السيد د. جعفر فضل الله
في ما يلي مجموعة من الأسئلة حول “شورى الفقهاء” وهي مسألة هامّة تطرحها المتغيّرات التي حفل بها العصر تجاه المعرفة بشكل عام، ومدى إمكانية اللجوء إلى بعض الآليّات المعتمدة في كثيرٍ من الميادين العلميّة، وقد حاولتُ إجراء عمليّة تفكّر فقهي استدلالي في محاولة الإجابة على الأسئلة الآتية:

س1- هل الاجتهاد الفردي كافٍ لملابسات عصرنا؟
س2- هل يمكن اعتبار الفتوى الصادرة من شورى الفقهاء مجزية لعامّة المقلّدين؟
ص3- هل يلزم الرجوع إلى الأكثريّة من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير؟
س4- هل تشمل أدلّة التقليد تقليد آراء شورى الفقهاء الذين يقومون بالاجتهاد الجماعي وينتهون إلى رأي الأغلبيّة منهم، أم تنحصر في تقليد الأشخاص؟
تحديد مدى كفاية الاجتهاد الفردي، وهو الاجتهاد الممارَس من قبل فردٍ واحدٍ يصلُ إلى قناعاتٍ وآراء معيّنة في المسائل الفقهية، هذا التحديد خاضع لمسألة الاجتهاد التي تفترض وجود منهج وممارسة؛ وبالتالي فإنّ السؤال حول كفاية الاجتهاد الفردي لملابسات عصرنا يمكن طرحه في قضيّتين:
الأولى: هل أنّ الممارسة الفرديّة للاجتهاد كافية في ما يرتبط بتلمّس قضايا عصرنا التي تعقّدت إلى درجة كبيرة جدًا، وأصبحَت تعبّر عن نفسها في تشعّب ميادين العلوم، والتي لم يعد يصحُّ فيها الاقتصار على العموميّات، بل أصبح لكل ميدانٍ علميّ تخصّصات وتخصّصٌ ضمن التخصّص وهكذا؟
طبعًا الجواب على هذا السؤال يمكن أن يحيلنا إلى قضيّة التخصّص في عملية الاستنباط، بحيث يقال بات من الصّعب أن يقوم فردٌ، بما له من طاقة وعُمر، بإعطاء عملية الاستنباط حقَّها، بحيث يصلُ إلى إحراز عدم وجود دليلٍ مفترض يمكن أن يدخل كعنصر خاصّ أو كمفردة في عملية الاستنباط.
فعلى سبيل المثال، لو كان الفقيه يبحث في قضيّة الأهلّة والمعيار في تحديد بدايات الشهور، فيلزمه لذلك الاطّلاع على حركة القمر والشمس، وربّما يحتاج إلى أن يتعمّق في بعض النظريات المطروحة في ميدان الفلك، وهذا كلّه هو الذي يحقّق استنفاده لكل المعطيات التي يمكن – افتراضًا – أن تدخل في عملية الاستنباط، وهكذا في شتى مسائل الفقه التي انفتحت – نتيجة تطوّر المعطيات – على كثيرٍ من منجزات العلوم.
ولكنَّ هذه القضيّة لا تعني عدم كفاية الفقه الفردي في ملابسات العصر، ولا تعني أكثر من لزوم تخصُّص الفقهاء الأفراد في ميادين تسمح لهم بالإحاطة بكل ما يترقّب أن يدخل في العملية الاجتهاديّة.
أمّا القضيّة الثانية فيمكن طرحها في السؤال التالي: هل أنّ المناهج الحالية المتّبعة تفي بالحاجة في مستجدّات العصر؟
الجواب يفترض البحث حول طبيعة المنهج الذي يجبُ الرجوع إليه وتطبيقه في عملية الاستنباط الفقهي، وهنا يكون المجال المفترض هو الدراسة الأصوليّة، والتي يمكن أن نقول فيها بَدْوًا إنّ المنهج السّائد في الفقه يحتاج إلى تطوير، ويتطلّب مناقشة كثيرٍ من المناهج التي أثارت أسئلة كثيرة تجاه منهج التفكير في المجالات المعرفيّة المتعدّدة، كالبحوث المرتبطة باللسانيات والبحوث النفسية والاجتماعية والتاريخية، أو في مسألة العلاقة بين القرآن والسنّة، أو مدى دخول مقاصد الشريعة، وانعكاساتها على الجهد المبذول في القضايا الفقهية أو الحديثية وما إلى ذلك، ممّا لا يمكن التعامل معه على أنّه غير موجود.
لكنّ هذه القضيّة لا تعني عدم إمكان تحقيق ذلك عبر الاجتهاد الفردي، ولا سيّما مع ملاحظتنا الأولى المرتبطة بالتخصّصية.
شورى الفقهاء والدليل الاجتهادي
هذا وبغضّ النظر عمّا أوردناه في الجواب الأوّل من ملاحظات، فإنّ البحث هنا عن الدّليل الاجتهادي على حجّية شورى الفقهاء. وهنا تارةً نتحدّث عن إجماع الفقهاء على شرعية ذلك، ونفترض أنّ هؤلاء الفقهاء ممّن يتعيّنُ الرُّجوع إلى أحدهم من قبل المكلّفين، فهنا لا إشكال في إجزاء الفتوى المجمَع عليها من قبلهم؛ لأنّها ممّا يُحرز المكلّف معه براءة الذمّة.
