السيد د. جعفر فضل الله

تطلّ عاشوراء في كلّ عام، والعنوان العريض لها في الوجدان الشَّعبي والإعلامي، وربّما السياسيّ، أنّ عاشوراء قضيّة مذهبيّة، فهيقضيّة الشّيعة في مواجهة السُّنة! أو أنّها بحسب الخطاب الشِّعري والنَّثري عمومًا، صراعٌ بين بني هاشم وبني أميَّة، حتّى اعتُبِرت لدى بعضٍ قضيَّة خاصّة، لا ينبغي أن تأخذ حيّزًا في الاهتمام الإسلامي العامّ.

وإذا كان تضييق عاشوراء إلى قضيّةٍ عائليّةٍ مسؤوليّة الخطاب المنتج ضمن الجماعة المذهبيّة الخاصّة، أعني المسلمين الشّيعة، فإنّها في البُعد المذهبي مسؤوليَّة المسلمين جميعًا، سنّةً وشيعةً على السواء.

ونحن لا نطرح المسألة هنا انطلاقًا من شعارات جوفاء، نهدف من خلالها إلى تلبيس القضيَّة ما ليس فيها، وإنّما نريد أن نؤكّد البُعد الأصيل في عاشوراء، انطلاقًا من عناصرها الذّاتيّة، التي انطلقت على أساس شعارات الإسلام، وقواعده الشرعيّة، ورموزه الإيمانيّة، ممّا أكَّده الحسين(ع) في بيان حيثيَّات حركته، كما في قوله: “أيّها النَّاس، إنَّ رسول الله قال: من رأى منكم سلطانًا جائرًا، مستحلًّا لحُرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنَّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ، كان حقًّا على الله أن يُدخله مدخله”، ثمّ قال: “ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر”[1]، وفي قوله: “إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”[2].

هذه الشِّعارات هي قواعد الإسلام في حركة التَّغيير، وليست قواعد مذهبٍ معيَّن، ولا تنطلق من خصوصيَّة الانتماء العائليّ للحسين(ع)، وإنّما من خصوصيَّة الانتماء الرِّساليّ، الذي من مسؤوليَّته كمسلمٍ أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، ومن مسؤوليَّته كقائد أن يقود حركة التَّغيير وإعادة تصويب مسار المجتمع. هذا كلّه فضلًا عن كون التشكّلات المذهبيَّة بعيدة كلّ البُعد عن تلك المرحلة من تاريخ الإسلام والمسلمين.

وربما يكون من الخطأ الجسيم أن يناقش المسلمون مسألة عاشوراء انطلاقًا من تفاصيل شخصيَّة، لها علاقة باجتهادٍ مصيبٍ أو اجتهادٍ مخطئ! المسألة هنا لا بدَّ من أن تُدرَس ضمن الظروف الموضوعيّة، وتراكم السلبيّات في حركة الأمّة الإسلاميّة، بحيث أصبح التّنازل في ذهنيّة الجماهير بُعدًا عن الإسلام أمرًا لا يمكن السكوت عليه. إنَّنا نتحدَّث هنا عن حداثة عهدٍ بالإسلام، وعن عودةٍ إلى قيم الجاهليَّة، لا إلى الحكم فحسب، بل إلى كلِّ مستويات النَّشاط الاجتماعي والاقتصادي والفكري وما إلى ذلك، بما تعكسه إحدى الكلمات المرويّة عن الحسين(ع): “على الإسلام السَّلام إذ قد بُليت الأمَّة براعٍ مثل يزيد”[3].

ولعلَّ من الضَّروريّ أن يتوفَّر على دراسة الثورة الحسينيّة الباحثون الاستراتيجيّون الذين تراكمت لديهم الخبرات التحليليّة في حركة السياسة والصّراعات الداخليّة والخارجيّة، وتأثيراتها المتنوّعة في طبيعة البنى الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة الّتي تحكم المجتمعات؛ لأنَّ الحسين(ع) لم يكن شخصًا يرتجل المواقف، ولم يكن شخصًا يعيش على هامش الأحداث، وهو الّذي واكب تحوّلات كبيرة، وصراعات خطيرة، وخبر معالجتها بما يحفظ المبدأ والخطَّ والمجتمع والأمَّة، بدءًا من كيفيّة معالجة قضيّة الخلافة، وحروب الجمل وصفّين والنّهروان، ثمّ صلح الحسن(ع) مع معاوية بعد استشهاد الإمام عليّ(ع)، وصولًا إلى تولّي يزيد للسلطة!

