جدليّة السلام والقوّة في الإسلام


تمهيد

تشكّل مفردة السلام واحدةً من المفاهيم الملحّة على المسرح العالمي، في عالمٍ يضجُّ اليوم بالحروب والعدوان، حتّى تكاد الحالات السلميّة تُعدّ فترات استراحةٍ بين حربٍ وأخرى. ولعلّ ما زاد الأمور تعقيدًا في مجالنا الإسلامي، أنّ الحروب الجارية في بلادنا تتمّ بأيدينا كمسلمين، حتّى كأنّنا نقوم بإثبات الدعايات التي روّج لها المستشرقون وغيرهم، في أنّ ديننا هو دينُ حربٍ، وأنّ قرآنَنا أنزل لأجل الذبح والقتل والتدمير، بما جعل الكثير من الدفاعات التي واجه بها المسلمون أولئك مجرّد أمور نظريّة لا يمكن أن تمحو الصّورة التي تمّ إخراجها بجودةٍ عاليةٍ.

مع ذلك لا نريد هنا أن نجلد أنفسنا، والمسلمون بشرٌ، يأتي عليهم ما يأتي على أقرانهم من الجماعات والشعوب، كما لسنا هنا بصدد زيادة الدفاع عن ديننا، بقدر ما نريد القيام بمحاولة استكشاف للنظرية الإسلاميّة للسلام، والعلاقة بين السلام والقوّة.

ما نسعى للإجابة عليه هو عدد من الأسئلة التي تطرحها العلاقة بين السلام والقوّة: ما هي طبيعة هذه العلاقة؟ وهل يُبنى السلام على الضّعف؛ السياسي أو العسكري أو غيرهما؟ أم أنّ المعادلة أنّه لا يمكن تحقيق سلامٍ حقيقيّ من دون القوّة؟ وإذا نُظر إلى عمليّة بناء القوّة على أنّها إغراء بالاعتداء، ألا يبدو مناقضًا أن نربط بين مفهوم السلام والقوّة، ولا سيّما تجاه الضّعفاء، كما نشهده في مساحات العالَم؟ وكيف يمكن حلُّ هذا التناقض الظاهري؟ وأيُّ نوعٍ من القوّة بالتالي التي يوجّه الإسلام إلى بنائها؟

وبهدف معالجة هذه القضايا نرى بأنّ المدخل المناسب هو تحديد النظرية الإسلامية لبناء القوّة؛ لأنّ الإشكاليّة تنبع في أوجهها منها، وهو ما نطرحه ضمن النقاط التالية:

أوّلًا: النظرة الكلّية للإنسان

يطرح القرآن الكريم بُعدين للإنسان، وهما البُعد الجسدي الطيني والبُعد الروحي؛ قال تعالى: (إنّي خالقٌ بشرًا من طينٍ فإذا سوّيته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين)[1]، وهذان البُعدان ليسا مفصولين في حركتهما عن بعضهما البعض، بل هما مندكّان في حركة متفاعلة في الاتجاهين؛ بحيث إنّ البُعد الروحي يؤثّر في البُعد الجسدي، كما أنّ البُعد الجسدي يؤثّر في البُعد الروحي.

قد نلمح شاهدًا على ذلك ما هو المعروف في الفقه الإسلامي من التخفيف لبعض العبادات على المريض أو رفع الحرج ونفي الضرر، ممّا قد نفهمه على أنّه لئلّا تنوء الروح تحت ثقل إجهاد الجسد.

صحيح أنّ الرؤية الإسلامية للارتقاء الروحي قائمةٌ على جهاد النفس، وهو قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبُلنا وإن الله لمع المحسنين)[2]، أو بما أثر عن النبيّ الأكرم (ص) عند استقباله لسريّة قائلًا لهم: “مرحبًا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر”[3]؛ لكنّ الجهاد غير الإجهاد؛ إذ الثاني يقتل الروح من خلال إرهاق الجسد بالحمل عليه ما لا يطيق، بينما الأوّل تقويّة للروح ضمن برنامج كبح عناصر يمكن لها أن تقتل الروح بشكل غير مباشر.

ثانيًا: التركيب الغرائزي

أشرنا في النقطة الأولى إلى أنّ الجهاد هو عمليّة تدرييب للنفس، تملك من خلالها كبح عناصر قاتلة للروح، وما قصدناه هناك هو الغرائز، لا بمعنى أنّ المطلوب تعطيلها بالكامل؛ فإنّ لهذه الغرائز وظيفة أساسيّة لحياة الإنسان، ومن دونها لا يستطيع الاستمرار والتقدّم، بل المقصود كبحها بمعنى السيطرة عليها وتعطيل انفلاتها من دون ضوابط حاكمة، وتحديدًا من قبلِ العقل.

لعلّ نظرة فاحصةً للسبب الرئيس الذي نفذ من خلاله الشيطان إلى أدم وحوّاء، هو هذا الجانب الذي يشكّل الاستسلام له تعطيلًا للعلاقة الروحية التي تفترض الاحتكام للأمر الإلهي، يمكن لهذه النظرة أن تحيلنا إلى الجانب الغرائزي، وتحديدًا غريزتا حبّ البقاء والتملّك؛ قال تعالى في حكاية عن مراودة إبليس لآدم: (هلّ أدلُّكَ على شجرةِ الخُلدِ ومُلكٍ لا يبلى)[4]، حيث تسبق هاتان الغريزتان أيّ تشكّل ثقافي للإنسان، وأي تراكم في التجارب.