لكنَّ هذا مبنيّ على السائد من اعتبار الحجّية لفقه الفرد؛ لأنّ الدليل يدور مدار وجود من يعتبر قولُهُ حجّة على المكلّف وهو ضمن المجمِعين، في حين أنّ كلامنا هو في مدى اعتبار قول شورى الفقهاء بعنوان أنّها شورى. هذا أوّلًا.
وثانيًا، إنّ حالات الإجماع قليلة بل قد تقتصر على ما هو الواضح من الفقه، ومحلّ الكلام هو ما يعالج القضيّة من ناحية كلّية، لا في خصوص موارد محدّدة.
وكيفَ كان فالكلام في الأدلّة. وما يمكن أن يُدّعى في المقام دليلًا هو التالي:
الدليل الأوّل: قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون) ، بحيث قد يُدّعى أنّ إطلاقها يشمل صورة سؤال الفرد وسؤال المجموع؛ فإنّه يصدقُ على شورى الفقهاء مثلًا أنّهم أهل الذّكر بلا إشكال؛ إذ أهل الذكر هم أهل الاختصاص، ولا خصوصيّة لمورد الآية سوى ذلك في ما نفهمه.
إضافة إلى ذلك، من الواضح أنّه ليس مراد الآية هو السؤال، بل تدلُّ التزامًا على حجّية الجواب؛ وعليه فإذا كانت الآية شاملة لسؤال شورى الفقهاء مثلًا، فإنّها تدلُّ على أنّ جوابهم حجّة أيضًا.
ولكنّنا أمام عدّة اشكالات في هذه الاستفادة من الآية:
الإشكال الأوّل:
قد يرد على ذلك أنّ محلّ كلامنا هو صورة تصويت شورى الفقهاء على رأي، بحيث يمثّل هذا الرأي قناعة الأكثرية، وقد يُدّعى أنّ اعتبار رأيٍ ما أنّه رأيُ “أهلِ الذّكر” إنّما هو في صورة إجماعهم على ذلك، وإلّا فهو رأي أكثريّة أهل الذكر، وليس رأي أهل الذّكر. وبناءً عليه لا يمكن الاستدلال بالآية على حجّية رأي الشورى بما هو محلُّ الكلام.
وقد يُقال في مقام الجواب على الإشكال: إنّ المسألة خاضعةٌ للصدق العرفي، وليس للدقّة العقليّة؛ إذ إنّ اعتبار رأي جماعةٍ ما يصدق عرفًا على رأي أكثريّتهم، فيمكن أن يقال عُرفًا إنّ الرأي المصوَّت عليه من قبل أكثريّة الأعضاء هو رأي المنظّمة أو الجماعة أو الحزب أو ما إلى ذلك، وهذا الأمر نجده شائعًا في توصيف الرأي المنبثق عن كثير من الأطر الاجتماعية أو السياسية أو غيرها.
وبعبارة أخرى، عندما يكون لدينا إطارٌ معيّن، ويشتمل هذا الإطار على أفراد عديدين، فإنّه يكفي فيه تصويت أكثريّة الأعضاء على قرار ليعتبر لدى عموم النّاس أنّه قرار الحزب أو المنظّمة أو ما إلى ذلك.
ولكنَّ للتأمّل في هذا الجواب مجالًا؛ لأنّ ذلك فرعُ النظام الذي يضعه الإطار لنفسه؛ فعندما يقال إنّ قرار الحزبِ مثلًا هو ما تصوّت عليه الأكثريّة إنّما ينبني في رتبة سابقة على النظام المعمول بموجبه في أخذ قرارات الحزب؛ فلا يصحُّ افتراض أنّ الاعتبار العرفي يعتبر رأي الأكثريّة مطلقًا هو رأي العنوان الذي يجمع هؤلاء الأكثريّة، ولا سيّما أنّ هذه الأكثريّة قد تختلفُ بين اعتبارٍ وآخر، وبين نظام عملٍ وآخر. فإذا تمّ ذلك فينبغي حسم القضيّة في مرتبة سابقة على الآية، ومن ثمّ تأتي الآية من باب تتميم الدّليل.
الإشكال الثاني:
أنَّ الحكم تعلَّق بالسؤال من أهل الذِّكر، فالملاك هو للذِّكر، وهو ينطبق على رأي الأكثريَّة ورأي الأقلِّيِّة على السَّواء، ولم يثبت ما ينفي حجيَّة رأي الأقلِّيَّة، فلا يعود الاستدلال بالآية على حجّية أحدهما دون الآخر صحيحًا..
وبعبارة أخرى، قد يظهر أنّ الآية بصدد بيان حجّية قول أفراد أهل الذكر بنحو الاستغراق، لا بنحو المجموع، أمّا كيفية الرجوع إليهم فليست في مقام بيانها.
الإشكال الثالث:
وقد يُناقش في الاستدلال بالآية من وجهة أخرى، وهو أنّ الرجوع إلى أهل الذّكر ليس مطلقًا، وإنّما هو مقيّد، وهذا ما ورد في قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون، بالبينات والزّبر) ؛ فلا بدّ لمن يُسأل أن يقدّم دليلًا على جوابه، وهذا الدّليل هو الذي يكون مورد القناعة للسائل، كما تشير إلى ذلك آياتٌ أخرى ورد فيها مفهوم البيّنات. هذا إذا كان العامل بالبينات هو “فاسألوا”.
وهنا احتمالان آخران:
الأوّل: أن يكون قوله تعالى “بالبيِّنات والزُّبُر” متعلِّقًا بالعامل الأقرب له وهو “لا تعلمون”، والمعنى: إن كنتم لا تعلمون بالبيِّنات والزُّبُر فاسألوا أهل الذِّكر، فلا يفيد تقييد الجواب بذلك، وإن كان يصحّ أن يُقال إنّ توارد عدم العلم والسؤال ينبغي أن يكون على مورد واحد، وهو “البينات والزبر”، فيكون الجواب كذلك، فتأمّل.
