراره على ذلك[9].

وهنا قد يُشكل على ذلك فيقال: إنّ الوجوب قد لا يكون عليه ثمّة دليلٌ ما دام الإنسان أو المجتمع قادرًا على تطبيق الإسلام في الحياة، وهذا ما قامت عليه سيرة المتشرّعة المتّصلة بعصر أئمّة أهل البيت (ع) إلى يومنا هذا، حيث يقود الفقهاء المجتمع والأفراد في ظلّ الأنظمة الجائرة، وتحت حكم السلطة غير الشّرعية، والتي لا تدينُ بالإسلام كقاعدة للتشريع والسياسة. وبهذا ليس هناك – على الأقلّ – دليل على ضرورة الثورة على الحاكم الجائر وتغيير النظام بالقوّة! بل إنّ بعض النظريات الفقهية التي تتبنّاها بعض النظريات الفقهيّة تقوم على ضرورة الانتظام في حركة السّلطة والخضوع لها حتّى لو كانت جائرة، ويستندون في ذلك إلى حديثٍ مرويّ عن رسول الله (ص): “يكون بعدي أئمّةٌ لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبُهُم قلوبُ الشّياطين في جثمان إنس. قال: قلتُ: كيف أصنعُ يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: تسمعُ وتطيعُ للأمير وإن ضربَ ظهرَكَ وأخذ مالَكَ، فاسمع وأطع!”[10]

ولكنَّ الجواب من جهتين:

الأولى: أنّ ذلك ليس نظرية شاملة، بل هناك نقاشٌ للحديث والنظريّة المذكورة، ويمكن لنا التأسيس لذلك في حركة أئمّتنا عليهم السلام، ولا سيّما إمامنا الحسين (ع) الذي شرّع بفعله الثورة على الحاكم الجائر بما لا يرقى إليه شكّ، وأقامه على قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي قد يكون تعبيرًا آخر عن شرعيّة العمل لتغيير الواقع المنحرف، بل وجوبه بمستوًى وآخر، ممّا لسنا بصدد بحثه هنا.

الثانية: من الممكن لنا أن نفلسف ذلك بناءً على فقه الفرد؛ إذ ما من شكٍّ أن الإنسان متأثّر بطبعه بالمجال الذي يعيش فيه، وهو الذي يمثّل بالنسبة إليه الفضاء الذي ينبغي أن يحقّق حاجاته، وأن يشبعه نفسيًّا، وأن يشعره بالأمن، وما إلى ذلك؛ فإذا رضي الإنسان بأن يتحرّك المجال المجتمعي في حالة تنافرٍ مع المبادئ التي يلتزم بها الفرد في حياته، فمعنى ذلك أنّه فتح المجال أمام تأثّره بضدّ ما يلتزم، وهذا يؤدّي – مع الوقت والتقلّبات – إلى تنازلٍ في مستوى التزام الإنسان بالمبادئ التي يعتقد بها تحت ضغط الحياة اليوميّة ومتطلّباتها، وبذلك يتحوّل الإنسان من تجسيد المبدأ في تفاصيل حياتها ومجالاتها إلى ما يضادُّها شيئًا فشيئًا، ولا سيّما إذا قسنا تأثير هذا النظام الجائر على مسار أجيالٍ متعدّدة، وليس ضمن الجيل الواحد. قد يمكن اعتبار هذا دليلًا إضافيًّا على ضرورة الحكومة الإسلاميّة بمجرّد أن نتحدّث عن بناءٍ قيمي فوقي لا بدّ أن يحكم حياة الفرد، وبالتالي حياة المجتمع.

النقطة الثانية: في المنهج

في البداية لا بدّ من بيان معنى فقه النظريّات في عقل السيّد الشهيد الاجتهادي، والميزة التي يختلف فيها عن الفقه العادي الممارَس، والذي يُبنى على خلفيّة المكلّف كفرد، في أفعاله وتروكه، حتّى عندما يبحث في العلاقات بين أفراد المجتمع، فإنه يبحثها من خلال تكليف الفرد فعلًا أو تركًا.

نفترض هنا أن المجتمع، وإن كان في واقعه عبارة عن تجمّع أفراد ومشاركتهم مكانًا معيّنًا بكل ما يحويه من مقدّرات تسدّ حاجاتهم، إلّا أنّ هذا الاجتماع للأفراد نفسَه يؤدّي إلى نشوء وجود مجموعي للأفراد، بحيث يرتبطون مع بعضهم البعض في شبكة تفاعليّة من الأهداف والحركة والمصالح، لا يُعطيها كلّ فرد في المجتمع من حيث هو فرد. وعلى هذا الأساس، سيكون للمجتمع بوصفه مجتمعًا وجودٌ موازٍ لا يمكن رؤيته من خلال النظر إلى أفراده. وهذا الوجود الاجتماعي، إذا صح التعبير، يفرض على الفقيه ملاحظته في إدارة عملية الاستنباط من أجل المواءمة بين نتائجها وبين الحفاظ على قواعد حركة المجتمع، بما يحفظ لهذا المجتمع توازنه واستقراره واستمراره في تعزيز القيم التي تلتزم بها الجماعة، وفي تحقيق الأهداف التي تسعى إليها والمبادئ التي تلتزم بها.

ذلك كلّه يطرح أمام الفقه نفسه إشكالية المنهج في مقاربة فقه الدولة أو الاقتصاد أو الإدارة السياسية وغير ذلك من الأمور ذات البعد المركّب، ضمن منهج الفقه الممارَس لاستنباط الأحكام الشرعية المتعلقة بسلوك الفرد المسلم العبادي والمعاملي.