في ربطٍ لهاتين الغريزتين وتأثيرهما مع أصل قصّة أدم في العَرض القرآني، نستطيع أن نقرّر أنّ طريقة التعامل مع هاتين الغريزتين هما اللتان تحدّدان الوجهة الرئيسة لحياة الإنسان بكل تمظهراته، الفرديّة والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية وما إلى ذلك. هذا الأصل الذي نشير إليه هو المبيَّن في قوله تعالى: (وإذ قال ربُّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدّماء)[5]، فكأنّ الإفساد وسفك الدّم هو نتيجة طبيعية لحركة منفلتة لغريزتي حبّ التملّك التي يسعى من خلالها الإنسان للحصول على المُلك بشتى الطرق، وحبّ البقاء التي تجعل الإنسان يقتل أخاه الإنسان، ولا يخفى ما لتعبير القرآن عنهما بالشجرة من دلالة على تشعّبه وتفرّعه وتجذّره في آنٍ معًا.

ثالثًا: أسلحة ابن آدم

بعد أن أشرنا أخيرًا إلى خطورة انفلات الغرائز الطبيعية من عقال الإنسان، عبر ربطها بالإفساد وسفك الدم، بما أجبنا فيه ضمنًا على السؤال الذي قد يُطرح حول مبرّر أو ضرورة كبح جماح الغريزة، نحتاج إلى الإجابة على سؤال: ما هي الوسائل التي من خلالها يمكن كبح هذه الغرائز والسيطرة عليها؟

من خلال العرض القرآني ذاته حول أصل الخليقة، وهو ما نراه يستحقّ قراءة بنيويّة معمّقة، نستطيع أن نلمح ثلاثة أسلحة أساسيّة تمّ إمداد الإنسان والإنسانيّة بها:

السلاح الأوّل: العقل، وهو ما نفهمه من تعليم آدم للأسماء: (وعلّم آدمَ الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علمَ لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم)[6]. وهذا التعليم ليس مجرّد انطباعات لصور، وإنّما هو عمليّة تفكير إبداعية، يستطيع من خلالها عقل الإنسان أن يتعامل مع الأشياء والمفاهيم حولها بطريقة خلّاقة، وهو الذي ميّزه عن الملائكة الذين يبدو أنّهم كائنات مبرمجة مهمّاتيًا، بمعنى لأداء مهمّات محدّدة، ممّا قد يراه البعضُ كنايةً عن القوانين والسنن الخاضعة لمشيئة الله وإرادته.

السلاح الثاني: تسخير القوانين والسنن للإنسان، وهذا ما قد نلمحه أمر الله للملائكة بالسجود لآدم، وبالتالي جُعل ما في الكون خاضعًا للإنسان لكي يستفيد منه في تحقيق مسيرته نحو تحقيق أهدافه. وهذا الميدان يشتمل على كلّ قوانين الحياة والطبيعة، ممّا أعطي الإنسان العلم والقدرة على الاكتشاف، بما يؤدي إلى استثمار ذلك في شتّى مجالات الحياة.

السلاح الثالث: الهداية التشريعية أو الرساليّة، وذلك لمواكبة الإنسان في حركة التاريخ، وذلك هو قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعًا فإمّا يأتينَّكُمْ منّي هدًى فمن تبعَ هُدايَ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون، والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون)[7]. هنا يبرز دور الدّين كعنصر رئيس في تحقيق السّعادة والأمن للإنسان، بكلّ تمظهراته، بنحوٍ لا يشلُّ الإنسان بقدر ما يرتقي به، ويفجّر طاقاته، انطلاقًا ممّا يمثّله معنى الهداية التي تلتقي بهداية الدّاخل (العقل)، لتخلق تكاملًا لدى الإنسان في تحقيق القناعة فيما يسعى إليه في الحياة ويهدي إليه الدّين أو الرسالة السماوية.

رابعًا: طبيعة المعركة أو الصراع

استنادًا إلى كلّ ما تقدّم، فإنّ الصِّراع الحقيقيّ للإنسان يبدأ من الداخل نحو الخارج، وهذا ما قد نراه في المبدأ القرآني الذي يتحدّث عن “هبوط” الإنسان والشيطان إلى الأرض: (فأزلّهما الشيطانُ عنها فأخرجهُما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضُكُم لبعضٍ عدوّ ولكم في الأرض مستقرّ ومتاعٌ إلى حينٍ)[8]، حيث يحدّد الانتصار الدّاخلي على الشيطان – الذي يعملُ على عناصر ضعف الذات – وجهة التعامُل مع الواقع الخارجي.

وتمثّل الهداية الرساليّة التي أشرنا إليها سابقًا، من خلال مواكبة الوحي والنبوّات أساسًا لتمكين الإنسان من بناء القوّة الذاتية، في مواجهة الشيطان، تلك القوّة القائمة على مبدأ الإيمان بالدرجة الأولى.

لكنَّ هذه القوّة لا تنشأ فقط من أداء العبادات أو الطقوس، بل ترتكز أيضًا على الرؤية الكلّية التي تحكم علاقات الإنسان مع سائر الموجودات، الحيّة والجامدة، وما الذي يراه الإنسان جوهرًا وما الذي يراه عَرَضًا ووسيلةً، وأين يتموضعُ لديه العقلُ والغريزة، وحاجات الروح والجسد، وموقع القيم في حركة حياته.

وهنا يمكن أن نشير إلى عدد من المعادلات ضمن العنوان الآتي.

خامسًا: معادلات إدارة الصِّراع

المعادلة الأولى: كلّما كان الإيمانُ قويًا والرؤية واضحةً والوسائل متاحة كان الإنسان أقدرَ على التحكّم بنوازعه الذاتية أمام ما يثيرُها في الحياة.