الثاني: من خلال المقارنة بآيات أخرى، نحتمل أن يكون قوله تعالى ” بالبينات والزبر” لبيان ما الذي أرسل به الرُّسل. قال تعالى: (فإن كذبوك فقد كذّب رسلٌ من قبلك بالبينات والزبر والكتاب المنير) ، وقال تعالى: (وإن يكذّبوك فقد كذّب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير) ، (أكفّاركم خيرٌ من أولئكم أم لكم براءة في الزبر) ، ويظهر بوضوح من قوله تعالى: (وكلّ شيءْ فعلوه في الزبر) ، (وإنه لفي زُبُر الأوّلين) أن المقصود به الكتب أو الصحف التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه وأرسلهم بها.
بل نستطيع القول إنّ التأمّل في ما تلا قوله تعالى “بالبينات والزبر” في الآية التي نحن بصددها، وذلك قوله تعالى: (بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم ولعلّهم يتفكّرون) يخلص بنا إلى أنّه متعلّق بالإرسال، وناسب حينئذٍ فصلُهُ عن الآية السابقة باستئناف آيةٍ جديدة لمناسبة التتمّة التي تتحدّث عن إنزال الذكر على نبيّنا (ص).
وبناءً على كلّ ذلك يكون قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) جملة اعتراضية للحديث عن القضية السابقة، وهي قضيّة كون الرسل من البشر لا من خارجهم، وبذلك لا يصحّ الحديث عن التقييد الذي ذكرناه في بداية حديثنا؛ والله العالم.
وبغضّ النظر عن كلّ ما ذكرناه آنفًا، فقد يُشكَلُ بأنّ الاجتهاد الجماعي، أو شورى الفقهاء، في مورد تبنّي رأي الأكثريّة بالتصويب مثلًا، وإن كان يملك البيّنات التي تبانى عليها هؤلاء، إلّا أن الأقلّية التي لم تصوّت أيضًا لديها بيّنات أخرى؛ وعندئذٍ فما دليل الحجّية الذي يُلزم من يقتنع أو يترجّح لديه رأي الأقلّية أن يرجع إلى رأي الأكثريّة؟! والحال أنّ فرض رجوعه آنئذٍ لرأي الأكثريّة يكون راجعًا ومعتمدًا على التصويت الأكثري لا البيّنات.
نعم، لو دلَّ دليلٌ على أنّ التصويت الأكثري في مثل هذه القضايا حجّة أخذنا به، ولكنْ كيف يمكن إثباتُ ذلك والحال أنّ القرآن الكريم نفسه قد يشير في كثير من الموارد إلى أنّه ليس بالضرورة أن يكون رأي الأكثريّة ممثّلًا للحقّ؟!
الإشكال الرابع:
قد دلّت آياتٌ عديدة على أنّ الأكثرية لا تمثّل الحقّ أو العلم بالضرورة، من قبيل قوله تعالى: (ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون) ، وعليه فقد يُقال باعتبار ذلك مانعًا من الأخذ بأي إطلاقٍ مفترضٍ لحجّية، باعتبار دلالتها على أنه لا حجّية على رأي الأكثرية بما هي أكثريّة، بل الأساس للعلم.
ولكنَّنا لا نرى ذلك ضارًا بالأخذ بالإطلاقات على فرض تماميتها؛ لأنّ الآيات – مورد الإشارة – ليست في مقام البيان من الجهة التي نحن بصددها، وهي الرجوع إلى المختصّين أو أهل الخبرة أو أهل الذكر وما إلى ذلك، فلا شكّ أنّ هؤلاء “يعلمون” و”يعقلون” وما إلى ذلك ممّا ورد في الآيات المشار إليها، وإنّما هي في مقام بيان عدم استناد الأكثريّة إلى ذلك، وعدم ارتكازها بالضرورة إلى وسائل التعقّل والتدبّر وما إلى ذلك، بل ما نعلمه هو انسياقها العاطفي، وتأثّرها الانفعالي، بما يمنع من اعتبار المرجعية العدديّة قاعدةً لمعرفة الحقّ.
وبعبارة أخرى: المورد الذي نحن بصدد مناقشته، وهو شورى الفقهاء، يرتكز إلى افتراض انطلاق الجميع من المناقشة العلمية للموضوع، وتبنّي كلّ طرفٍ من الأطراف لرأيٍ معيّن استنادًا إلى العلم وقواعده، وبعد ذلك يكون الرجوع إلى الأكثريّة من باب الأخذ بآليّة لترجيح رأيٍ علميّ على رأيٍ علميّ آخر، أو فقُل لترجيح رأيٍ في مجال العمل، حيث لا يمكن البقاء في دائرة التردُّد في المقام؛ وهي مسألة أخرى؛ والله العالم.
الدليل الثاني: القرعة
لنا أن نسأل هنا: هل تصلح القرعة دليلًا لحجّية شورى الفقهاء؟
وتصوير الدليل هنا يقوم على التالي: إنّ ما دلَّ على مشروعيّة القرعة قد يصلح للاستدلال به في المقام، وذلك من خلال تنقيح المناط، حيث قد نعلم أنّ مشروعيّتها لا تخلو من أن تكون كاشفة عن الواقع، كما هو مفاد بعض الروايات ، أو لإزالة التردّد وحلّ مشكلة لا يمكن إهمال حلّها، كما هي سيرة العقلاء في المقام.