حتّى يتضح ما نرمي إليه هنا، نطرح ما ورد في كلام السيّد الشهيد (ره) في كتابه “الإسلام يقود الحياة” حيث يفرّق فيه بين ثلاثة أنواع من الأحكام أو الموضوعات:

الأوّل: “أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهيّ مطلق” فهذه تعتبر “- بقدر صلتها بالحياة الاجتماعيّة – جزءًا ثابتًا في الدستور، سواء نصَّ عليه صريحًا في وثيقة الدستور أم لا”.

الثاني: ما “يحتوي على أكثر من اجتهاد”، وهذا النوع “يعتبر نطاق البدائل المتعدّد من الاجتهاد المشروع دستوريًّا”، على أن يتمّ اختيار البديل المعيَّن من هذه البدائل من قبل “السلطة التشريعية التي تمارسها الأمّة على ضوء المصلحة العامّة”.

الثالث: منطقة الفراغ، وهي تشملّ “كلّ الحالات التي تركت الشريعة فيها للمكلّف اختيار اتّخاذ الموقف”، وذلك عندما لا يكون لدينا “موقف حاسم للشريعة من تحريم أو إيجابٍ”، وهنا “يكون للسلطة التشريعية التي تمثّل الأمّة أن تسنّ من القوانين ما تراه صالحًا على أن لا يتعارض مع الدستور”[11].

ولنا أن نلاحظ هنا أنّ السيّد الشهيد نفسَه، كما جملة من العلماء، يتبنّون فكرة وجود تقليد الأعلم؛ الأمر الذي يعني عدم حجّيّة فتوى غير الأعلم في أيّ أمر يتعلّق بأفعال المكلّفين، والتي منها أيضًا القوانين التي ستوجّه بشكل مباشر أو غير مباشر إليهم، إضافةً إلى ذلك قد يقال بعدم جواز التخيير بين فتاوى الأعلم المتعدّد، فهل نحن هنا أمام تناقض عندما تسمح نظريّة الشهيد الصدر باعتبار آراء المجتهدين بدائل يمكن الأخذ بأيّ منها طبقًا للمصلحة التي تقتضيها حركة الحكم وسنّ القوانين في الدولة الإسلاميّة؟ وإذا كانت الشريعة، التي منها الحكم بوجوب الرجوع إلى الأعلم، هي ما يحكم قانون الدولة، فهل يكون ذلك حكمًا بغير ما أنزل الله؟

بالطبع ليس الأمر كذلك، ولكنّنا قد نفترض هنا أنّ الدولة – بوصفها إطارًا سياسيَّا يحتضن حركة مجتمع – تختلف مقاربتها عن مقاربة الفقه الفرديّ، وعند هذا البُعد الاجتماعي للدولة، تصبح آراء المجتهدين تراثًا قانونيًّا وأشبه بجعبة بدائل ممكنة؛ لكونها ناتجةً عن اجتهاد صحيحٍ، وبالإمكان اعتماده عند تركيب القانون الذي ينبغي أن يلاحظ الواقع بكلّ تعقيداته وتشعّباته.

قد يقول قائلٌ أنّنا نوفّق بين الأمرين الآنفين، بأن نلزم الدولة بالرجوع إلى الأعلم، فلا نقع بالتناقض، ولا سيّما أنّه أصبح جزءًا من مسار التقليد عمومًا، حيث يتوفّى المرجع، فيلزم المرجع الجديد أو يجيز البقاء على تقليد الميت، ويرجع في المستجدّات إلى المرجع الجديد.

ولكنّ الأمر في عالم الدولة ليس بهذه البساطة؛ وذلك لأمور:

الأوّل: أنّنا نفترض هنا اختلاف أنظار أفراد المجتمع في من يرجعون إليه في التقليد، وبالتالي ليس بالضرورة أن يكون الأعلم الذي ترجع إليه الدولة، هو الأعلم بنظر قسم من أفراد المجتمع – على الأقل -، فبأيّ مناطٍ يتمّ إلزامهم بما يناقض التزاماتهم الفقهيّة؟

الثاني: أنّ عمر الدول أكبر من عمر الأفراد، وهو يقاس بأجيال متعاقبة، ولا بدّ لكلّ دولةٍ من قانون يشكّل أساسًا في انضباط حركة المجتمع، بحيث يتحوّل إلى نظام حياة، ومن المعلوم أنّ رحيل الفقيه الأعلم – حسب تلك النظريّة – ومجيء فقيه آخر هو الأعلم في الأحياء سيجعل الموادّ القانونيّة عرضةً للتبدّل، طبقًا للرأي الجديد، تبعًا للنظريّة المتبنّاة في جوز البقاء على تقليد الميّت أو وجوبه أو حرمته، وهذا يعرّض حياة المجتمع والدولة نفسها للاهتزاز؛ إذ إنّه بالنظر إلى تأثير القوانين على حياة الأفراد، وبمعزل عن البعد الاجتماعي للمسألة، تؤسّس قوانين الدولة لشبكةٍ من العلاقات التي يرتبط بعضها ببعض، وتؤدّي إلى التزامات قد تتجاوز حياة الأفراد، وهذا يعني أنّ أي تبدّل في القوانين تبعًا لتبدّل المرجع سيؤدّي إلى اختلال الحياة الاجتماعيّة بشكلٍ وبآخر.

