السيد د. جعفر فضل الله
يسرّ موقع “الخطّ الرّسالي بالمغرب”، أن يشرع في نشر حوار هامّ مع نجل العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(ره)، وهو السيّد جعفر فضل الله، للوقوف عن كثب على مواقفه من مختلف القضايا المستجدّة إقليميّاً، وأيضاً لتحديد واقع حركة النّقد الذّاتيّ من داخل الفكر الإسلاميّ المعاصر ومستقبلها، لتطوير حركيّة الاجتهاد الفقهيّ، وتعميق حالة التّعايش بين المذاهب الإسلاميّة. وهذا نصّ الحوار.
التّجربة الإسلاميّة في الحكم
ـ من المعلوم أنّ من تداعيات الثّورات الّتي شهدتها المنطقة قبل سنتين، صعود تيّارات إخوانيّة وسلفيّة إلى واجهة السّاحة السياسيّة، وقد لوحظ أنّ هناك نوعاً من الارتباك والضّعف في تدبير هذه المرحلة السياسيّة، وحرصاً كبيراً على التفرّد بالحكم ومواجهة التيارات السياسيّة الأخرى. كيف تقيّمون هذه التجربة السياسيّة لقسم من الإسلاميّين من جهة التّوقيت والتّجربة و الأداء؟
ـ هذه المسألة لها عدّة عوامل لا بدَّ من ملاحظتها بمجموعها لفهم ما يجري، وكذلك لدراسة الواقع الّذي آلت إليه الأمور، من أجل وضع أطرٍ لتصحيح الموقف لاحقاً؛ لأنّ التّفكير على طريقة أنّ هناك عاملاً واحداً هو السّبب لذلك، يفوّت علينا فرصة الفهم الدّقيق للأحداث، كما فرصة التّصحيح للمسار.
فهناك العامل الثّقافيّ والفكريّ، حيث قد نجد أنّ ثمّة ضبابيّة في كثير من المفاهيم المُنتجة على قاعدة الكتاب والسنّة، لعلّ سببها هو عدم تجدّد الاجتهاد، ولا سيّما الاجتهاد التخصّصي في الفقه السياسيّ، حيث لا زال الواقع الإسلاميّ يكرّر مقولات أنتجها علماء السّلف كانت تعالج إشكاليّات أزمنتهم بذهنيّات أولئك العلماء، ممّا لم يعد يجد له موقعاً في العصر الحديث بكلّ إشكاليّاته وتحدّياته، وربّما وجدنا هنا أنَّ بعض الآراء كان لها ظروفها الخاصّة، من حالات التّأزيم المذهبيّ والطّائفيّ تاريخيّاً، والّتي أفرزت نمطاً من الفتاوى العنفيّة، والّتي لا تنسجم مع روح الإسلام، وجرى استعادتها كما هي، فاختلط (على البعض) الموقف الإسلاميّ المبدئيّ.. كما أنَّ هناك عناوين عامّة لم تُرفق الفتاوى المتضمّنة لها بآليّات التّطبيق، ولذلك صدرت فتاوى على موضوعات حديثة بطريقة غير منهجيّة، كما في تطبيق فقه الضّرورة على تمكين الكافر من بلاد المسلمين، في الوقت الّذي يُصرّح ذلك الكافر بأنّ هدفه الاستراتيجيّ القضاء على الإسلام والمسلمين كعدوّ مركزيّ واستراتيجيّ!
وربّما نجد هنا أنّ النّخب الفكريّة والثقافيّة المسؤولة عن مواكبة الحركة السياسيّة بالتّنظير الفكريّ والشّرعي الضّروريّ، قد غرقت في العمل السياسي، ما أفقد الحركات الإسلاميّة هامشاً مهمّاً من مواءمة حركتها مع القواعد الفكريّة والشّرعيّة، وهو ما أبعد إلى حدّ ما التّجربة الحاليّة عن صوغ الرّؤية والمشروع..
الاستسلام لحالة المظلوميّة التّاريخيّة قد يضفي على الشّخصيّة نوعاً من انعدام الثّقة بالذّات
وربمّا نجد هناك العامل النّفسيّ، الّذي جعل الإسلاميّين ينطلقون إلى الحكم في أكثر من بلدٍ، بذهنيّة الإنسان المظلوم والمهضوم حقّه، ولذلك تحوّل الحكم ـ وربّما بشكل لا شعوريّ ـ من موقعٍ لإدارة البلاد بمعزلٍ عن خصوصيّة الجماعة الإسلاميّة وتاريخها وظلاماتها، إلى موقعٍ لتلقّف الغنائم والصّفقات وما إلى ذلك.