فإذا بنينا على الوجه الثاني على ما ذكره السيد فضل الله (ره) بقوله: “فالعقلاء عندما يلجأون إلى القرعة – مثلًا – في مورد النزاع بين متخاصمين في تعيين حصّة من الحصص المجهول سبل تحديدها أو توزيعها بينهم، فإنّ القرعة لا تكون لكشف الحصّة حقيقة… بل هي لحلّ مشكلة لا يمكن إهمال حلّها، لما في ذلك من تضييع للحقوق والأموال. فالقرعة تكون حيث لا كشف وحيث الانسداد لكافّة الطرق التي يمكن لها حلّ الأمر المحيّر ورفع إشكاله بواسطة الطرق العلميّة” . فقد يقال حينئذٍ إنّ شورى الفقهاء تضطلع بأمر ذي أهمّية كبيرة في حياة المكلّفين، وحيث يدورُ الأمر بين رأي فردٍ معيّن أو غير معيّن، وبين رأي أكثريّة أفرادٍ يستندون إلى العلم في تكوين آرائهم، وحيث إنّ توافق أكثر من رأيٍ مستندٍ إلى العلم على قضيّة يشتمل على أرجحيّة أكبر من رأي الشخص الواحد المستند إلى العلم، ولا يمكن ترجيح أيّ من الآراء المطروحة على غيرها بأي وسيلة، ولا بدّ من الترجيح؛ لعدم ترك المكلّف حائرًا، فيكون اللجوء إلى رأي الأكثريّة من باب أنّه أحد الحلول التي يلجأ إليها العقلاء لكل أمرٍ مُشكلٍ.
ولكنْ لا يخفى هنا أنّ هذا الوجه إنّما يتمّ إذا استطاع الفقيه إلغاء خصوصيّة القرعة في المقام، واليقين بكونها مجرّد وسيلة من وسائل رفع المشكلة عقلائيًا، وإلّا كان هذا من باب القياس المنهي عنه شرعًا.
على أنّ الخصوصيّة لو تمّ إلغاؤها فإنّه لا بدّ من إثبات لزوم اعتماد الأرجحيّة من الجهة المذكورة في صوغ الدليل، وليس مجرّد ما هو حجّة في المقام؛ فتأمّل.
أمّا على الوجه الأوّل، بمعنى جعل الحجية التعبّدية للقرعة، فإنّ إلغاء الخصوصيّة ستكون أشكل.
على أنّه قد يُقال، وبغضّ النظر عن إمكان إلغاء الخصوصيّة، وبناءً على الأخذ بعموم دليل القرعة، فلم لا يكون اللجوء إلى القرعة هو الحلّ، وبالتالي يكون الرأيان في مستوًى واحدٍ، ويُحلُّ الاختيار عن طريق القرعة، لا عن طريق ترجيح رأي الأكثريّة، بعد عدم كونه مرجّحًا ضمن منطق هذا الدّليل.
ولكنْ قد يُقال إنَّ شورى الفقهاء لم تثبت بدلبلٍ شرعيٍّ يُلزمنا بها لنبحث عمَّا يُخرجنا عن عهدته عند تعارض الآراء، وإنَّما هي ـ إلى الآن ـ مجرَّد اقتراح نبحث له عن دليل، ومعه فلا موضوع للقرعة في موردها.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدّين وليُنذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون) ، وقد استدلّ بهذه الآية على حجّية قول الفقيه، حيث إنّ الحذر حيث افتُرض أنّه نتيجة للإنذار دلَّ ذلك على لزوم المتابعة، كما قيل. ويمكن أن يُستند للآية ليقال إنّ نَفْرَ الطائفة من الناس للتفقّه، وممارسة هذه الطائفة – على نحو المجموع – للإنذار وبالتالي تحقيق موضوع الحذر، يدلُّ على حجّية قولها، وبإطلاقها يشمل مثل شورى الفقهاء، باعتبارهم مصداقًا للطائفة المتّفقّهة.
ولكنَّ هنا إشكاليْن:
الإشكال الأوّل، وهو متعلّق بأصل الدّلالة على التقليد: أنّ الآية تدلُّ على مطلوبيّة الحذر، لا على وجوبه مطلقًا كما هو المفترض في عالم التقليد؛ وبالتالي يمكن لنا افتراض أنّ الترجّي هنا في حصول النتيجة قد يكون مستندًا إلى حصول العلم لدى المكلّف بسبب الإنذار؛ فإذا لم يحصل فلا يكون هناك موجبٌ للحذر.
ولكن قد يُقال، إنّ في المقام مناسبةً بين الحكم والموضوع؛ فإنّ الإشكال الآنف الذكر مبنيّ على تجريد مفهوم الحذر دون ربطه بالمقدّمة، وهي تفقّه هذه الطائفة في الدّين، والتي لا بدّ من ربطها بمقدّمة ثابتة سلفًا، وهي لزوم متابعة الدّين، فما لم يكن قول الفقيه حجّة مطلقًا فلا يكون التفقّه ذا موضوع في المقام.
وهذا الأمر وإن كان صحيحًا، لكنّه ليس مطلقًا، فقد يكون التفقّه موجبًا للحذر بحيث يؤسِّسُ للتديّن، أمّا كيفيّة التديّن، وكيف يحصل الإنسان على أحكامه، وهل أنّه يحصل اعتمادًا على فقه الفرد أو فقه الجماعة، فهو أمرٌ آخر ليست الآية بصدده. وأقلّه أن يُقال إنّ استخدام الترجّي ممّا يشكّكنا في إطلاق الآية لما هو المفترض، فيكون علينا التمسّك بالقدر المتيقّن وهو صورة حصول العلم أو تأثير الإنذار في قناعة المكلّف، وعليه لا تنفع الآية في إثبات وجوب العمل بالرأي المنبثق عن أكثرية شورى الفقهاء ممّا هو محلُّ الكلام.