الثالث: لو فرضنا أنّ فتوى البقاء على تقليد الميت أوجدت الثبات للقوانين، باعتبار استمرار التقليد السابق، فماذا نصنع بالأجيال التي ستقلّد المرجع الجديد طبقًا لنظريّة عدم جواز تقليد الميت ابتداءً؟ وماذا سيكون حال الدولة عندما يكتشف أفراد المجتمع وجوب العدول إلى الحيّ لكونه أعلم طبقًا للنظرية التي تقول بذلك؟ ثمّ ماذا لو كان رأي المرجع الأعلم هو عدم شرعية الدولة الإسلاميّة في عصر الغيبة مثلًا، فهل يجعلنا ذلك نختار غيره مع أنّه الأعلم على الفرض؟ وبأيّ ملاكٍ نختاره عندئذٍ؟ ولو كان المرجع الجديد أو الأعلم الحالي، يفتي بوجوب دفن أموال الخمس (الضرائب الماليّة الشرعية) وعدم جواز التصرّف بها في عصر الغيبة، فأيّ اقتصادٍ يمكن أن يقوم للدولة حينئذٍ؟

الرابع: قد يمكن افتراض حلّ المشكلة بالرجوع إلى العناوين الثانويّة التي تجمّد الأحكام الأوّليّة لصالح الظروف الموضوعية التي تقتضي حكمًا على خلافها.

ولكنَّ هذا الأمر لا يحلّ المشكلة من الناحية النظريّة الشرعية؛ لأنّ الأحكام الثانويّة إنّما هي أحكام استثنائيّة يلجأ إليها للخروج من الظروف الضاغطة تبعًا لقواعد التزاحم، ونحن نتحدّث هنا عن قانون عامّ يمثّل الأحكام الأوّليّة التي ستكتسب ديمومةً معيّنة، والدولة هي التي تضع قواعد الحركة داخليًّا – على الأقلّ -، إضافة إلى أنّ الظروف الضاغطة ليست على نحو واحدٍ بالنسبة إلى كلّ أفراد المجتمع، فإذا كان الحكم ثانويًّا بالنسبة إلى أفراد، فقد لا يكون كذلك بالنسبة لأفراد آخرين.

بل إنّنا نفترض هنا أنّ الاستثناء (الذي يعبّر عنه الحكم الثانوي واقعيًا) عندما يُراد له أن يتحوّل إلى قاعدة فإنّه يفقد شرعيّته، ويصبح لازمًا على المجتمع أن يغيّر ذلك الواقع الضاغط ضمن آليّات الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وهو ما يحتاج إلى بحثٍ مفصّل ليس ههنا مقامه.

وإن أبينا ذلك، فيكفي اللجوء إلى الأحكام الثانويّة، وتثبيته كقاعدة للتشريع، دليلًا على صحّة ما نفترضه من الاختلاف بين فقه الفرد وفقه المجتمع؛ لأنّ الحكم الثانويّ هنا ليس في طول الرأي، وإنّما في عرض الرأي الواجب اتّباعه؛ فتأمّل.

ما نريد التأكيد عليه في نهاية المطاف، هو أنّ تلك الخلفيّة في التفريق بين فقه الفرد وفقه الدولة والمجتمع بوصفهما الاجتماعي، هي التي تبرّر للسيّد الشهيد ما ذهب إليه من القاعدة التي يستند إليها صوغ القوانين في الدولة الإسلاميّة.

وأذكر في هذا المجال ما سمعتُه من السيّد الوالد (ره) في حديثه إلى بعض قيادات الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، بأنّه يلزمهم لبناء الدولة وتثبيت القانون من تبنّي ثلاث نظريّات فقهيّة: جواز تقليد الميّت ابتداءً، وعدم وجوب تقليد الأعلم، وإذا اختلف المجتهدون في الفتوى فالحكم هو التخيير وليس الاحتياط. وربّما يكون هذا نوعًا من التبرير النظري – بناءً على الفقه الفردي – للحلّ الذي يجعل بناءَ الدولة التشريعي أوسع من بناء حياة الفرد من الناحية التشرعيّة.

وأيًا يكن الحال، فإنّ السؤال المحوري هنا هو في المبرّر الذي يسمح بفرض قانون يتناقض مع التزام الأفراد الذي قد يتوافق مع هذه الفتاوى، وقد لا يتوافق بطبيعة الحال.

ولعلّ بالإمكان هنا أن نشعر بضرورة جعل هذه الإشكاليّات جزءًا من الأسئلة التي تواجه الفقيه حين استنباطه للحكم في هذه المسائل الثلاث؛ لأنّنا ندرك سلفًا أنّ أيّ نظريّة لا يمكن أن يتبنّاها الفقيه إلا بعد التفكير مليًّا بالإشكاليّات المترتّبة عليها، ممّا قد يتحكّم بميل نظر الفقيه نحو نظريّة دون أخرى.

النقطة الثالثة: موقع المرجعيّة في الدولة الإسلاميّة

على ضوء ما تقدّم من التفريق بين فقه الفرد وفقه المجتمع، قد نستطيع أن نلمح موقع تنظير السيّد الشهيد (ره) لموقع المرجعيّة في الدولة الإسلاميّة، حيثُ يحدّد (ره) للمرجع وظائف متعدّدة، تشكّل بمجموعها حالة إشرافيّة ضابطة على حسن سير إدارتها، بوصفها “المعبّر الشرعي عن الإسلام، والنائب العامّ عن الإمام [المعصوم] من الناحية الشرعية”[12]، وهذه الوظائف كالتالي[13]:

1ـ هو “الممثّل الأعلى للدولة، والقاعد الأعلى للجيش”.