فمن ينظُر إلى المال بحجمه ودوره في الحياة، فليس على أساسه تتحدّد قيمة الإنسان ولا هويته، ولا يختزلُ اهتمامَه وجهده، وإنّما هو وسيلةٌ لتحقيق غايات أسمى: (وابتغِ فيما آتاك اللهُ الدّارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبَكَ من الدُّنيا وأحسنْ كما أحسنَ اللهُ إليكَ ولا تبغِ الفسادَ في الأرض)[9]، سوف يكونُ تعامُلُه مع غريزة التملّك التي تدفعُ الإنسان إلى الاعتداء على حقوق الآخرين، والسيطرة على مقدّراته، ونهبِ ثرواتهم، على طريقة ما صنعه الاستعمار، السافر والمقنّع، قديمًا وحديثًا، بل سيكون ذلك وفق مرجعيّة الحقّ، وعلى قواعد من قبيل: (لا تمدَّنَّ عينيكَ إلى ما متّعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدُّنيا لنفتنهم فيه)[10]، ومن قبيل: (ولا تتمنّوا ما فضَّلَ اللهُ به بعضَكُمْ على بعضٍ)[11]، ومن قبيل أهم قاعدة تأسيسيّة للعلاقات الاقتصاديّة بين البشر، وهي قاعدة التسخير التي يشير إليها قوله تعالى: (نحنُ قسَمْنا بينَهُم معيشتهم في الحياة الدُّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجاتٍ ليتّخذ بعضُهُم بعضًا سُخريًا)[12]، وما إلى ذلك من آياتٍ وأحاديثَ شريفةٍ عالجت موضوع المال والبُخل والحسد وطبيعة النظرة إلى النعمة ووظيفتها ومسؤوليّتها في حياة الإنسان المؤمن.

طبعًا من المهمّ هنا النظر إلى الإيمان على أنّه ليس مجرّد الاعتقاد النظري بالعقائد والمفاهيم التي ينبغي على الإنسان اتّباعها، بل هو تحوّل ذلك الاعتقاد إلى حالة وجدانيّة حيّة ومحرّكة، أو إلى حالة “قلبيّة” – حيث القلبُ كناية عن امتزاج الفكرة بالشعور- على هدى قوله تعالى: (قالتِ الأعرابُ آمنّا قل لم تؤمنوا ولكنْ قولوا أسْلَمْنا ولمّا يدخلِ الإيمانُ في قلوبكم)[13]. هذه القوّة القلبيّة هي التي تجعل التطبيق العمليّ لأي فكرة إيمانيّة تلقائيًا.

هنا يمكن النظر إلى حجم القوّة الإيمانية الروحية المطلوبة لتفعيل نكران الذات والقرابة وسائر الانتماءات التي تضغطُ عادةً على مشاعر الإنسان وتدفعه للانسجام معها، حيثُ القرابة قد تجعل الإنسان يحيفُ عن الحقّ والعدل، وكذلك العداوة تدفع الإنسان إلى عدم القسط مع العدوّ، بينما يؤسّس القرآن الكريم لمبدأ القسط الحاكم لكل الانتماءات والمشاعر والنوازع: (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداءَ للهِ ولو على أنفسكم أو الوالديْن والأقربين)[14]، (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقِسْطِ ولا يجرمنَّكُم شنآنُ قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقربُ للتقوى)[15]. كلُّ ذلك لا يمكن تأسيس التوجّه السلمي العام من دونه؛ لأنّ الخلافات الاجتماعية والسياسية والأمنية وغيرها سببها في غالب الأحيان اندماج الفرد ضمن قيم الجماعة وعصبيّاتها، ممّا يجعل من القوّة عاملًا مساعدًا على الطغيان إذا لم يكن محتكمًا للقيم الأخلاقية العليا بعيدًا عن طبيعة الانتماء ومقتضياته.

المعادلة الثّانية: مهما امتلك الإنسان من أدوات القوّة فإنّ ذلك لا يبيح له الاعتداء على الآخرين وممتلكاتهم وأعراضهم، مهما كان هناك اختلافٌ في الدين أو المذهب أو العرق أو موازين القوّة. قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبُّ المعتدين)[16]، (أذن للَّذين يُقاتَلونَ بأنّهم ظُلموا وإنَّ الله على نصرهم لقديرٌ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ إلّا أن يقولوا ربُّنا الله)[17]، فإنّ هاتين الآيتين تؤكّدان على كون القتال دفاعيًا، عن النفس، أو عن الآخرين المظلومين كما في قوله تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القريةِ الظّالم أهلُها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا)[18]، أو وقائيًا كما نراه في آيات سورة براءة التي أتت في ظرف استمرار “الدسائس التي تكيد للإسلام والمسلمين، من خلال ما كان يظه رمن خيانة أو مشاريع مستقبلية للخيانة، وكانوا يخفون بعضًا من ذلك، يتهامسون به ويتناجون، وكانوا يُظهرون بُغضهم عند أول بادرة ضعفٍ يلمحونها هنا وهناك في حركة الإسلام والمسلمين”[19].

ولذلك يفرّق الله تعالى بين فئتين في طبيعة العلاقة التي تنبني بين المسلمين معهم، وذلك في قوله تعالى: (لاٰ يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ‌)[20]؛ ولذلك فليس الجهاد في الإسلام موجّهًا ضدّ الكافر بما هو كافرٍ، بل ضدّ المحارب المعتدي، ممّا يجعل الأصل هو السلام بين الشّعوب والدول والجماعات، وليس القتال والقتل وما إلى ذلك.