الإشكال الثاني: أنّ الآية في مقام البيان للعموم على نحو الاستغراق، بحيث أنّ كلّ من ينفر للتفقّه يكون دوره هو الإنذار، وإيجاد قاعدة للحذر لدى المكلّفين، ولا دليل في الآية على أنّ الطائفة بما هي مجموعٌ وظيفتها ذلك، ليُقال بأنّها يمكن أن تكون دليلًا على حجّية قول الطائفة من العلماء، أو الأكثرية من شورى الفقهاء، والله أعلم.
الدليل الرابع: قوله تعالى: (والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصَّلاة وأمرهم شورى بينهم وممّا رزقناهم ينفقون) ، حيث قد يستدلُّ بالآية على أنّ أمر المؤمنين يقوم على الشورى، والشورى لا تعني بالضرورة الاتفاق من قبل كلّ المتشاورين على رأي معيّن، بل هذا قد يكون نادرًا بحسب واقع الأمور، وعليه تكون الآية دليلًا على حجّية رأي الأكثريّة في الشورى. وبإطلاقها يشمل صورة الشورى في أمر الفقه.
وهنا إشكالان:
الأوّل: من ناحية المراد بـ “الأمر” في الآية، فقد يُقال بأنّ فتوى المجتهد ممّا يندرج تحت عنوان الاستجابة لله الوارد في صدر الآية، وذلك بعد ثبوت حجّية قول المجتهد، وبالتالي يكون قول المجتهد الفرد، فضلًا عن شورى الفقهاء – خارجًا تخصُّصًا.
ويمكن أن يُقال بأنّ الظاهر من الآية أنّ الذي هو شورى هو أمر المكلّفين، وليس أمر ما به التكليف، وما به التكليف هو الفتوى ورأي المجتهد، فيكون خارجًا.
الثاني: أنّه لو دلَّ دليلٌ منفصلٌ على لزوم رجوع المكلّفين إلى رأي المجتهد الفرد، كما هو حاصلٌ فعلًا، فإنّ الآية لا تكون شاملة للفتوى تخصيصًا أو تقييدًا.
وعليه، فحيث إنّ رأي أكثرية الفقهاء مبني على حجّية قول المجتهد عمومًا، وحيث إن هذا خارجٌ عن مفاد الآية تخصُّصًا – كما هو مفاد الإشكال الأوّل، أو تخصيصًا – كما هو مفاد الإشكال الثاني – فلا تصلح الآية دليلًا على الحجّية التعبّدية لشورى الفقهاء.
نعم، قد يُقال بأنّ الآية ليست في مقام إيجاد ما هو معدوم، بل في مقام إعطاء الشرعية لما هو قائمٌ في سلوك العقلاء، وهذا يأتي الكلام حوله ضمن الدّليل الرابع الآتي.
الدليل الخامس: ادّعاء وجود سيرة عقلائيّة على إدارة شؤونهم المهمّة بهذه الطريقة، وهم يبنون فيها على الأخذ برأي الأكثريّة عبر التصويت، وهذا نجده حاصلًا في كلّ قراراتهم التي تكون ضمن جماعةٍ معيّنة. وحيث إنّ هذا السلوك العقلائي ممّا يمكن أن يترشّح إلى شؤون الدّين، وحينئذٍ فيجب على الشّارع أن يبيّن ردعه عنه لو كان، والردع مفقود، فيثبت الإمضاء.
بل قد يُقال بأنّ مثل قوله: (وأمرهم شورى بينهم) قد يكون إمضائيًّا لما هو موجود، لا تأسيسيًا لما هو معدوم.
وقد يُشكل بأنّ الطريقة الممارسة في زمان النصّ لم تقم على أساس شورى يتساوى فيها أفرادها ويؤخذ برأي الأكثريّة، وإنّما تقوم على وجود رئيسٍ يكون هو المرجِّح لهذا الرأي أو ذاك، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكَّلْ على الله)، حيث إنّ التشاور بما هو هو ليس ملزمًا، وإنّما عزمُ الرسول في المقام.
وأمّا الصّورة الحديثة للشورى، فهي أتت في مراحل متأخرة، تبعًا لما أشرنا إليه آنفًا من تنظيم الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الإدارية عمومًا، وبالتالي لا تكون ممضًاة من قبل السيرة، بل لا بدّ من الإقتصار على القدر المتيقّن في زمان الإمضاء.
اللهمّ إلا أن يُبنى على ما تضمّنه الاستدلال بالسيرة، وهو ما أشار إليه الشهيد الصّدر ، من أنّ الإمضاء لا يكون للسلوك الظاهر لما يمارسه العقلاء فقط، وإنّما للنكتة المركوزة في ذلك السلوك؛ لأنّ السلوك لا ينشأ من فراغ، وإنّما يتبانى عليه النّاس لسبب وتعليل قد يكون ظاهرًا وقد يكون كامنًا. وعليه، فقد يُقال هنا إنّ الطريقة الحديثة وإن كانت متأخّرة عن زمان السيرة، إلّا أنّ نكتتها كانت مركوزة في ما وراء الوعي لديهم والتي دفعتهم إلى اعتمادها.