2ـ “تعيين الموقف الدستوري للشريعة الإسلاميّة”.

3ـ “البتّ في دستوريّة القوانين التي يعيّنها مجلس أهل الحلّ والعقد لملء منطقة الفراغ”.

4ـ ضبط الانحراف عن الدستور عبر “إنشاء محكمة عليا للمحاسبة في كلّ مخالفة محتملة في المجالات السابقة”.

5ـ إنشاء نظام قضائي سمّاه الشهيد الصدر “ديوان المظالم في كلّ البلاد لدراسة لوائح الشكاوى والمتظلّمين وإجراء المناسب بشأنها”.

لكنّ ما يلفت في تنظير السيّد الشهيد لعمل المرجع في ضمن الدولة الإسلاميّة، هو أنّ المرجعيّة تمارس أعمالها من خلال مجلسٍ تؤلّفه هي، ويضمّ “مئةً من المثقّفين الروحانيّين، ويشتمل على عدد من أفاضل العلماء في الحوزة، وعدد من أفاضل العلماء الوكلاء، وعدد من أفاضل الخطباء والمؤلّفين والمفكّرين الإسلاميّين؛ على أن يضمّ المجلس ما لا يقلّ عن عشرة من المجتهدين”[14].

ولعلّ هذا يحيلنا إلى مأسسة المرجعيّة، وتحويلها من عمليّة إدارة فرديّة إلى بناء اجتماعيّ مؤسّسيّ، يملك استمراريّة وديمومةً ودقّة أكبر في الإطلالة على الواقع السياسي والاجتماعي والقانوني المعقّد للدولة. ومن الطبيعيّ أنّ ذلك يفرض صوغ آليّات عمل تعتمد الصيغة المؤسّسيّة لتشخيص الواقع، وإمداد المرجع بالمعطيات اللازمة، وتحديد الفرضيّات والبدائل ضمن تفكير جماعيّ يطرح مختلف وجهات النظر حول أيّ مسألة أو موضوع، بحيث يصبح نظر الفقيه أو المجتهد أو المرجع، أكثر دقّة وإحاطة بمشارب الأمور.

وبذلك يُدخل الشهيد الصدر (ره) التشريع ضمن نظام الدولة في عمليّة منظّمة ومحسوبة، فلا تبقى حركة المرجعيّة في عرض حركة الدولة، وفي الوقت نفسه يحفظ للمرجع موقعه ومكانته واستقلاليّته عن حركة الدولة، وذلك بأن يكون الترشيح والتعيين خاضعًا لحركة شعبيّة عفويّة، سواء من خلال تنوّع الفئات غير المنضوية تحت أيّ منصب رسمي، أو من خلال الانتخاب المباشر من الناس إذا ما أريد اختيار مرجع بين متعدّدين.

ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ المرجعيّة في تاريخها العملي ليست بعيدة عن النظام، ولكنّه النظام المنسجم مع وجود دولة تتحرّك خارج الفلك الإسلامي، سواء بالانتماء أو التطبيق، وحفظ الإسلام حينئذٍ يتطلّب هذا النوع من النظام الموازي لعمل المرجعيّة. ولكنَّ الأمر يستحقّ التأمّل بعد تحوّل المرجعيّة من حالة المعارضة للواقع السياسي (غير الإسلامي) القائم، إلى حالة انسجامها – ولو بالجملة – مع المبادئ التي تلتزمها الدولة، وامتلاكها قدرة التأثير المباشر في صوغ النظام السياسي، أو في حركة العمليّة السياسيّة بخطّها العامّ والكلّي؛ وعندئذٍ لا بدّ من التفكير الجدّي في إعادة إنتاج التنظيم بما يكفل تحقيق أمرين: استفادة المرجعيّة من عمل الدولة عبر مؤسّساتها المتنوّعة لتأكيد المبادئ التي تدعو إليها المرجعية، وضمان الموقع الإشرافي والرقابي للمرجعيّة على حسن سير الدولة، وعدم جعلها جزءًا من عمليّة إدارة الدولة أو خاضعةً لسلطتها السياسيّة كما تخضع أي مؤسّسة أخرى.

انتخاب مرجع الدولة وتعييه

أمّا بالنسبة إلى آليّات تعيين المرجع وانتخابه فنجد أنّها لا علاقة لها بالمكلّف بصفته الفرديّة، وإنّما لها علاقة بالمجتمع ككلّ، حيث يرى السيّد الشهيد (ره) أن يتمّ ترشيحه من “أكثريّة أعضاء مجلس المرجعيّة، ويؤيّد الترشيح من قبل عدد كبير من العاملين في الحقول الدينية – يحدّد دستوريًّا – كعلماء وطلبة في الحوزة علماء وكلاء وأئمّة مساجد وخطباء ومؤلّفين ومفكّرين إسلاميّين”، أمّا إذا تعدّدت “المرجعيّات المتكافئة من ناحية الشروط”، فهنا يُرجع السيّد الشهيد (ره) “إلى الأمّة أمر التعيين من خلال استفتاء شعبي عامّ”[15].

ومن المهمّ لنا التوقّف مليًّا عند الشروط التي يضعها السيّد الشهيد (ره) للمرجع الذي يكون الممثّل الشرعي للدولة الإسلاميّة، معتبرًا بأنّ “المرجعيّة حقيقة اجتماعيّة موضوعيّة في الأمّة تقوم على أساس الموازين الشرعيّة العامّة”، ولعلّ في قوله “الموازين الشرعية العامّة” ما يشي باختلاف مرجع الفرد عن مرجع الدولة، وهو ما لمسناه جليًّا في تحديده للآتي.