بل لعلّنا نلمحُ في ترديد الموقف في الآيتين الآنفتي الذكر، بين “أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم” بالنسبة للفئة المسالمة، وبين “أن تولّوهم” في الفئة غير المسالمة، أنّ الخضوع لهؤلاء في موقعهم القويّ والعدواني هو المرفوض، ممّا يجعل عمليّة صناعة القوّة، والتي يمكن أن تمرّ من خلال القتال إذا ما توفّرت ظروفه، هو القاعدة الأساسيّة، والتي من خلالها يتمّ إرجاع الحقّ إلى نصابه، والقيم إلى حاكميّتها على العلاقات بين الناس والشعوب والجماعات، قويّها وضعيفها، ممّا قد يحصلُ ذلك بأساليب عديدة، ليست دائمًا تفرضُ القتال المباشر.

المعادلة الثالثة: أيًا تكن الاعتبارات التي يتفاضلُ فيها البشرُ فإنّ ردّ العدوان يكون بمثله، وذلك هو قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثلِ ما اعتدى عليكم)[21]، فإنّ مسألة ردّ العدوان إذا كانت حقًّا للإنسان، فإنّه ليس له أن يجعل من العدوان دورةً لا تنتهي، وذلك عندما يزيد من منسوبِ ردّ الإعتداء كمًا أو نوعًا أو بكليهما، فمن سُبَّ فليس له أن يضربَ سابَّه، ومن اعتدي عليه بجراحةٍ فليس له أن يقتل بها، ومن كان له حقُّ القصاص بالقتل فليس له أن “يُسرف”[22] فيه، بمعنى أن يزيد عليه كمًّا، أو أن يقود بالمقتول غير القاتل.

بل قد وجدنا في بعض الآيات القرآنية أنّه “الحقّ” لا ينفي خيار العفو والإصلاح، وذلك في تغليب روحيّة السلام على العنف، فقال تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثلِ ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين)[23]، (وجزاءُ سيّئة سيّئة مثلُها فمن عفا وأصلح فأجره على الله)[24]. إنّ ذلك كلّه يؤسّس لروحية السلام النابعة من الذات، والمبنيّة على العلاقة مع الله، والتي قد يتنكّر فيها الإنسان لمصالحه، ما كان ذلك سبيلًا إلى أن يأخذ السلام مداه في العلاقات وفي الحياة. أمّا إذا كان العفو يؤدّي إلى إغراء المعتدي باعتدائه، فإنّ روحية السلام ذاتها تفرض معالجة الموقفِ بما يُشبه العمليّة الجراحيّة، التي لا يتمنّاها الطبيبُ ولكنّه يُدفعُ إليها لأجل تحقيق الشفاء لدى المريض، عندما لا يكون هناك سبيلٌ آخر.

ولا بدّ لنا من الإشارة هنا إلى أنّ موضوع الجهاد عمومًا قد خضع لدى المفسّرين والفقهاء لجدلٍ حول النظرية الكلّية، وقد أفضى ذلك إلى وجود آراء تجعل القتال أصلًا قائمًا على الاختلاف، بناءً على ما ورد في بعض الآيات من أمرٍ بالقتال والقتل وما إلى ذلك. وقد دعتْ مثلُ هذه الآراء إلى ضرورة تبرير وجود آياتٍ من قبيل ما ورد أعلاه، أو آيات التعامل السلمي مع أهل الكتاب، أو مثل قوله تعالى: (وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها)[25]، فقيل إنّها منسوخة بآية القتال، وهي قوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافًة كما يقاتلونكم كافّة)[26].

قال الجصّاص في (أحكام القرآن): “أما قوله‏ [وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ‏] فإنه أمر بقتل المشركين إذا ظفرنا بهم و هي عامة في قتال سائر المشركين من قاتلنا منهم و من لم يقاتلنا بعد أن يكونوا من أهل القتال لأنه لا خلاف أن قتل النساء و الذراري محظورا و قد نهى عنه النبي صلّى اللّه عليه و سلم و عن قتل أهل الصوامع فإن كان المراد بقوله‏ [وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ‏] الأمر بقتال من قاتلنا ممن هو أهل القتال دون من كف عنا منهم و كان قوله‏ [وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏] نهى عن قتال من لم يقاتلنا فهي لا محالة منسوخة بقوله‏ [وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏] لإيجابه قتل من حظر قتله في الآية الأولى بقوله‏ [وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا] إذ كان الاعتداء في هذا الموضع هو قتال من لم يقاتل‏”[27].

وقال الزمخشري في (الكشّاف): “المقاتلة في سبيل اللَّه: هو الجهاد لإعلاء كلمة اللَّه و إعزاز الدين‏ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ‏ الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين. و على هذا يكون منسوخا بقوله: (وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً). و عن الربيع بن أنس رضى اللَّه عنه: هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه و على آله و سلم يقاتل من قاتل و يكفّ عمن كفّ، أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ و الصبيان الرهبان و النساء. أو الكفرة كلهم؛ لأنهم جميعًا مضادّون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم، فهم في حكم المقاتلة، قاتلوا أو لم يقاتلوا”[28].

لا نريد هنا الاستغراق في هذه النقطة، بقدر ما أردنا الإشارة إلى بعض الآراء، وما تثيره برأينا من إشكاليّات أمام ما نطرحه من العلاقة بين السلام والقوّة، والحال، أنّ من الضروري التفريق بين الآيات التأسيسيّة للجهاد والقتال والعلاقات الكلية مع الجماعات، وبين الآيات ما بعد وقوع القتال، وهذا ما تمنحنا إيّاه الملاحظة المجموعيّة لآيات القرآن، والتي تجعل من الضروري النظر إلى أبعاضها على أنّه قد يكون قرينة على المراد من البعض الآخر، ممّا لا يسعنا بحثه في المقام، ولا سيّما أنّ فكرة النسخ بحاجة إلى الكثير من التأنّي والإخضاع للتدقيق السندي والدلالي؛ لما قد يتركه من تأثير على القرآن نفسه، بما يوجب تعطيل الإمكانيّات الدلالية تارة، وجعله تابعًا للحديث الظني الصّدور تارة أخرى، وهذه إشكاليّة كبيرة تفرض إعادة النظر فيها من قبل الباحثين.

