السيد د. جعفر فضل الله

المقاربة الدّينيَّة التّقليديَّة لمسألة التَّكفير، تتمُّ عادةً من زاوية عَقَديَّة معرفيَّة، تستتبع إصدار الأحكام المعرفيَّة السّلبيَّة الّتي يُعبَّر عنها بأكثر من مصطلح، كالردَّة أو الكفر أو الشِّرك أو الابتداع أو الضَّلال أو ما إلى ذلك. وكذلك تُقارَب من ناحية فقهيَّة، من خلال إصدار الأحكام الشرعيّة بالقتل أو النّفي أو ما إلى ذلك؛ فضلًا عن الذهنيّة الشعبيّة الّتي عادةً ما تعتمد توصيف الواقع من خلال هذا البُعد، وتستدعي كثيرًا من المفردات الّتي تُعيد الصّراع إلى المقلب الأوَّل، أعني مرحلة الاختلاف في أمر الخلافة، وما تلاها من أحداثٍ كُبرى عصفت بالواقع الإسلاميّ.

لا نريد الخوض في هذين البُعدين؛ فلهما مجالهما الّذي يحتاج إلى قراءة فقهيَّة دقيقة للأدلّة الّتي يستخرجُ منها الحكم الشّرعيّ، والّذي نؤمنُ فيه بانفتاح باب الاجتهاد من دون تقييد؛ كما لا نُريد أن نحلّل المسألة من النّاحية الميدانيّة، ومدى اتّساع الخيارات المتاحة أو ضيقها أمام معالجة انفلات الأوضاع الأمنيَّة، أو السّيطرة على ما يُتحدَّثُ عنه من وجود مؤامرات كُبرى تجاه المنطقة، أو غير ذلك…

إلا أنّنا نريد الإشارة إلى أمرين بات الواقعُ الرّاهن يفرضُهما، وبإلحاحٍ، بعد تنامي ظاهرة التّكفير، ودخول المجال الإسلاميّ في حربٍ طاحنة، تأخُذُ الواقع إلى مزيد من التّأزيم على المستوى المذهبيّ؛ في محاولةٍ للارتفاع عن الآنيّ من الأحداث والمعالجات، نحو الاستراتيجيّ والجوهريّ في معالجة الظّاهرة عبر تجفيف منابعها.

أوّلًا: إنّ مقاربة مسألة التّكفير في بُعدها الفرديّ، أو الأحاديّ، تختلف عن مقاربتها كظاهرة اجتماعيّة؛ لأنّ التّكفير كظاهرة ينشأ من تضافر عوامل عديدة ذات منحى سوسيولوجيّ متشابك، وتراكمها عبر مسارٍ معيّن، يُصبح معه التّكفير ثقافة، ويتحوّل إلى ذهنيّة وسلوكٍ معقّد.

حتّى الأحكام الّتي يتمّ إثباتُها للفرد على أساس الكُفر بإعطائه وصف الردّة مثلًا، قد تتعقّد جدّاً عندما نُريد أن نوصّف التّكفير كظاهرة مقدِّمةً لاقتراحِ حلولٍ لها؛ لأنّ هذا النوع من التّوصيف قد يبدو مجتزأَ، وبالتّالي، قد ينتج مزيدًا من التصلّب من جهة، أو قد يدفع إلى الردّة من جانبٍ آخر؛ لأنّ الظّواهر عندما تتعقّد، فإنّ تداعياتها تُظهر كُلَّ الأمراض الكامنة الّتي كان يسيطر عليها الواقع السياسيّ أو الاجتماعيّ، وتنفلت مع انفلاته وضعفه. وعلى الهامش هنا، نستطيع أن نلمح ما يُمكن أن يصنعه ضرب المركزيّات الدّينيّة أو السياسيّة في هذا المجال، حتّى تحت شعارات التّغيير الديمقراطيّ أو نحوه.

ثانيًا: إذا كان سيتمّ الحديث عن حلولٍ ناجعة لظاهرة التّكفير، فإنّه لا يصحّ في هذا الأمر اللّجوء إلى المقاربة الدّينيّة التّقليديّة، الّتي تحاور “التّكفيريّ” بالكتاب أو بالسُّنَّةِ؛ لأنّ قابليّة التّكفيريّ للنّقاش مشكوكٌ في أمرها. وهنا ينبغي للدّراسة السوسيو- تربويّة، أن تعطينا فكرةً عن طبيعة عوامل التّنشئة الّتي تجعل العقلَ التّكفيريّ يتحرّك بنمط تكراريّ للأفكار، مع ضعفٍ واضحٍ في القدرة على التّحليل، وبالتّالي قصورٍ عن الدّخول في أيّ حوارٍ.