بل ربّما نجد أنّ الاستسلام لحالة المظلوميّة التّاريخيّة قد يضفي على الشخصيّة نوعاً من انعدام الثّقة بالذّات، ما يدفع إلى عقد صفقات سياسيّة تُباع فيها بعض المواقف الاستراتيجيّة؛ وهذا أمرٌ في غاية الخطورة.
وهناك العامل الحركيّ، حيث غاب عن الحركات الإسلاميّة خلال تاريخها، المواءمة بين النظريّة والتّطبيق، وانشغلت ـ بوحي من الظّروف الموضوعيّة ـ بحماية نفسها، وانتظمت في العمل السرّيّ الّذي يوحي للإنسان بتضخيم الذّات بأخطائها، بما ينزع نحو النّهائيّة والحسم في الأحكام، على مدى تاريخ طويل؛ فإذا وصل الإسلاميّون إلى الحكم، تقمّصوا طريقتهم في إطلاق الأحكام النهائيّة في مجتمع متعدّد مفتوح، ودفعوا إلى الواجهة أولويّاتٍ بنظرهم مهمّة، فإذا هي لا تلامس أدنى تطلّعات الشّعوب في نظرها إلى أولويّات المرحلة… إضافةً إلى أنّ جانب المعارضة في حركة الإسلاميّين تحت الأنظمة الجائرة، لم تتمّ على طريقة حكومة الظلّ الّتي تدرس الأمور كما لو كانت هي في الحكم، ما يؤمّن لها الخبرة من موقع الإحاطة الشّاملة، بل قامت على أساس الرّفض من دون تقديم البدائل، ولو في مستواها النّظريّ، ومن دون تدريب الكفاءات على التّفكير بشموليّة، ولذلك خلت تجربة الإسلاميّين عموماً من هذه الخبرة، ما أوقعها ـ في ظلّ غياب مشروع واقعيّ للحكم، ما خلا بعض الشّعارات العامّة ـ في كثير من المشاكل على مستوى طبيعة النّظرة إلى الواقع وعمقها وشموليّتها.
كما أنَّ ترافق صعود الإسلاميّين إلى مواقع الحكم مع حالة التّأزيم المذهبيّ الحاصلة في الواقع العربيّ والإسلاميّ، منع الإسلاميّين من الاستفادة من التّجارب الّتي راكمت خبرةً على مستوى البناء الدّاخليّ ومواجهة التحدّيات الخارجيّة، سواء لجهة نجاحاتها أو إخفاقاتها.
وهناك عوامل مرتبطة بحركة السياسة الخارجيّة الّتي تحاول التأثير في الواقع بطريقة وبأخرى، ممّا يجب علينا متابعته ضمن مسلسل الأحداث الّذي لا يزال يفرض نفسه على التّجربة الإسلاميّة بشكل عامّ.
مطالب علمنة الدّولة
ـ لقد عاد، وبقوَّة، الحديث عن علاقة الإسلام بالحكم ومسألة فصل الدّين عن الدّولة، وخصوصاً في ظلّ المخاوف الّتي تثار على الحريّات وحقوق الإنسان ومستقبل الأقليّات الدّينيّة والقوميّة والمذهبيّة، من محاولة شرعنة دينيّة للاستبداد السياسيّ، وتنميط المجتمع وفق إيديولوجية واحدة. فكيف يمكن التّعاطي مع مطالب علمنة الدّولة في ظلّ المخاوف من الشّرعنة الدينيّة للاستبداد السّياسيّ؟
ـ كإسلاميّين لا نقبل بالاستبداد، ولا نقبل بفصل الدّين عن الدّولة؛ لأنَّ ذلك يمثِّل نوعاً من أنواع التّناقض مع التزامنا الإسلاميّ باشتمال الإسلام على بُعدٍ سياسيّ تنظيميّ، ولكنَّ هذا الموقف من العلمنة مسألة تحتاج إلى أن نُنزلها من الشّعار والعناوين العامّة إلى مفردات الحكم وقواعده وأطره وآليّاته؛ إذ قد نكون حينئذٍ قادرين على إيجاد نوعٍ من الأرضيّة المشتركة الّتي تصوغ نظام الحكم والمشاركة التعدّدية ضمن الرّؤية الإسلاميّة المنفتحة والاجتهاديّة، وهي موجودة فعلاً إذا ما نظرنا إلى المسألة من غير الزّاوية الّتي أشرتُ إليها في الجواب السَّابق، فيما يخصّ العوامل الثّقافيّة والفكريّة.