المعادلة الرابعة: السعي نحو بناء القوّة إنّما هو لمنع فتح دورة الاعتداء من قبل الآخرين، وذلك هو قوله تعالى: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباطِ الخيلِ تُرهبون به عدوَّ الله وعدوَّكُم)[29]، وذلك حيثُ يكون الضعفُ مغريًا للآخرين بالاعتداء على الضعفاء، فيُطلبُ أن يكون الإنسان، فردًا أو مجتمعًا، في عمليّة دائمةٍ لصناعة القوّة، وذلك لكي يخلقَ الرّهبة في نفوس المعتدين، فتتحقّق بذلك معادلة الردع عن الاعتداء.

ومن الواضح لنا أنّ هذه الآية ليست آية تأسيس للعدوانية والإرهاب[30] كما يتمّ استخدامها سوءًا، بل هي آيةٌ تؤسّس للسلام انطلاقًا من معادلات القوّة الرادعة عن العدوان لدى الذين لا يحتكمون إلى قيم عليا، ويرتكزون إلى امتلاكهم للقوة للتعدّي على حقوق الآخرين، قتلًا أو تشريدًا أو مصادرةً لثروات أو منعًا من حريّة وما إلى ذلك.

ولعلّنا نستطيع تعميق هذه الفكرة من خلال مبدأ الدّفع الذي أشار إليه قوله الله تعالى: (ولولا دفعُ الله النّاس بعضهم ببعضٍ لهدّمت صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرنَّ الله من ينصره إنّ الله لقويّ عزيز)[31]، و(ولولا دفعُ الله النّاس بعضهم ببعضٍ لفسدتِ الأرضُ)[32].

هذا وقد اختلفَ في معنى الدّفع، فقال بعضهم: دفع بالكفار بعضهم ببعض شرّهم عن المسلمين، لمّا شغل بعضهم ببعض، و جعل بعضهم لبعض أعداء إلى أن لم يتفرّغوا عن أنفسهم للمسلمين، و إلا كان‏ فى ذلك فساد الأرض. و قال آخرون: دفع بالرسل و الأنبياء شرهم عن المسلمين، و كفاهم بهم.

و قال غيرهم[33]: دفع بالمؤمنين بعضهم عن بعض- دفع بالمجاهدين فى سبيل اللّه عن القاعدين عن الجهاد، و إلا لغلب المشركون على الأرض. و قيل[34]: بدفع بالمصلّي عمن لا يصلّي، و بالمزكّي عمن لا يزكّي، و بالحاجّ عمن لا يحجّ، و بالصائم عمّن لا يصوم.

ثم اختلف فى قوله: (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ‏)، فقيل: لو لم يدفع بعضهم ببعض لقتل بعضهم بعضًا، و أهلك فريق فريقًا، و فى ذلك تفانيهم و فسادهم، و فى ذلك فساد الأرض.

و قال آخرون: لو لم يدفع لفسدت الأرض، أراد بفساد الأرض فساد أهلها؛ لأنه لو لم يدفع لغلب المشركون على أراضي الإسلام و أهلها. فإذا غلبوا فسد أهلها. و قال: (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)، إذا غلب المشركون عليها هدّمت المساجد و الصوامع، ففيه فساد الأرض.

وفي الواقع، فإنّ هذه التفاسير تنحو نحو النظر الجزئي إلى الموضوع، على نحو السبب والنتيجة المباشرة بين الدفع وعدم الفساد، وفي علاقة الأمر بين المسلمين وغيرهم، ولا سيما مع ورود تينك الآيتين في سياق ذكر الحرب والقتال. ولكنَّ طبيعة صوغ هاتين الفقرتين من الآيتين يرجّح أنهما بصدد بيان قاعدة عامّة، وهي أنّ اختلاف النّاس في عناصر القوّة والضّعف من جهة، وفي الخصوصيّات من جهة ثانية، يجعل هناك حركة تدافع في إثبات كلِّ جماعة أو شعبٍ أو فئة لنفسها من خلال ما تملكه من قوّة، سواء كانت قوّة مادّية أو معنويّة، اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو علميّة أو ما إلى ذلك، ونتيجة هذا التدافع يحصل التوازن في الحياة الذي يحفظ كثيرًا من مواقع القيم أو “ذكر الله” كما عبّرت الآية الأولى منهما.

طبعًا الفئة المؤمنة مسؤولة عن المساهمة في عملية التدافع انطلاقًا من منظومة القيم العليا، والتي يمكن أن تحرّكها بكل الوسائل الممكنة، حتى إذا فُرضت الحربُ عليها كان ردّ الاعتداء عليها باستخدام القوّة العسكرية، كوجه من وجوه الدفع الذي يعيد المعتدي إلى منظومة القيم.

ولعلّنا نشير إلى ذلك من خلال الآية التي تحدّثت عن البغي في قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغَتْ إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمرِ الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنّ الله يحبُّ المقسطين)[35]، فإنّها وإن كانت واردة في البغي الداخلي، فإنّ المبدأ الذي ارتكزت إليه يشير إلى المعنى الذي رمينا إليه، من أنّ الفئة المؤمنة لا تلجأ إلى القتال بهدف الاعتداء، بقدر ما هو خيار إصلاحي تلجأ إليه نتيجة وجود الداعي إليه من قبل الطرف الآخر، الباغي أو المعتدي بحسب الآية.