نعم، يبقى الإشكال الوارد في الآية السابقة، وهي تشير إلى أنّ الرئيس هو الذي يحسم أمر الشورى، بما يجعلها قضية مرتبطة باستطلاع الآراء، ولكن في النهاية الحسم النهائي للفرد الذي يقود جماعة الفقهاء والأمّة.
على أنّه قد يُشكل أيضًا، بأنّ النكتة المركوزة التي صحّحت فرضية الاستناد إلى سيرة العقلاء على أمرٍ غائبٍ عن ممارستهم الفعلية، ليست ثابتة؛ فإنّه في أزمنتهم كان الرجوع في معرفة أمر الدّين هو للنّبي أو للإمام من بعده، وللفقهاء على نحو العموم الاستغراقي لا المجموعي، وهذا ما مارسه المتشرّعة خلال قرون طويلة؛ فمن أين يمكن إثبات ترشّح سيرة العقلاء إلى المجال الدّيني؟!
وقد يُقال في مقابل ذلك: إنّ الشورى بصورتها المفترضة كانت موجودة في زمان النصّ، وكشاهدٍ على ذلك جعل عمر بن الخطّاب اختيار الخليفة من بعده رهنًا بشورى جعلها في ستّة أفرادٍ، والإمام عليّ (ع) الذي كان أحد الستّة لم يعترض على أصل مبدأ الأكثريّة، وإنّما على قاعدة الشورى، وهي “سيرة الشيخين” كما ورد، فحصر الإمامُ بيعته على كتاب الله وسنّة نبيّه وأضافَ إليها اجتهاد الرأي .
لا نريد هنا الاستدلال بالشورى التي أجراها عمر آنذاك، إذ في نظرنا أنّ الحجّية هي للإمامة القائمة بالنصّ، ولكنّنا نريد بيان إمكان الاستدلال بذلك على وجود سيرة عقلائيّة آنذاك تعتمد الشورى كمبدأ يمكن اللجوء إليه في شؤونهم.
ومع ذلك فلا دلالة في الحادثة المذكورة على وجود تلك السيرة – بغضّ النظر عمّا ذكرناه آنفًا من أنّ السيرة على خلاف ذلك -؛ فإنّ هذه قضيّة خارجيّة لا نحرز معها كونها إشارة إلى وجود سيرة عامّة بهذا الصّدد، ولا سيّما أنّها يمكن أن تكون جزءًا من الأساليب التي ابتدعها عمر توصُّلًا إلى توجيه الخيار في الشورى إلى أشخاصٍ دون آخرين، وذلك على أساس الاختيار المسبق للأشخاص الذين يقعون في ضمن الشورى، كما أنّها أصلًا لا تدلُّ على سيرة بحجّية النتيجة الناتجة عن رأي الأكثرية، وإنّما هي وسيلة لترشيح من سيحصل لاحقًا على بيعة المسلمين، وهي الملزمة والحجّة في نظام العقد السياسي المعتمد في مجال العقلاء آنذاك. بغضّ النظر عن رأينا في مسألة بيعة الأكثريّة، وهل أنّها تعطي الشرعية لمن لا شرعيّة له أو تعطي الفاعلية الواقعيّة لمن يملك الشرعية.
لكنْنا قد نلاحظ في المقام أنّ مسألة اعتماد رأي الأكثريّة عقلائيًّا ممّا لا يمكن إنكاره، فإنّ البيعة نفسها تستند إلى قول الأكثريّة، أو تستند إلى رأي أكثريّة قسمٍ معيّن من النّاس كالمهاجرين والأنصار، ولا يعتبرون منافيًا أن يشذَّ أفرادٌ أو أقلّية في المقام، ويُلزمون الآخرين الحجّة بمتابعتها.
لكنّ كلّ ذلك إنّما هو حالةٌ نظامية تنفيذية، في حين أنّ موضوع بحثنا هو التنظيم الذي يراد الاستدلال على حجّيته في الكليّات لا في الأمور التنفيذية، وقد عرفتَ أنّ سيرة المتشرّعة كانت قائمةً على الرجوع إلى الفقيه الفرد، فلا يُحرز تأثير سيرة العقلاء على المجال الديني ممّا بني عليه تتميم الاستدلال بسيرة العقلاء، وهو أنّ الردع واجبٌ بلحاظ احتمال تأثيرها على المجال الديني؛ والله العالم.
الدليل السادس: وجوب حفظ النظام العام، فما يتوقّف عليه يكون واجبًا، ومن الناحية الواقعيّة فإنّ مثل قضية النظام العام ممّا تبتني على الشورى، كما أنّ تحقيق النظام والانتظام نتيجة الرأي هو حالة تنفيذيّة، وبالتالي يجبُ متابعته وإلّا لزم الاختلال والهرج والمرج كما لا يخفى.
بل إنّ بعض قضايا النظام العام من الأمور المعقّدة التي لا يمكن أن تتمّ إلا من خلال تداول الآراء، والرجوع إلى أهل الخبرة، والحوار بينهم، واتّخاذ الرأي والقرار في نهاية المطاف، وهذا كلّه يجعل مسألة الشورى متعيّنة.
ولكنْ لا يخفى أنّ هذا الدّليل أخصّ من المدّعى؛ إذا هو مختصٌّ بالشؤون النظامية العامّة، وهي شؤون الدّولة عمومًا، فلا يشمل صورة شؤون المكلّف الفرديّة.