النّموذج الحسينيّ

عاشوراء حركة إسلاميّة، وعندما تكون كذلك، فمعنى ذلك أنَّ تمظهراتها في العائلة أو المذهب أو أيّ انتماء لا تمثِّل حقيقتها وجوهرها، ولا بدَّ من أن ننظر إليها من خلال طبيعة النموذج الذي يمثّله الحسين(ع)، والنموذج الذي يمثّله يزيد بن معاوية؛ لأنَّ ذلك هو الّذي يشكّل قاعدةً لتوظيف عاشوراء بطريقة صحيحة في واقعنا المعاصر.

لقد كان نموذج الحسين(ع) هو نموذج الإنسان المسلم المؤمن، المقيم للصّلاة، والمؤتي للزكاة، والآمر بالمعروف، والنّاهي عن المنكر، والعامل على حياطة الإسلام فكريًّا وثقافيًّا وجهاديًّا واجتماعيًّا وما إلى ذلك.

لقد كان النّموذج الّذي يجعل السياسة في خدمة النّاس، ويعتبر الحاكم الإنسان المسؤول الأوَّل عن تطبيق القانون على نفسه قبل أن يطبِّقه على الآخرين، وأن يبدأ بتطبيقه من الأقربين قبل الأبعدين. والثّرواتُ عند هذا النّموذج هي ثروات الأمَّة، ملك حاضرها ومستقبلها، وكلّ أبنائها.

وهذا النّموذج هو النّموذج الرساليّ الذي يعتبر القيمة أهمّ من الشّخص والعائلة ومن أيِّ انتماء من الانتماءات التي يتفاضل فيها النّاس، وربّما يتصارعون حولها.

إنَّ الحسين(ع) كان نموذج الإسلام الّذي اكتسبت العائلة شرفًا من خلال تجسيده، والَّذي يكتسب المذهب موقعه المتميِّز من خلال كون هذا النّموذج يمثّل قيادته.

من الخطأ أن نعتبر أنّ قضيّة عاشوراء قضيّة شيعيّة في مقابل السُّنّة، أو أنّها قضيَّة إسلاميَّة في مقابل غير المسلمين، بل هي قضيَّة إسلاميَّة في قيمها، إنسانيّة في حركتها
النَّموذج اليزيديّ

أمَّا النَّموذج الآخر، فهو يزيد بن معاوية، الّذي لم تكن المشكلة معه أنَّه من مذهبٍ معيَّن، ولا أنَّه من بني أميَّة، وإنّما وقف الحسين(ع) في وجهه لأنّه كان يمثّل النّموذج المناقض لكلِّ قيم الإسلام، بدءًا من التّوحيد الذي فرّغه من محتواه، وأصبح مجرَّد شعارٍ يقوله المرء بلسانه، ولا يحكم حركة الإنسان في انتماءاته وحركته في الحكم والسياسة والاقتصاد والأمن والعلاقات والأوضاع المتنوّعة.

لقد كان يزيد نقطة التحوّل التي أظهرت مشروعًا لتفريغ الإسلام من القيم، وتحويل الحكم إلى وراثة بعيدة عن أيّ معايير، فأصبح من حقِّ يزيد أن يكون خليفة المسلمين لأنّه من بني أميّة، ولأنّه يملك القوّة التي يقهر من خلالها إرادة النّاس، أو يملك المال الذي يشتري به ذمم الجماهير، وغاب عن الناس، بفعل تعقيدات الواقع، ونبش الذهنيّات القبليَّة التي تجتذب الهوى والعصبيّات، أنَّ الحكم في الإسلام له أسس وقواعد ومعايير، وهو سلوك عمليّ ينطلق من قاعدة القيم الإسلاميّة والإنسانيّة.