يقول (ره) بأنّ المرجعية “كمقولة عليا للدولة الإسلاميّة” تحتّم أن يتوفّر في الشخص الذي يجسّدها أمور:

1ـ “صفات المرجع الدِّيني من الاجتهاد المطلق والعدالة”، ولا يتحدّث هنا عن شرط الأعلميّة.

2ـ “أن يكون خطّه الفكري من خلال مؤلّفاته وأبحاثه واضحًا في الإيمان بالدَّولة الإسلاميّة وضرورة حمايتها”، وهذا يعني إبعاد مسألة شرعية الدولة الإسلاميّة في عصر الغيبة عن ساحة الاجتهاد الذي تختلف فيه الأنظار، ويتمّ افتراضه أمرًا مسلَّم الوجود، وهذا أحد الإشكاليّات التي تقف أمام الفقه الفردي كما ذكرناه آنفًا.

3ـ “أن تكون مرجعيّته بالفعل في الأمّة بالطرق المتّبعة تاريخيًّا”.

إنّ ما تقدّم يعني أنّنا أمام صيغة جديدة للمرجعيّة عندما يرتبط الأمر بالدولة والنظام السياسي، تختلف عن صيغة المرجعية الفرديّة المتّبعة تاريخيًا، وهو أمرٌ لم يكن ليتيسّر التفكير به لولا الركون إلى خلفيّة الفرق بين عمليّة إدارة شؤون الأفراد من الناحية الشرعية وإدارة شؤون الأمّة والمجتمع، أو الفرق بين جعل موضوع الاجتهاد هو تكليف الفرد وبين جعل موضوعه تنظيم وضع الأمّة.

نحن لا نتحدّث هنا عن اختلاف آليّات الاستنباط، وإنّما نتحدّث عن فروق بين الموضوعين قد تفرض على الفقيه ملاحظتها، ومن الواضح – فقهيًّا – أنّ تبدّل الموضوعات أساس لتبدّل الأحكام، وهنا لا يمكننا أن ننزّل الدولة منزل الفرد مثلًا ونثبت الأحكام المتعلّقة بسلوكه بما لا يرتبط بسلوك الآخرين إلّا من ناحية فرديّة، بينما المجتمع يجعل ترابط أفعال الناس واتجاهاتهم عبارة عن شبكة مترابطة بحيث لا يمكن التفكيك بين فردٍ وآخر.

وربّما لأجل ذلك قد نلمح أنّ دور المرجع – في تنظير الشهيد الصدر (ره) – هو دور المشرف على الدولة، والإشراف مفهوم مرتبط بحالة الشهادة على التجربة بوصفها الكلّي، ولكنّه لا يتدخّل في تفاصيل إدارة العمليّة السياسيّة، وهو يستوحي هذا البُعد من قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمّة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا)[16]، حيث قد يُفهم أنّ موقعه النبويّ يجعله في موقع المشرف على تطبيق النُّظم بوصفها الكلّي، وعلى صوغ بناء الدولة بنحو متوازنٍ يضمن انضباط الأداء بما يحقّق الأهداف المنشودة.

وبتعبير آخر، قد نقرّب هذا الدور عبر مثال الهرم؛ حيث يتّصل المرجع بالطبقة التي تحته، وهي جزءٌ من مسؤوليّاته المباشرة؛ فعندئذٍ يمكن أن نفترض أنّ مسؤوليّة الفقيه أو المرجع هو متابعة حسن سير الدولة عبر التواصل مع الأطر السياسيّة العليا، كرئيس الدولة ومجلس الوزراء وكذلك السلطة التشريعية، في أداء عملها ومدى انسجامه مع الدستور، لا أن يتدخّل في هذه الدائرة أو تلك، باعتبار أنّ وظيفته هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ المرجع ليس مكلّفًا عاديًّا ضمن الدولة، وإنّما هو رأسها الذي ينبغي أن يحول دون ما يؤدّي إلى اختلال وظائفها القائمة على توزيع الأدوار وتسلسل الأطر.

وفي الإمكان هنا أن نشير إلى محوريّة التنظيم في عقل الشهيد الصدر (ره) حيث يقول: “إنّ تجميع الجهود من أجل الإسلام وتنسيقها بحكمةٍ، واختيار الطريقة الأفضل لتنظيم ذلك، ليس مجرّد أمرٍ جائزٍ في عصرنا وحسب، بل هو واجبٌ ما دام تغيير المجتمع وتعبيده لله ومجابهة الكفر المنظّم متوقّفًا عليه”[17]، وإذا كانت هذه هي طريقة العقلاء في إدارة أمور حياتهم الاجتماعية والسياسية وغيرها، وهي التي استقرّ عليها الفكر المؤسّسي، حيث إنّ أي النظام القائم على توزيع الأدوار بين الأفراد هو الوسيلة التي من خلالها يستطيع المجتمع أن يحقّق الأهداف الكبرى بسرعة قياسيّة، في حين أنّه من غير الممكن تحقيق هذه الأهداف من قبل أيٍّ فردٍ مهما بلغ شأنه، في المرحلة العمريّة التي يعيش فيها.