إنَّنا نطرح هذا الأمر؛ لأنَّ علاج مثل هذه الظّواهر يحتاج إلى جهود عمليَّة متنوّعة الأبعاد؛ لا بدَّ من أن يُشارك فيها الاختصاصيّون من كُلِّ مجالات المعرفة والعلوم، ومنهم اختصاصيّو الأديان والمذاهب. نحتاجُ إلى علماء الاجتماع، والتّاريخ، والنّفس، والتّربية، والسياسة، والاقتصاد وغير ذلك، عندما يُراد جدّيًّا وضع خطط مفيدة إذا ما وضعت في مسارها العمليّ التّنفيذيّ.

وإنّ المشكلة الّتي نعانيها في كثيرٍ من أوضاعنا في هذا الشّرق، أنّنا نعيش الفصل بين مجالات العلوم، ونكاد نمارسُ ـ جميعًا ـ تكفيرًا “علميًّا” ـ إذا صحّ التّعبير ـ؛ حيث نفرّق بين علوم دينيّة وعلوم دنيويَّة، والبعضُ يصنّفُ علومًا على أنّها شرقيَّة، وآخرون على أنَّها غربيَّة، والبعضُ أيضًا ينظرونَ إلى ديانات الباحثين والعلماء، ليتحدَّثوا عن مؤامرات علميّة على هذا الدّين أو ذاك!

إنّ العلمَ لا يُتحقّق من كفاءته إلا بالمقاربة العلميّة، وأيّ نظريّة إنّما تُدحضُ من خلال بناءٍ نظريٍّ آخر. أمّا التّراشق ورمي الاتّهامات جزافًا، فيبقى هو المسؤول عن تأخّرنا في الشّرق، مسلمين أو غيرهم.

وعلى هذا الأساس، ينبغي علينا أن نتعاملَ مع الظّواهر الّتي نعاينها في مجتمعاتنا، وتكادُ تنسفُ البقيّة الباقية من توازننا، على أساس أنّها موضوعات تحتاج إلى مساهمات من زوايا متعدّدة، بعيدًا عن نرجسيّات امتلاك الحقائق المطلقة، وعن الاستكبار المعرفيّ في ميادين العلوم؛ لأنّ كُلَّ مُعطًى يتمّ تقديمه من قبل أيّ مجالٍ، يُمكن أن يشكّل قيمةً مضافةً في الفهم أو في الحلّ، أو قد يتفتّق التّفاعل بين هذه المعطيات المقدَّمة من قبل أكثر من مجالٍ، عن معطيات جديدة ينفتح لها الذّهن البشريّ في لحظة إشراقٍ معرفيّ.

وسنكتشفُ ـ بما لا يقبل الشّكّ ـ أنَّ معالجة ظواهر من هذا النَّوع، تتطلَّب نهضةً اقتصاديَّة، وورشة إصلاح سياسيّ، والعمل على تعزيز أطر التّواصل الاجتماعيّ، والانفتاح الثّقافيّ، وإشاعة مناخات الحوار، وإصلاح مناهج التَّعليم، سواء منها التّعليم الأكاديميّ والدّينيّ، ومن دون شكّ، السّيطرة على أيّ إدارة جنونيّة للسياسة، إقليميًّا أو دوليًّا، وما إلى ذلك.

إنّ المنطق يقتضي منّا التّفكير في هذا المنحى، لا لنحلّ المشكلة من النّاحية الآنيّة؛ بل لأنّ الحلول تحتاج إلى تراكم مضادّ، وهو ما يستغرقُ وقتًا طويلًا، وما لم نبدأ العمل من اللّحظة دراسة الظّاهرة بكلّ عواملها، لتكون الخطّة متكاملةً في مداها الاستراتيجيّ، فإنّ الحلول الجزئيّة لن تلبث أن تُعيد إنتاج الظّاهرة، وربّما بمزيد من التّعقيد أيضًا.

المصدر: مجلّة الوحدة الإسلاميّة