على أنّه قد يُقال، إنّ قضايا الدّولة وقيادتها للمجتمع بما يحقّق الانتظام العامّ، من الظواهر المعقّدة، فلا يمكن بناؤها على فقه الفرد، الذي يجعل الدّولة غير مستندة إلى أساس ثابت، كما يجعلها خاضعةً لخصوصيّة نظره الذي قد لا يلحظ جوانب أخرى هامّة في هذا المقام، وبالتالي قد يقال بالملازمة بين تحقيق الانتظام العام وبين آلية شورى الفقهاء، حيث التقنين يخضع لديمومة مؤسّسته الأوسع من عمر الفرد الواحد، وأيضًا يخضعها لتعدّد وجهات النظر.
ولكنَّ ذلك أيضًا حالة خاصّة، كما أنّه لا يُلغي صلاحية الفرد لقيادة الدولة والمجتمع، حيث يمكن للفرد أن يمتلك من المؤهّلات ما يستطيع من خلاله أن يلاحظ المسألة من زوايا متعدّدة، كما أنّه لا يحتّم اللجوء إلى شورى الفقهاء بالمعنى الذي نحن بصدده، بل يكفي أن يُلزم باستشارة أهل الخبرة في شؤون الدّولة، ويكون رأيه في النهاية هو المرجّح على قاعدة (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) ، وهذا الأمر يمكن أن يتمّ بصيغة أخرى، لا تلغي حجية قول الفرد، وتحقّق في الوقت نفسه ما ترمي إليه فرضيّة شورى الفقهاء، ممّا سنشير إليه أخيرًا.
الدليل السابع: دوران الأمر بين التعيين والتخيير؛ بأن يُفترض بأنّ الأخذ برأي الأكثريّة إمّا أنّه متعيّن وإمّا أنّه أحد فرديْ التخيير بينه وبين رأي الفرد؛ فيلزم الأخذ به لذلك.
ولكنْ لا يخفى ما في هذا من الإشكال؛ حيث إنّ وجوب الرجوع إلى الأعلم مثلًا من باب دوران الأمر بين التخيير والتعيين هو فرعُ حجّية قول المجتهد عمومًا، أو جواز تقليد الفقيه عمومًا. أمّا في المقام، فأصل الحجّية لرأي شورى الفقهاء بما هي شورى وأكثريّة غير محرز، فالقاعدة العقليّة لا تكون ذاتَ موضوع في المقام.
نعم، قد يتمّ تصوير المسألة بطريقة أخرى، وهي أنّ رأي الواحد إذا كان احتمال إصابته للواقع بنسبةٍ معيّنة، فإنّ رأي الأكثرية أكثر احتمالًا في الإصابة، وعليه، فيدور الأمر بين الرجوع إلى الأقلّ احتمالًا للإصابة وبين من يزيد عليه في احتمال الإصابة، فيكون الرجوع إلى هذا من باب التعيين.
ولكنَّ هذا أيضًا فرعُ كون باب التقليد هو من باب الإصابة للواقع، ومعه يتعيّن الأخذ بالاحتياط. أمّا إذا كان الأمر من باب اتّباع ما هو الحجّة في المقام، فيكون الدليل المذكور فرع إثبات الحجّية لرأي الشورى بما هي شورى أو أكثريّة؛ والله العالم.

س5- هل يحقُّ لشورى الفقهاء ممارسة صلاحيات المجتهد، من أمثال حق الإفتاء وحق القضاء وحق التصرّف في السهمين، وحق الولاية على الغائبين والقصّر والولاية السياسية مع افتراض ثبوت أي من تلك الصلاحيات للمجتهد؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، أليس من الأفضل تبنّي رأي شورى الفقهاء تجنّبًا للوقوع في الخطأ أو نظرًا لرجحان رأي جماعة من الفقهاء؟
أمّا مسألة الإفتاء، فتارة تكون الفتوى على نحو الكبرى، فقد تقدّم الكلام فيه. أمّا على نحو الصّغرى، كتشخيص موضوع من الموضوعات مثلًا، كتحقّق الاستحالة في الجيلاتين، أو زاوية الفجر، أو حقيقة الغناء، أو غير ذلك من القضايا التي هي من شؤون المكلّف ويضطلع فيها الفقيه عادةً نيابةً عنه، فإنّ من الممكن الاستناد إلى شورى الفقهاء باعتبار أنّ رأيهم أكثر دقّة وإحتماليّة في إصابة الواقع، بل قد يقال هنا إنّ ذلك ممّا يورث الظنّ النوعي أو الاطمئنان عادةً للمكلّف العادي، وهو بالتالي يكون حجّة عقلائيّة عليه.
ولكن لا يخفى أنّ الموضوعات عادةً ليست من شأن الفقيه، وإنّما يرجعُ فيها هو إلى أهل الخبرة، وهنا لا مانع من أن يكون رأي أكثريّة أهل الخبرة مستندًا للفقيه للقول به، لا على نحو الحتم، بل كخيارٍ يحكم به انطلاقًا من (فإذا عزمتَ فتوكّل على الله). وعليه فلا يكون هذا من باب الرجوع إلى شورى الفقهاء بالمعنى المبحوث عنه؛ والله العالم.

6 – في ما يتعلّق بالتصرّف في سهم الإمام (ع) يُستدلُّ بأنّ الفقيه هو أكثرُ النّاس وعيًا بما يرضى به الإمام في صرف تلك الأموال. أليس رأي شورى الفقهاء أقرب إلى رأي الإمام المعصوم؟
هذا من الأمور التي لها شقّان؛ فإذا بُني على عدم الخلاف في الكبرى، من قبيل تحديد المجالات التي يجوز صرف الخمس فيها وتطبيقاتها، فإنّه ما من شكٍّ في أنّ رأي الأكثرية الناجم عن توفّر معطيات أكثر هو أقرب إلى رأي المعصوم. ولكن قد لا يُكتفى بالشورى هنا بالفقهاء فقط، وإنّما يُضافُ إليهم مختصّون في مجالات مرتبطة بتحديد الحاجات والأولويات تبعًا لدراسات موضوعية للواقع.