وأعتقد أنّ من الضّروريّ العمل على عقد مؤتمرات وحلقات بحثيّة، من أجل إثارة النّقاش الجدّيّ العقلاني، وأعتقد أنّ جناحي الإسلام، المشرقي والمغربي، بإمكانهما أن يشكّلا إضافةً نوعيّة في هذا الاتّجاه، على أن يكون على أرضيّة الموضوعيّة والحرّية والتنوّع، دونما الانزلاق نحو إسقاطات واجتزاءات واستبعادات لأيّ جهة إسلاميّة.
الانعتاق من أسر الماضي
ـ كيف تقيّمون الحركة النّقديّة الّتي يقودها بعض العلماء والدّعاة من أهل السنَّة، أمثال الشّيخ حسن بن فرحان المالكي، والدّكتور عدنان إبراهيم، والسيّد حسن السقّاف وآخرون؟ وما هو واقع حركة النقد الذّاتي من داخل التّراث الشيعيّ ومستقبلها، ولا سيّما بعد الفراغ الّذي خلّفه والدكم المرجع الرّاحل السيّد فضل الله(رض)؟
ـ الفكر بطبيعته نقديّ، والفكر الإسلاميّ لا بدَّ من أن يقوم على حالة من الانعتاق من أسر التّقديس للماضي وللتّراث، بمعنى أن لا تكون ماضويّة الفكر أو تراثيّته أساساً لاعتباره الفكر الحقّ والصّواب والرّشد؛ لأنّ رموز الفكر في التّاريخ أنتجوا من خلال ثقافتهم وبيئتهم، وتأثّروا بالعوامل الّتي كانت تضغط على أوضاعهم وتفكيرهم؛ بل قد نجد أنّ تاريخ إنتاج الفكر الإسلاميّ عموماً، كان تاريخاً مأزوماً على صعيد تلبّد المشاعر المذهبيّة، بما أفسح في المجال أمام بروز حالة ضدّية في إنتاج الفكر، ولا سيَّما العقديّ والكلاميّ، وهو ما أوجد نوعاً من الأرضيّة لفكر “تسجيل النّقاط”، بحيث تُبنى الفكرة على طريقة: فكري على حقّ لأنّ غيري على باطلٍ؛ مع أنّ المنطق يفترض أنَّ بالإمكان أن لا يكون على الحقّ لا هذا ولا ذاك… ولذلك تعمَّقت الحالة المذهبيَّة بعيداً عن الانتماء إلى الإسلام، وشهدنا آليَّات تقوقع علميّ، بحيث انطوت كلّ مجموعة على مصادرها الخاصّة، وانغلقت دائرة العلوم الإسلاميّة إلى علومٍ في دائرة المذهب، وأصبحت النّفوس أقرب إلى تصديق عقائد الجماعة، وأسرع إلى رفض عقائد الخصم؛ لمجرّد أنّها كذلك هنا وهناك، حتّى أثّر ذلك في منهج التّفكير بعامّة…
ولذلك نرى أنّ السّيرورة الطبيعيّة تقتضي الانشغال العلميّ فوق المذهبيّ؛ لأنّ منطق العلم لا يقبل المذهبة ولا الاجتزاء ولا الاستبعاد لأيّ احتمالٍ أو فرضيّة، إلا من خلال العلم نفسه… بمعنى أنّ كلّ معطىً هو قابلٌ لأن يكون مُعطىً علميّاً مستخدماً في عمليّة إنتاج المعرفة، سواء كان في المجال المذهبيّ الخاصّ، أو في المجال الإسلاميّ العام، أو في المجال الإنسانيّ في حركة الفكر عموماً.