النقطة الرابعة: الأمّة ودورها في بناء الدولة

يفرد السيّد الشهيد (ره) في تنظيره لبناء الدولة الإسلاميّة مساحة مهمّة للأمّة، ولا يجعل دورها مقتصرًا على الانفعال بما ينزل إليها من الأطر العليا فقط، بل لها الدور نفسه المنوط بالمرجع في كونه الخليفة، بل إنّ المرجع نفسه جزءٌ من الأمّة، ويملك درجةً متقدّمة عليها انطلاقًا من خصوصيّة ما يملك من علمٍ وكفاءةً متقدّمة عليها.

ينطلق السيّد الشهيد (ره) في بيان دور الأمّة من فكرة التراتبيّة في السلطات، بدءًا من الله الذي له الأمر والحكم كلّه، ثمّ بما ثبت بالنصّ والتشخيص، كما في ولاية النبيِّ (ص) أو ولاية أئمّة أهل البيت (ع). أمّا عندما يغيب المعيّن، فإنّ الحكم يرجع إلى الأمّة، باعتبارها صاحبة الحقّ في ممارسة السلطتين التشريعية والتنفيذيّة التي يعيّنها الدستور، استنادًا إلى استخلاف الله تعالى لها، ربّما لما ورد في القرآن الكريم في آية الاستخلاف: (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة)[18]، حيث يقول الشهيد الصدر (ره): “الخلافة التي تتحدّث عنها الآيات الشريفة المذكورة[19] ليست استخلافًا لشخص آدم (ع)، بل للجنس البشري كلّه؛ لأنّ من يفسد في الأرض ويسفك الدماء – وفقًا لمخاوف الملائكة – ليس آدم بالذات، بل الآدميّة والإنسانيّة على امتدادها التاريخي. فالخلافة إذن قد أعطيت للإنسانيّة على وجه الأرض”[20]

ثمّ يقول (ره): “واستخلاف الله تعالى خليفةً في الأرض لا يعني استخلافه على الأرض فحسب، بل يشمل هذا الاستخلاف كلّ ما للمستخلِف سبحانه وتعالى من أشياء تعود إليه، والله هو ربّ الأرض وخيرات الأرض، وربّ الإنسان والحيوان وكلّ دابّة تنتشر في أرجاء الكون الفسيح، وهذا يعني أنّ خليفة الله في الأرض مستخلَف على كلّ هذه الأشياء”، ويستنتج السيّد الشهيد (ره) من كلّ ذلك أنّ “الخلافة في القرآن أساس للحكم”، وأنّ “الحكم بين الناس متفرّع على جعل الخلافة”[21]، ويخلص إلى أنّ مفهوم الإسلام الأساسي عن الخلافة هو التالي: “أنّ الله سبحانه وتعالى أناب الجماعة البشريّة في الحكم، وقيادة الكون وإعماره اجتماعيًّا وطبيعيًّا، وعلى هذا الأسا تقوم نظريّة حكم الناس لأنفسهم، وشرعية ممارسة الجماعة البشريّة حكم نفسها بوصفها خليفةً عن الله”[22].

ولكنَّ هذا الاستخلاف ليس مطلقًا، بحيث يكون خاضعًا لأمزجة “الخلفاء”، وإنّما يقوم على قاعدة مرتبطة بالمستخلِف نفسِه، وذلك وفق التالي[23]:

أوّلًا: رابطة الإيمان بالله تعالى وحده سيّدًا ومالكًا.

ثانيًا: الحرّيّة الإنسانيّة من “عبوديّة الأسماء التي تمثّل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت”.

ثالثًا: التكافؤ في الكرامة الإنسانيّة والحقوق على قاعدة “الأخوّة العامّة في كلّ العلاقات الاجتماعيّة”.

رابعًا: الخلافة استئمانٌ يفترض “المسؤوليّة والإحساس بالواجب”، على أن تتقيّد هذه المسؤوليّة بالحكم بالحقّ وأن “تؤدّي إلى الله تعالى أمانته بتطبيق أحكامه على عباده وبلاده”.

وبذلك يضع السيّد الشهيد (ره) خطّا فاصلًا تتميّز من خلاله “خلافة الجماعة بمفهومها القرآني والإسلامي عن حكم الجماعة في الأنظمة الديمقراطيّة الغربيّة؛ فإنّ الجماعة في هذه الأنظمة هي صاحبة السيادة، ولا تنوب عن الله في ممارستها، ويترتّب على ذلك أنّها ليست مسؤولة بين يدي أحد، وغير ملزمة بمقياس موضوعي في الحكم، بل يكفي أن تتّفق على شيء ولو كان هذا الشيء مخالفًا لمصلحتها ولكرامتها عمومًا، أو مخالفًا لمصلحة جزءٍ من الجماعة وكرامته ما دام هذا الجزء قد تنازل عن مصلحته وكرامته”[24].

ويتحدّث السيّد الشهيد (ره) عن أنّ الأمّة هي صاحبة الحقّ في ممارسة السلطة التشريعية والتنفيذيّة، وأنّ هذا الحقّ منبثق من فكرة الخلافة العامّة – ممّا أشرنا إليه سابقًا –فيقول ما لفظه: “تمارس الأمّة دورها في الخلافة في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيّتين التاليتين: (وأمرهم شورى بينهم)، (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، فإنّ النصّ الأوّل يعطي للأمّة صالحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى ما لم يرد نصّ خاصّ على خلاف ذلك، والنصّ الثاني يتحدّث عن الولاية، وأنّ كلّ مؤمن وليّ الآخرين، ويريد بالولاية تولّي أموره، بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، والنصّ ظاهر في سريان الولاية بين كلّ المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية، وينتج عن ذلك الأخق بمبدأ الشورى وبرأي الأكثريّة عند الاختلاف”[25].