المعادلة الخامسة: أنّ الاختلاف بين البشر هو ضرورة تقتضيها حركة الحياة بل تطوّرها، ويمكن تأسيسه على المعادلة السابقة، أعني التدافع. وعليه، فإنّ الاختلاف إنّما يكون تأسيسًا للصراع والعنف إذا اجتمع مع البغي، وذلك قوله تعالى: (كان الناسُ أمّة واحدة فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم)[36]، فالبغي كناية عن عدم الاحتكام إلى الحقّ أو الاستكبار تجاهه، وهو الأمر الذي يلتقي بالمعادلة الأولى، ولكنْ أفردناها هنا للتأكيد على عدم كون الاختلاف بمجرّده سببًا للحروب والعنف، وإنّما هو أمرٌ آخر متّصلٌ بطريقة تعبير الذات عن نفسها في علاقتها مع الآخر، كما في تعاملها مع الحقّ.

وهذا الأمر نلمحه بقوة في اعتراف الإسلام بوجود الجماعات الدينية الأخرى، والبناء على المشترك بينه وبينها، وأنّ الفصل بينهم إنما هو في يوم القيامة، وهو ما نجده في قوله تعالى: (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)[37]، وقوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسنُ إلّا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهُنا وإلهُكُم واحدٌ ونحن له مسلمون)، وقوله تعالى: (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة إنّ الله على كلّ شيء شهيد)[38]. وأمّا الحالة العدوانيّة التي قد تنشأ فهي قائمة على أساس عدم تفعيل منظومة القيم – التي هي قيمٌ مشتركة في الرسالات السماوية – والاستكبار: (لتجدنَّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنَّ أقربهم مودّةً للذين آمنوا الذي قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون)[39]، وهي ما يوجب البغي والاعتداء ممّا قدّمنا الحديث عنه.

المعادلة السادسة: كلما كان الإيمان أقوى والعبوديّة لله أعمق كان الالتزام بالقيم السلمية واقعيًا وذا قوّة ذاتيّة؛ لأنّ الاعتداء كما حاولنا التأسيس له في بداية المقالة ينشأ من نوازع الذات والأنا وما تتمظهر فيه من الاستكبار والاستعلاء والطغيان على ما أمر الله ونهى وما إلى ذلك، وذلك هو ما أشار إليه الله تعالى بقوله: (كلّا إنَّ الإنسان ليَطْغى، أن رآهُ استغْنى)[40].

ولذلك تمّ الربطُ في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلمِ كافّةً ولا تتّبعوا خطواتِ الشيطان إنّه لكم عدوٌّ مبين)[41]، بين الدخول في السلم وبين عدم اتّباع خطوات الشيطان[42]. فالسلم يعني “الوفاق الاجتماعي الذي يبتعد عن جوّ الصِّراع والخلاف والقتال”، وهذا لا يكون إلّا “بالوقوف على الخطّ الواحد الذي تجتمع عليه الأمّة بعيدًا عمّا يفرّقها ويوزّعها أشتاتًا متنازعة مختلفة”[43]، وهو الأمر الذي لا يمكن بناؤه إلّا على أساس توحيد الرؤية والأهداف والقيم التي تحكم النّاس، وهو ما يمكن أن يشير إليه مفهوم “حبل الله” الوارد في قوله تعالى: (واعتصموا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تفرّقوا واذكروا إذ كنتم أعداءً فألَّفَ بين قلوبكم فأصبحتم بنعمتِهِ إخوانًا)[44]. أمّا خطوات الشيطان فهي تمثّل “ما يثيره في النفس من وساوس الشرّ، ونوازع الشكّ، وعوامل الانحراف؛ فيفقده وعي الإيمان، فيرى الحقّ باطلًا والباطل حقًّا، وتضطربُ مقاييسه عندما يختلف لديه ميزان الرؤية للأشياء”[45].

إنّ خطوات الشيطان هي التي تجعل الإنسان يبرّر لنفسه حرب المؤمنين بحجّة أنّه يحارب انحرافهم، في الوقت الذي قد لا ينطلق ذلك إلا إلى نوازعه الذاتية وهواه الشخصي، وهي التي تجعل الإنسان يجعل الاختلاف في الرأي أو المذهب أو الدين أو العرق أو ما إلى ذلك أساسًا للعدوان، بحجّة الدفاع عن الحقّ، بينما قد لا يكون ذلك إلا جزءًا من حبّ المُلك وشهوة السيطرة وما إلى ذلك.. وبالتالي فإنّ متابعة الإنسان الدائمة للشيطان والحذر من خطواته، والتعرّف على أساليبه، سواء كان الشيطان شيطان إنسٍ أو جنّ، فردًا أو جماعةً أو دولة، يمثّل جزءًا من عمليّة الحذر الدائم من الوقوع في شرك الباطل المقنّع باسم الحق، والعنف المختفي وراء حالة سلميّة عابرة.

المعادلة السابعة: مهما كان الوازع الذاتي قويًا، فإنّ المجتمع لا بدّ أن يتحرّك وفق آليّات تأسيسية لضبط نوازع الضعف الذي قد ينشأ حتى عند المؤمنين فيدفعهم للانحراف عن القيم، وبالتالي قد يجورون على غيرهم، وقد يعتدون على الضّعفاء انطلاقًا من شعورٍ بالزهو في لحظةٍ ما، واستكبارٍ في ساعة تخلٍّ. ومن هذا المنطلق نفهم لماذا شرّع الإسلام الحدود والديات والكفّارات وما إلى ذلك.