ومن هنا، نحن نجد أنّ إغلاق باب الاجتهاد، في العقيدة أو الشّريعة أو الفكر الإسلاميّ أو ما إلى ذلك، يمثّل حالة غير علميّة؛ لأنّ معنى ذلك افتراض أنّ فكر السّلف أو الماضي أو التّاريخ، في ظلّ كلّ الظّروف الّتي تؤثّر في إنتاج هذا الفكر، تمثّل الحالة المطلقة والنّهائيّة في التّفكير، وهذا ما يرفضه العلمُ نفسه بالبداهة.
لذلك، فالمسلمون معنيّون بإعادة إنتاج أفكارهم، على ضوء الآليّات الاجتهاديّة الّتي يُنتجونها من موقعهم الفكريّ والثّقافيّ الّذي يولّد قناعاتهم على ضوء الأدلّة والبراهين، لا قناعاتهم بلحاظ الانتماءات المجرّدة، الّتي لن تكون حينئذٍ سوى آلهة نعبُدها من دون الله!
إنّنا نرحّب بأيّ حركة فكرٍ، ونُريد لمسألة التّفكير أن تتحوّل إلى نهضة تُخلص لمنطق العلم، وتتحرّك في عمليّة إعادة إنتاج مناهج التّفكير وإنتاج المعرفة، في كلّ الواقع الإسلاميّ، وذلك هو السّبيل لردم الهوّة بين المُسلمين، والارتقاء الحضاريّ في كلّ أوضاعهم.
أمّا أن يُرمى هذا أو ذاك بأنّه خرج عن المذهب، أو أنّه متأثّر بأفكار مذهبٍ آخر، من دون نقاشٍ لأفكاره في عناصرها الدّاخليّة، فهذا جزءٌ من العصبيّة الّتي يمقتها الإسلام، وجعلها رسول الله “في النّار”.
عقبات أمام التّقارب
ـ مما لا شكَّ فيه، أنَّ منسوب الحسّ الطّائفيّ في تزايد مستمرّ، وهو ما يفيد قوى الاستكبار العالميّ في تفتيت العالم الإسلاميّ وإضعافه داخليّاً. فكيف تقيّمون حصيلة حركة التّقريب المذهبيّ بين المسلمين السنّة والشّيعة؟ وما هي الخطوات العمليَّة لتقريب وجهات النَّظر ومنع الانزلاق نحو الفتن المذهبيَّة؟
ـ ممّا قدّمناه، نجد أنّ ارتفاع منسوب الحسّ الطّائفيّ والمذهبيّ يشكّل عقبةً كبيرةً أمام انطلاقة الأمّة على المستوى العلميّ، كما على المستوى السياسيّ، ولا أقصد بالجانب السياسيّ هنا سوى الحدّ الأدنى، والّذي يرتكز العمل السياسيّ فيه على حالة الانفتاح الّتي تفترض إمكانيّات التّعاون والتّنسيق، وتلاقح التّجارب، والمراكمة على المواقف والتّجارب الإسلاميّة، أيّاً كان انتماؤها المذهبيّ… ولذلك كان اللّعب على الوتر المذهبيّ يتحرّك جنباً إلى جنبٍ مع كلّ حالة انتصارٍ لمفهوم الأمّة في الواقع، على حساب مفهوم المذهب.
حركات التّقريب بين المذاهب لا تعدو أن تكون مجرّد مناسبات للّقاء ولتبادل الصّور التّذكاريّة
إنّ الحالة المذهبيّة تمثّل نقطة ضعفٍ أمام الحركة الحضاريّة للمُسلمين، وهي المدخل الطبيعيّ لكلّ حالات التّفتيت الّتي تعمل عليها مراكز الأبحاث والدّراسات وأجهزة المخابرات، وهذا ما يفرض على الفئة الواعية في الأمّة أن تصرّ على منطق التّجديد من الدّاخل، والشّجاعة في مواجهة كلّ نقاط الضّعف، والانطلاق في ذلك من إشاعة الرّوح العلميّة الّتي لا توفّر حتّى إعادة قراءة التّاريخ الإسلاميّ، لا على طريقة التّسويات الّتي تضع الحقّ والباطل في كفّة واحدةٍ، بل على طريقة التّقويم الموضوعيّ لكلّ التّجربة الإسلاميّة الماضية، ثمّ الانطلاق نحو الحاضر للقيام بمسؤوليّاتنا تجاهه، وترك الماضي للماضين، فإنّ الله تعالى يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134]، أن نأخذ من التّاريخ العبرة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[يوسف: 111]، ونترك مسؤوليّاته ليوم القيامة، حيث {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[البقرة: 281].