وبذلك تتحوّل مسألة الشورى إلى آليّة ضروريّة لممارسة الأمّة لحقّ الاستخلاف، وهي تفترض أن يكون شكل نظام الحكم شكلًا قائمًا على مبدأ الشورى، وهي تعني، عمليًّا، استثمار تعدّد وجهات النظر والخصوصيّات والتخصّصات في سبيل تحقيق أعلى قدر من الموضوعيّة في تشخيص الواقع وتحديد الأحكام وتطبيق المصالح، وذلك ضمن الحدود الشرعيّة بطبيعة الحال؛ لأنّها بذلك تناقض مبدأ الاستخلاف القائم على تحقيق إرادة الله تعالى على الأرض.

وإذا كانت الآيات المباركة أو الروايات لم تحدّد شكلًا معيّنًا للحكم الإسلامي، فإنّ آليّة الشورى تفرض أن يتحوّل الحكم إلى نظامٍ شوريّ، ولكنّ الشكل يبقى أمرًا خاضعًا لطبيعة الظروف الموضوعيّة؛ لأنّ الهدف هو تحقيق مصلحة المجتمع والأمّة على ضوء القيم الإسلاميّة والإنسانيّة المستندة إلى تعاليم السماء. وعندما نتحدّث عن النظام الشوري، فنحن نفترض هنا أنّ الشورى لا تمثّل فعلًا ساذجًا يطّلع فيه بعضٌ على رأي البعض الآخر، وإنّما هي عمليّة منظّمة تدخل في صلب عمل الدولة المنظّم ضمن مؤسّسات وأطر، تتناغم فيما بينها، بحيث تكون المحصّلة أقرب ما تكون إلى الواقع والحقّ والعدل.

ولعلّ السيّد الشهيد (ره) هنا لا يتبنّى نظريّة الشورى في مقابل ولاية الفقيه؛ إذ يذكر في كتابه الفتاوى الواضحة أنّ “المجتهد إذا توفّرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد.. جاز للمكلّف أن يقلّده كما تقدّم، وكانت له الولاية الشرعية العامّة في شؤون المسلمين، شريطة أن يكون كفوءًا لذلك من الناحية الدينية والواقعيّة معًا”[26]، فإنّ من الواضح لنا أنّ ذلك لم يلغِ اعتبار الشورى كآليّة في إدارة المرجع نفسه لشؤون ولايته، كما تقدّم آنفًا، ونحسبُ ذلك منطلقًا من وعي طبيعة ما يقتضيه النظام المرتبط بحركة الدولة والمجتمع.

إنّ ولاية الفقيه التي تظهر لنا في كتاب الإسلام يقود الحياة ليست مسألة فقهيّة يتمّ فيها إثبات أصل الولاية وتنتهي المهمّة عند ذلك، بل هي مسألة نظاميّة لا بدّ أن تجد مكانها الملائم في عمل الدولة، بحيث تؤدّي وظيفتها كضابط عامّ لإسلاميّة الحركة، وشرعيّة الإدارة السياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة وما إلى ذلك، بما يضمن حسن سير الدولة، بكلّ أجهزتها، على طبق موادّ الدستور، ومراعاتها للنظام المقرّ في كيفيّة التشريع والإدارة وتحقيق مصالح المجتمع والأمّة.

ولعلّنا نستطيع أن نتبيّن الأساس الذي بنى عليه السيّد الشيهد (ره) هذا التوجّه عندما نلاحظ الفروق التي ذكرها لخطّ الشهادة بين الأنبياء والأئمّة وبين المراجع، حيث إنّ المرجع “هو الإنسان الذي اكتسب من خلال جهدٍ بشريّ ومعاناة طويلة الأمد استيعابًا حيًّا وشاملًا ومتحرّكًا للإسلام ومصادره، وورعًا معمّقًا يروّض نفسه عليه حتّى يصبح قوّة تتحكّم في كلّ وجوده وسلوكه، ووعيًا إسلاميًّا رشيدًا على الواقع وما يزخر به من ظروفٍ وملابساتٍ ليكون شهيدًا عليه”، خلافًا لموقع النبوّة والإمامة، “فإنّهما رابطتان ربّانيّتان بين الله تعالى والإنسان النبيّ أو الإنسان الإمام، ولا يمكن اكتساب هذه الرابطة بالسعي والجهد والترويض”، كما أنّ ذلك الورع والرياضة لدى المرجع لا تبلغ به حدّ العصمة، ولا تجعله “مصونًا من الخطأ بحال من الأحوال”، ولذلك يحتاج إلى “شهيدٍ ومقياسٍ موضوعيّ”، وقد نخلص إلى أنّ ذلك ليس مرتبطًا بالعدالة والوعي والكفاءة من حيث الملكات والصفات النفسيّة فحسب، وإنّما من خلال طبيعة الآليّات التي تضمن تحقّق تلك الشهادة وذلك المقياس الموضوعي بأعلى قدرٍ من الدقّة والموضوعيّة من الناحية العمليّة والواقعيّة.