كما أنّنا نجد أنّ ذلك شمل أحكامًا لتعطيل أجواء الحرب وإشاعة روح السَّلام، كما في تحريم القتال في الأشهر الحُرم، أو جعل الحرم مكانًا آمنًا، ممّا قد نجد أنّه إشارة إلى ضرورة الاعتناء بالآليّات المساعدة للإنسان على الانضباط، إضافة إلى عامل الضّبط الذاتي للإيمان.

ويخطئ كثيرون عندما ينظرون إلى العامل الإيماني على أنّه يمثّل كلّ السبب في الانضباط، ثمّ تراهم يجدون أنّ المجتمع الإيماني ليس بدعًا من المجتمعات التي تخطئ وتنحرف أو تنجرف وراء بعض غرائزها وشهواتها وأطماعها وما إلى ذلك. هنا نستطيع أن نستوحي من جعل الزمان أو المكان الحرام، ضرورة العمل على البيئة الآمنة، والتي تفعَّلُ فيها آليّاتٌ عديدة تقوّي إرادة الإنسان في الثبات، وتعيق عوامل الضعف الآنية من أن تؤثّر في سلوك الإنسان.

الخلاصة النظرية:

انطلاقًا ممّا تقدّم، وبضمّ هذه المعادلات بعضها إلى بعضٍ، نستطيع أن نخرج بخلاصةٍ نظريّةٍ، وهي أنّ الأصل في الحياة هي العلاقات السلمية بين البشر ، وأنّ الاستعداد الأوّلي الذي يجب أن يبني عليه الإنسان توجّهه النفسي ومنهجه في إدارة علاقاته بالآخرين، هو روحية السلام وتفعيلها عن طريق كلّ آليّة ممكنة، تجعل الاختلاف والتنوّع باعثًا على إغناء الحياة والتجربة الإنسانية وتراكمها.

هذا الاستعداد يجبُ بناؤه على أساس التربية الإيمانية الروحية والعملية، والتحكّم بالنوازع الذاتية التي قد تغري الإنسان بالعدوان والطغيان والبغي، بحيث تتحوّل القوّة في المنظور الإسلامي إلى قوّة لتحقيق التوازن في الحياة ومنع الاعتداء من قبل الآخرين على الضعفاء، وهذا الإيمان هو الذي يجعل الالتزام بالقيم السلمية أشدّ ويتحرّك بدافع ذاتيّ. وهذه التربية ذاتُها هي التي تجعل الإنسان يتنكّر لانتماءاته المتنوّعة إذا لم تكن محكومة بالقيم، وبذلك يتمّ تفكيك عناصر التفجير للعنف.

وعندما تدعو الظروف إلى استخدام القوّة، فإنّ الانضباط في ردّ العدوان بمثله يمنع صاحب القيم من شحن دورة العدوان، بقدر ما يضعُ للعدوان حدًّا يُرجع الأطراف إلى التوازن والقسط.

وعليه، فالسعي نحو امتلاك وسائل القوّة أمرٌ مرغوبٌ فيه، ولكنّه لا بدّ أن يتحرّك جنبًا إلى جنبٍ مع التربية الإيمانية، وتعزيز الوسائل والأدوات التي تساعد على تفعيل الروح السلميّة في المجتمع وبين الشعوب.

وعلى أساس ذلك أيضًا، نستطيع أن نناقش الفكرة التي يتمّ الترويج لها، وهي أنّ إرادة السلام لا تجتمع مع اليقين الإيماني، وهو ما شاهدناه في الحركات المتطرّفة التي تحوّل يقينُها الإيماني إلى حالةٍ من العدوانية على الأبرياء والآمنين؛ لأنّنا نرى أنّ الحالة الإيمانية اليقينية بقوّة الله ليست عامل طغيان؛ لأنّها جزءٌ من منظومة كوابح للإنسان؛ بحيث إنّ الشعور بالقوّة الإلهيّة فوق الإنسان المؤمن، إضافة إلى تحريم الله تعالى له الاعتداء على الآمنين، وترويع المطمئنّين، واستغلال ممتلكاتهم وثرواتهم لمصالحه وأهوائه وأطماعه، من شأنهما معًا أن يحقّقا التوازن، لكي لا يتحوّل الإنسان إلى مستخدمٍ لقوّته بحجّة الدفاع عن الله تعالى أو عن دينه بما لا يرضيه، فإنّ ذلك قد ينقل في الحقيقة اللاواعية الألوهيّة من الله إلى الإنسان “باسم الله”، فالله (هو الغني الحميد، إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد وما ذلك على الله بعزيز)[46]. وبناءً عليه، فإنّ الربط بين الإيمان واليقين وبين الحرب ليس صحيحًا، بل ينبغي البحث عن عوامل أخرى ساهمت في إعداد الشخصية إعدادًا متطرّفًا، ممّا قد يكون عاملًا نفسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا وما إلى ذلك.