وما لم ننطلق في هذا الخطّ، فإنّ حركات التّقريب بين المذاهب لا تعدو أن تكون مجرّد مناسبات للّقاء ولتبادل الصّور التّذكاريّة، مع شيء من الرّاحة النّفسيّة الّتي تعكسها على روحيّة الجماهير… إنّ مشاريع التّقريب لا بدَّ من أن تخرج من مستوى الشّكليّات إلى مستوى المضامين، على قاعدة عبادة الله الواحد، والارتباط بالحقّ، لا عبادة المذاهب والارتباط بحدودها المرسومة بعيداً عن مضمون الحقّ أو الباطل فيها.
نهوض المجتمع بنهوض المرأة
ـ شهدنا قبل أيّام حلول اليوم العالمي للمرأة، وهو اليوم الّذي تعتبره نساء العالم مناسبة لتأكيد حقّهنّ في المساواة مع الرّجل. فكيف تقيّمون أداء هذه الحركات النّسائيّة وحصيلتها؟ وهل أنتم مع مفاهيم المساواة والمناصفة المطلقة بين المرأة والرّجل؟ أم لكم تحفّظات ما بهذا الخصوص؟
ـ نحن مع أن تأخذ المرأة موقعها في المجتمع الإسلاميّ، لأنّ الأمومة ـ كما يقول السيّد فضل الله(ره) ـ إذا كانت من قدس المرأة، فالأبوّة من قدس الرَّجل، والأمومة والأبوّة مسألتان محدودتان في طبيعة الجهد الّذي يُمكن أن يبذله كلاهما للمجتمع والحياة.
والقرآن الكريم تحدَّث عن الأمومة بما تقتضيه مسألة الحضانة في حدودها الزمانيّة، وتحدّث مع ذلك عن مسؤوليّة المرأة الاجتماعيّة، بل الحضاريّة، حيث قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[التّوبة: 71]، والمعروف هو كلّ ما يرفع من مستوى الإنسان والمجتمع، والمنكر هو عكسه.
وعلى هذا الأساس، يبدو بديهيّاً أنّ نهوض المجتمع الإسلاميّ حضاريّاً لا يُمكن أن يتمّ إذا بقيت المرأة متخلّفة، ولم تأخذ حقّها الطّبيعيّ في التّعبير عن ذاتها في ميدان الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع وما إلى ذلك.
إنّ نهوض المجتمع الإسلاميّ حضاريّاً لا يُمكن أن يتمّ إذا بقيت المرأة متخلّفة
نعم، نحن نقول إذا كانت الذّهنيّة الذّكوريّة قد أوجبت اختلالاً في توازن المجتمع، فإنّه لا ينبغي التحرّك بذهنيّة أنثويّة مضادّة تؤدّي إلى اختلال التّوازن من جانبٍ آخر؛ بحيث تُدار مسألة المرأة بذهنيّة المأساة، لا من خلال التَّخطيط الدّقيق الّذي لا يعيد إنتاج القيم الاجتماعيّة المرتبطة بعلاقة الرّجل بالمرأة في ضمن الأسرة، وفي القوانين الّتي ينبغي أن تحكم عمل المرأة، بما يحترم أمومتها وحضانتها، في شيءٍ من المرونة التّشريعيّة الّتي لا تثقل كاهلها وتجعلها تختار بين الأمومة والعمل؛ إذ لا مانع من الجمع بين الأمرين، إذا ما أحسن المجتمع دراسته لسيرورته الحضاريّة الّتي تتطلّب تكامل الأفراد، وتوزيع الأدوار والمسؤوليّات بطريقة مختلفة.
وإذا كان الإسلام لم يفرض على المرأة العمل المنزليّ، وجعله من واجبات الزَّوج، فإنّ هذه الرّؤية تؤسّس لإعادة توزيع المسؤوليّات، بحيث يكفل المجتمع نفسه ـ في تخطيطه لحركته ـ تسهيلاتٍ للمرأة إذا ما أراد منها أن تتوزّع الأدوار مع الرّجل، بما يكفل تحقيق التّوازن على كلّ المستويات…
موقع الخطّ الرّساليّ في المغرب