إنّ التنظير لعالم المرجعيّة في ضمن الدولة يحتّم علينا القول بأنّ “دور المرجع كشهيد على الأمّة” إنّما يبتني على كونه صاحب الصلاحيّة للدور الربّانيّ الذي “لا يمكن التخلّي عنه”، ودورٌ أساسيّ “في إطار الخلافة العامّة للإنسان على الأرض” باعتباره الواسطة في إثبات ما يريده المُستخلِف بما علمه من كتاب الله عبر حركة اجتهاده، ولكنّه – كما يقول الشهيد الصدر (ره) – “دور بشريّ اجتماعيّ يستمدّ قيمته وعمقه من مدى وجود الشخص في الأمّة، وثقته بقيادته الاجتماعيّة والسياسيّة”[27].

وبذلك تتكامل المسؤوليّة – في نظر السيّد الشهيد (ره) – بين خطّين: “المرجع والأمّة”، ويتحقّق ذلك عمليًّا في “الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنيّة”، فلا تمارس الأمّة خلافتها بدون شهيدٍ يضمن عدم انحرافها ويشرف على سلامة المسيرة ويحدّد لها معالم الطريق من الناحية الإسلاميّة، ولم يشأ من الناحية الأخرى أن يحصر الخطّين معًا في فردٍ ما لم يكن هذا الفرد مطلقًا، أي معصومًا”[28].

عناصر الدولة الإسلاميّة

إلى هنا قد نستطيع أن نستنتج العناصر الضروريّة في عمليّة بناء الدولة الإسلاميّة وفي حركتها بما يضمن استمراريّة أدائها لمسؤوليّاتها في خطّ الخلافة الإلهيّة الممنوحة لها:

1ـ المرجعيّة بواقعها المنظّم الذي تمثّل فيه موقع المشرف والموجّه والضابط لحسن سير الدولة بنظامها وحركتها على طبق الدستور والقوانين المرعيّة الإجراء والمنسجمة مع الشريعة الإسلاميّة.

2ـ النظام المؤسّسي الذي يشكّل عنصر ترابط في عمل أجهزة الدولة من أعلى الهرم إلى قاعدته، وتشكّل آليّة الشورى أمرًا محوريًّا فيه.

3ـ الأمّة بوصفها تملك الحقّ في الخلافة، والذي يستتبع مسؤوليّةً ربّانيّة في ممارسة السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة.

وفي الختام نذكّر بأنّ هذا البحث كان عبارة عن قراءة تحليليّة موجزة لبعض الأفكار التي سجّلها السيّد الشهيد (ره) في أواخر حياته المباركة، والتي يُمكن لها أن تؤسّس لحراك فكريّ بنّاء، يجعل أطروحته القاعدة التي تنطلق منها عمليّة بناء الدولة، في مرحلة حسّاسة من تاريخ العراق والمنطقة؛ والله من وراء القصد.

السيد د. جعفر فضل الله

بيروت: 16/ج2/1436هـ – الموافق لـ: 5/4/2015م

[1]  هي الثورة التي قادها السيّد روح الله الموسوي الخميني (ره) على الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، وذلك في ١١ شباط/فبراير ١٩٧٩م، وتحقّقت على أساسها نشأة دولة إسلامية تستند إلى فقه أهل البيت (ع) في قوانينها.

[2]  أسّس السيّد محمد باقر الصدر (ره) حزب الدعوة الإسلامية مع مجموعة من الحركيّين الإسلاميّين في العراق في عام 1957م، وهو يستند إلى التجربة الحزبية الحديثة، ولكنّه قام بقيادة العلماء، وكان السيد الصدر هو الفقيه الذي استندت إليه هذه الحركة الحزبية في أدبيّاتها وقوانينها، لتمثّل بذلك حركة إسلاميّة حديثة.

[3]  الصدر، محمد باقر، الإسلام يقود الحياة، موسوعة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصصة للشهيد الصدر، دار الصدر، قم، إيران، ج5 ص25.

[4]  سورة البقرة، الآية 213.

[5]  الإسلام يقود الحياة، م. س.، ص14-15.

[6] سورة البقرة، الآية 38.

[7] سورة الزخرف: ٥٤.

[8] فضل الله، السيد محمد حسين، فقه الشّريعة، ج١، ص١٩، م٣٠.

[9]  انظر: الحسيني، محمد، الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، ص 343، 342 (الأساس رقم4).

[10] النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم، ج6، ص20.

[11]  انظر: الإسلام يقود الحياة، م. س.، ص19.

[12]  الإسلام يقود الحياة، م. س.، ص20.

[13]  الإسلام يقود الحياة، م. س.، ص21.

[14]  الإسلام يقود الحياة، م. س.، ص21.

[15]  الإسلام يقود الحياة، م. س.، ص22.

[16]  سورة البقرة، الآية 143.

[17]  الحسيني، محمد، محمد باقر الصدر حياة حافلة وفكر خلّاق، ص321.

[18]  سورة البقرة، الآية 30.

[19]  قوله تعالى: (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة…)/البقرة 30-33، وقوله تعالى: (وإذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح)/الأعراف: 69، وقوله تعالى: (ثمّ جعلكم خلائف في الأرض)/يونس: 14.

[20]  الإسلام يقود الحياة، م. س.، ص127.

[21]  المصدر نفسه، ص128.

[22]  المصدر نفسه، ص128.

[23]  المصدر نفسه، ص128-129 (بتصرّف).

[24]  الإسلام يقود الحياة، م. س،، ص130.

[25]  المصدر نفسه، ص 161

[26]  الصدر، محمد باقر، الفتاوى الواضحة، ص115.

[27]  الإسلام يقود الحياة، م. س.، ص162.

[28]  المصدر نفسه، ص161.