السيد د. جعفر فضل الله

لا أقدّم هنا معرفة وأحكامًا ناجزةً باتّة، وإنّما هي فرصةٌ للتفكّر معًا بصوتٍ مسموعٍ في قضيّة هي من أعقد القضايا وأيسرها في آنٍ معًا؛ هي من أعقدِ القضايا إذا ما انطلقنا لمقاربتها من خلال ما يحمّلنا إيّاه الواقع المأزوم اليوم من مشاعر وأحاسيس غاضبة، وما يلقيه من مفاهيم مشوّهة؛ بينما هي من أيسرها إذا ما رجعنا إلى سلاسة النصّ الديني القيمي، بعيدًا عن المحمولات الثقافيّة التي راكمتها الأجيالُ، تبعًا لتعقيدات حركتها في التّاريخ.

أوّلًا: ماهيّة الدّين

إذا ما راجعنا منظومة الأخلاق في الإسلام – مثلًا – كقول الله في القرآن الكريم: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34]، {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة: 83]، {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 2]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء}[آل عمران: 64]، {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]، وكما في الأحاديث الشّريفة: “احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك”، “ألا أنبئكم بمكارم الأخلاق: تصلُ من قطعك، وتعفو عمّن ظلمك، وتعطي من حرمك”؛ وجدنا أنّ الآخر مستبطَنٌ حكمًا في التعاليم الدينيّة نفسها؛ بل نكادُ نقولُ إنّ الدّينَ نفسه هو رؤية في التعامُل مع الآخر، ضمن منظومةٍ متكاملةٍ من القيم، فالدين ليس منظومة تنتَجُ بعيدًا عن الآخر، ليكون الواقع هو الذي يفرضُ “اختراع” قيم مشتركة، بل إنّ فهم الدّين واكتشاف مفاهيمه، يحملان قيم العلاقة الإيجابيّة مع الآخر، كما نعتقد، وكما هي رؤيتُنا.

وبالتالي، فإنّ الدِّينَ لا بدّ من أن يفعّل المساحات المشتركة بين الذات المنتمية إلى الدين، والآخر، وهذه المساحات هي التي نعبّر عنها بالقيم الدينيّة، التي هي ليست إلا القيم الإنسانيّة التي أتت الأديان لتواكب حركة تعبيرها مع متغيّرات الحياة، ولتحميها ممّا يغطّي صفاءها من الرّكام الذي يتجمّع حولها لأكثر من سبب. وأعتقد أنّ الاستثمار لا بدّ من أن يتوجّه إلى تحفيز هذه القيم في التربية الدينية؛ لأنّ الاختلاف في الرؤية العقائديّة التي تميّز الأديان، لا تؤسّس لاختلافٍ بنيويٍّ في القيم العمليّة؛ وعندها لن يكون هناك تصنيفٌ لصدق إسلاميّ، ولآخر مسيحيّ، ولثالث علمانيّ، ولن يكون كلامُ عيسى مختلفًا عن كلامٍ محمّد في التشجيع على الأمانة، وإتقان العمل، والنظر بإيجابيّة إلى الحياة والآخر، والبُعد عن الجشع والطّمع والسّرقة والفساد والإفساد في حياة الناس والمجتمعات، ورفض العبوديّة للمواقع السياسيّة استنادًا إلى قوّة البطش، وإنّما إلى قوّة الحقّ والعدل، وغير ذلك من القيم التي تبدأ من دائرة الفرد، لتتّسع في مديات الحضارة الإنسانيّة.

هذا لا يعني أنّ هناك اتّفاقًا على هذه الرؤية الإيجابيّة بين كلِّ المشتغلين بالحقل الدّيني، حيث نجد قراءةً للدين تختزن حالة ضدّية للآخر، وتعبّر عن ذاتها بوسائل إلغائيّة عنفيّة على المستوى المادّي. طبعًا، الحديث عن أسباب نشوء هذه الظاهرة، مرتبط بعوامل نفسيّة وسوسيولوجيّة وغيرها، تساهم في تشكّل بنية معرفيّة مأزومة، تقرأ النصّ الديني نفسه بطريقة انتقائيّة، أو إسقاطيّة؛ وهنا يواجهنا أوّل التحدّيات.

ثانيًا: بيئة غير مؤاتية

إنّنا إذ نعملُ اليوم على تحويل رؤيتنا الإيجابيَّة في فهم الدّين والعلاقة مع الآخر، إلى منهجٍ جديدٍ في التَّعليم الدّيني، فإنّنا نتحرّك ضدَّ التيّار المبنيّ على اجتذاب كلّ ما يشدّ العصب المذهبي والطّائفي والحزبيّ، كجزءٍ من الأزمة الكبرى الّتي تمرّ بها منطقتنا عمومًا، وهذا يتحرّك ضمن استراتيجيّة شدّ عصب الأنا أو النّحن، ضدّ الآخر أو الهُم.

ووعي العاملين في الإصلاح الديني والتربوي لهذا التحدّي، أمرٌ ضروري لأخذ مسافة تمكّن من التفكير، بمعزل عن المناخ العامّ المأزوم.

ثالثًا: الاجتهاد المفتوح

إنّ النظرة إلى الدّين من خارج، توحي بأنّنا أمام نهائيّات تُسقط على التجربة البشريّة إسقاطًا، بينما هي في الحقيقة فكرٌ دينيٌّ أنتجه متخصّصون في مجال الدين، استنادًا إلى فهمهم للنصوص، بعد اقتناعهم بقيمتها العلميّة، وكلا الأمرين قد يكون موضع نقاشٍ من متخصّصين آخرين في هذا المجال، لنجد أنّ الاجتهاد يفتح أفق إنتاج المعرفة الدينيّة على اللامحدود، بما يوحي للإنسان بأنّه لا نهائيّات في الكثير من القضايا.

وعليه، فنعتقد أنّ المنتج الدّيني في عالم التربية والتعليم، هو معطًى موضوعي يمكن دراسته من خلال أدوات النقد العلميّة التربويّة، وهذا يساهم في تطوّر تجربة التّعليم الديني أو تكاملها، ضمن منظومة القيم التي يقوم عليها البناء الوطني.

ختامًا: في الشرق عمومًا، يعتبر الدين أهمّ مكوّنات الذهنيّة ومحرّكات السلوك، وبالتالي، إذا أردنا أن نقوم بإصلاحات على المستوى الاجتماعي والتربوي، فلا بدّ من أن نمرّ من خلال التعليم الدّيني، وصوغ مناهجه بطريقة موضوعيّة، وهذا يقصِّرُ المسافة نحو الإصلاح؛ لأنّ الحياة لا تتحمّل الفراغ؛ فإذا لم تملأه أنت فسيملأه غيرك.

  • كلمة ألقيت في ندوة منتدى لبنان للتّعليم حول التعليم الديني في المدارس، تحت عنوان “تعليم الدّين: لتعميق المحبّة أم لترسيخ الانقسام”.