إضافة إلى ذلك، قد يُقال إنّ هذا الأمر مرتبط بالجانب الحكومتي أو الولايتي أو التنفيذي عمومًا، وفي مثل ذلك يكون اتفاق الفقهاء أو أمر الفقهي الوليّ بإناطة هذا الأمر بمجموعة الفقهاء جزءًا من تفعيل سلطتهم التنفيذية؛ بل يمكنهم تفويض الأمر إلى أي جماعة، وليس هذا من باب شورى الفقهاء.
وبعبارة أخرى، مسألة صرف الحقوق – بعد الاتفاق على موارد الصرف – ليست من المسائل الكبرويّة التي يجري فيها الكلام المتقدّم، وإنّما هي من المسائل التنفيذية التي يمارس فيها الحاكم الشرعي صلاحيّاته في تحديد ما هو الأقرب إلى الواقع، وهذا له وسائل عديدة، ويمكن اضطلاع شورى الفقهاء بها، إضافة إلى مختصّين؛ والله العالم.

7 و8- ما هي العوامل الدخيلة في تحقيق المرجعية الشورائيّة في الوسط الشيعي؟ وما هي العوائق أمام تطوير الاجتهاد الجماعي والمرجعيّة الشورائيّة؟
أعتقد أنّ العامل التنظيري يمثّل أهمّ العوامل في هذا المجال، بحيث يؤدّي على الأقل دورًا في جعل الفكرة مقبولةً كخيار اجتهادي. وهذا الأمر يتطلّب فتح الباب أمام مراكمة البحوث في القبول والرفض، وهذا هو الذي قد يفتح على مراكمة الأدلّة المؤسِّسة لهذه الفكرة الجديدة.
من الممكن هنا اعتماد فكرة المؤتمرات ذات التحضير الجيّد والعلمي والدقيق، البعيد عن الجانب الشكلي أو الاستعراضي، وهذا بابٌ مهمّ لتلاقح الأفكار وتقريب وجهات النظر، كما في تقديم الفكرة إلى العامّة.
وبغضّ النظر عمّا أوردناه آنفًا بشأن التأسيسي النظري، فيمكن أن نعدّ من ضمن العوامل التي تعزّز الفكرة هو قدرة الفكرة أن تتجسّد على مستوى الممارسة، بحيث تقوم جهة فاعلة بتبنّي الفكرة عمليًا، ثمّ تكون هذه الجهة قادرة على تقديم نموذج أكثر جودةً من الاجتهاد الفردي.
من المهمّ هنا أن يكون هناك حضور لشورى الفقهاء في حياة المقلّدين، وأن يتمّ التواصل معهم، لا في إصدار الفتاوى فقط، وإنّما في تقديم حيثيّات الفتاوى، ولو بنحوٍ قريبٍ من ثقافة الناس وذهنيّتهم، فهذا يؤدّي إلى إيجاد جمهور داعم للتجربة؛ لأنّ الفقه في النهاية هدفه النّاس وعموم المقلّدين.
طبعًا، من خلال بعض التجارب، فإنّ اضطلاع شورى الفقهاء بقضايا ذات صلة بإشكاليّات تهمّ الإنسان المعاصر، بحيث يشعر المقلّد بأنّ هذه الجهة تمثّل حاجة فعليّة في الإجابة على أسئلة متنوّعة، ولا سيّما أن الفقه في ذاته بات اليوم يطرح كثيرًا من الأسئلة والإشكاليات أمام الممارسة الاجتهادية التي تقتصر على الفقه والأصول التقليديين، بعيدًا عن علوم ومعارف أخرى دُفعت إلى واجهة الاهتمام الفكري والثقافي العام بشكل منقطع النّظير في هذا العصر.

9- هل لديكم أنموذج لشورى الفقهاء أو الاجتهاد الجماعي أو المرجعية الجماعية؟ ما هي عناصر ذلك الأنموذج؟
أشرنا فيما سبق إلى أنّ مبدأ الشورى، لا يحتّم اللجوء إلى فرضية شورى الفقهاء، وهناك نظرية أخرى، تتمثّل بما طرحه المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله (ره) من نظرية المرجعية المؤسّسة وهو قائمٌ على فكرة أنّ المرجع (الفرد) والذي لا بدّ أن يتمتّع بمواصفات تتطلّبها القيادة المرجعية في هذا العصر، يرأسُ مؤسّسةً مرجعيّة، يجتمع فيها مجتهدون فقهاء وأهل خبرة من شتى الميادين التي تضطلع بها المرجعية، وعندئذٍ يمكن أن تكون هذه النظرية أنموذجًا للدراسة والبحث؛ لأنّها تشكّل حلقة وسيطة بين المرجعية الفردية والمرجعية الجماعية (شورى الفقهاء)؛ لأنّه من جهة يحافظ على المرجعية الفردية في موقع رأس المؤسسة المرجعية.
أظنّ هنا، أنّ هذا الأمر يمكن أن يكون عاملًا مساعدًا في تظهير الفكرة بشكل أكثر سلاسة؛ والله تعالى هو أعلمُ بحقائق الأمور، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

بيروت في 26 جمادى الأولى 1442هـ
الموافق لـ 10-1-2021م.