من ذلك حرمة الظلم (وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون) أولئك الذين استخدموا قوّتهم في قهر الناس والتسلّط عليهم…

خاتمة:

يبقى أنّ السلام لا يمكن بناؤه إلّا على قاعدة العدالة، وهي إحدى القيم المركزية المستندة إلى التمظهر الواقعي للحقّ، وهذه العدالة تحتاجُ إلى بناء القوّة الذاتية المتنوّعة الوسائل والمجالات، وقد تحتاج إلى الدفع الذي قد يصلُ أيضًا إلى الحرب، لا على أساس نوازع الذات، بل على أساس ردّ العدوان والبغي.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ السَّلام لا يُبنى على قهر الشّعوب، وعلى قاعدة الاعتراف بشرعية الظلم والاحتلال والاغتصاب، مهما كان الواقعُ السياسي أو الإعلامي أو الاقتصادي أو الأمني ضاغطًا؛ فإنّ كلَّ ذلك لا تحوّل الباطل إلى حقّ، والظلم إلى عدلٍ، ولا تبيح قلبَ المعايير والموازين، فذلك هو الذي يجعل الهوى والذات والجشع والاستكبار الذي يعيشه الإنسان طبيعيًا في تعبيره عن حالة القوّة، يجعل ذلك فوق القيم، وإذا فقدت الإنسانيّة القيم العليا التي تحكمها، أصبحت حياتها وعلاقاتها وقضاياها خاضعةً للقوّة، فهي التي تمنح الشرعية للقضايا والأوضاع، وهي التي تحوّل “خطوات الشيطان” إلى آثارِ طريقٍ للارتقاء نحو الله!

ولذلك يعلّق السيد محمّد حسين فضل الله (ره) في جوابه عن بعض الدعوات إلى مؤتمر عالمي إلى التعايش السلمي بين الإسلام والغرب، بقوله: “إنّ الشرط الوحيد للتعايش بين الإسلام وبين الغرب هو أن يكفَّ الغربُ عن محاربة الإسلام في فكره، وأن يكفَّ عن محاربة الإسلام في أهله، فلا يسيطر على مقدّراته وثرواته، ولا يسيطر على مواقعه الإستراتيجية، ولا يضغط على قراراته السياسية وعلى أوضاعه الاقتصادية. وعندما يتعامل الغرب مع الإسلام والمسلمين على أساس المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل، يبقى الخلاف بين المفاهيم الغربية والإسلامية خلافاً يمكن إدارة الحوار حوله، ليكون الحوار هو الذي يحدِّد المفهوم الحق من المفهوم الباطل”[47].

————————————————

د. جعفر محمد حسين فضل الله

أستاذ الدراسات العليا في المعهد الشرعي الإسلامي ببيروت

واستاذ الأنثربولوجيا الدينية في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية.

[1] سورة الحجر، 72-73.

[2] سورة العنكبوت، 69.

[3] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص160.

[4] سورة طه، 120.

[5] سورة البقرة، 30.

[6] سورة البقرة، 32.

[7] سورة البقرة، 38.

[8] سورة البقرة، 36.

[9] سورة القصص، 77.

[10] سورة طه، 131.

[11] سورة النساء، 32.

[12] سورة الزخرف، 32.

[13] سورة الحجرات، 14.

[14] سورة النساء، 135.

[15] سورة المائدة، 8.

[16] سورة البقرة، 190.

[17] سورة الحج، 39.

[18] سورة النساء، 75.

[19] غلوم، م. س.، ص553.

[20] سورة الممتحنة، 8-9.

[21] سورة البقرة، 194.

[22] إشارة إلى قوله تعالى: (ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليّه سلطانًا فلا يُسرف في القتل إنّه كان منصورًا)/ الإسراء، 33.

[23] سورة النحل، 126.

[24] سورة الشورى، 40.

[25] سورة الأنفال، 61.

[26] سورة التوبة، 36.

[27] الجصاص، أحكام القرآن، ج1، ص321-322.

[28] الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1، ص235،

[29] سورة الأنفال، 60.

[30] هذا المصطلح استخدم في الأدبيات السياسية الدولية، ولكن يتمّ تطبيقه بتفاوت تبعًا لموازين القوّة وطبيعة السياسات المسيطرة، وإلا فليس خاضعًا لتعريف دقيق، ونحن نستخدمه هنا فقط في الإشارة إلى ممارسة القتل للأبرياء وترويعهم لأي سبب غير ردّ العدوان والظلم الذي عملنا على التأسيس له.

[31] سورة الحج، 40.

[32] سورة البقرة، 251.

[33] قاله مجاهد بنحوه كما فى تفسير البغوى( 1/ 235).

[34] قاله ابن عباس، أخرجه ابن أبى حاتم و البيهقى فى الشعب عنه كما فى الدر المنثور( 1/ 567).

[35] سورة الحجرات، 9.

[36] سورة البقرة، 213.

[37] سورة البقرة، 62.

[38] سورة الحج، 17.

[39] سورة المائدة، 82.

[40] سورة العلق، 6-7.

[41] سورة البقرة، 208.

[42] من الممكن تتبّع المفردات التي أوردها القرآن الكريم في توصيف خطوات الشيطان ومنهجه ودوره تجاه الإنسان، ممّا يمكن البناء عليه كآليّات لتحقيق السلم الاجتماعي، وهو بحثٌ مهمّ، ولكنّنا آثرنا عدم الدخول به هنا لخروجه عن غاية حصر الموضوع بحدود الرؤية الكلية للعلاقة بين السلم والقوّة.

[43] غلوم، ألشيخ علي حسن، مفاهيم حركية من وحي القرآن (قراءة موضوعية في الفكر الحركي في القرآن الكريم على ضوء المنهج التفسيري لآية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله)، دار الملاك، بيروت، لبنان، ط1، 1429هـ – 2008م، ج1، ص547

[44] سورة آل عمران، 103.

[45] غلوم، م. ن.، ص549.

[46] سورة فاطر، 15-16.

[47] فضل‌‌‌الله، محمدحسین، الندوة، الجزء: ٢، الصفحة: ٤٧٧، دار الملاک للطباعة و النشر و التوزیع، بيروت، 1421 الهجري