كان نموذج يزيد يتعامل مع مقدّرات الأمَّة وثرواتها الماليّة والطبيعيّة، على أنّها مُسخَّرة لخدمة الحاكم وأقربائه والّذين ينتمون إليه بالمعنى النَّسَبي أو العصبي، هذا كلّه فضلًا عن أنَّ يزيد لم يكن يمتلك أدنى مواصفات الرَّجل المسلم، فكيف بكونه عن خليفة المسلمين!

لم يكن نموذج يزيد نموذجًا سنّيًّا مقابل نموذج شيعيّ؛ لأنَّ تلك القيم لا تمثّل الأسس والقواعد والمعايير التي كتب فيها العلماء والفقهاء، ولا ينبغي لجلوسه في هذا الموقع أن يكسبه أيَّ شرعيّة طالما أنّه لا يمثّل أيّ قيمة في هذا المجال.

عاشوراء ليست شيعيّة ضدّ السنّة

وعلى هذا الأساس نقول، إنَّ من الخطأ أن نعتبر أنّ قضيّة عاشوراء قضيّة شيعيّة في مقابل السُّنّة، أو أنّها قضيَّة إسلاميَّة في مقابل غير المسلمين، بل هي قضيَّة إسلاميَّة في قيمها، إنسانيّة في حركتها، وكلُّ من اقترب من القيم الّتي جسّدها الحسين(ع)، مثَّل النَّموذج الحسيني بالنّسبة الّتي يقترب فيها منه، وكلُّ من اقترب من القيم السلبيَّة التي جسّدها يزيد، التقى بالنموذج اليزيديّ المناقض للإسلام وللإنسانيَّة.

ولذلك، قد يكون الممثّل للنّموذج الحسيني أو اليزيدي شيعيًّا أو سنِّيًّا أو مسيحيًّا أو يهوديًّا أو منتميًا إلى أيٍّ من الانتماءات الإنسانيّة.

إنَّ مذهبة عاشوراء أو تطييفها خطأ جسيم، وهو يضرب عاشوراء في عمق أصالتها، لأنَّ الإمام الحسين(ع) أرادها أن تكون خطًّا قيميًّا في مدى الزّمن، وأن تجد صداها في نماذج القيادات الّتي تستولدها الأجيال.

ولا بدَّ من أن يتحوَّل النّموذج الحسيني واليزيدي إلى معايير واضحة وقابلة للقياس في أرض الواقع، نقيس عليها القيادات الفكريّة: على أيّ قاعدة تنتج الفكر؛ على قاعدة الكتاب والسّنّة، أم على قواعد أخرى لا علاقة لها بالإسلام عندما نتحدَّث في الدائرة الإسلامية، ولا علاقة لها بالدّين عندما نتحدَّث في الدائرة الدينية، ولا علاقة لها بالقيم الإنسانيّة عندما نتحدّث في الدائرة الإنسانيّة؟

وعندما يصبح لدينا معايير واضحة للنّموذج العاشورائي عمومًا، فإنه سيكون في مقدورنا أن نقيس عليها القيادات السياسيّة في أيّ مذهب وأيّ دين؛ فهل هي القيادات الّتي تحرّك الحكم في هوى مصالحها وأهوائها، أم تحرّكه لخدمة النّاس؟ وهل هي القيادات الّتي تصادر حرّيّة الناس، أو تطلقها وتنظّم حركتها بما يعود بالنّفع على النّاس والحياة؟ وهل هي القيادات التي تجعل القانون على قياسها، أم تؤسِّس القوانين على قياس مصلحة المجتمع والأمَّة، حتّى لو كانت تلك القيادات أوّل المتضرّرين منه؟

وهنا لا يعود في إمكان أحدٌ أن يلعب على الوتر المذهبيّ، بحجَّة أنَّ هذه القيادة تمثّل هذا المذهب، وأنّ تلك القيادة تمثِّل ذاك الخطّ، بحيث يصبح مجرّد الانتماء حصانةً تمنع من المحاسبة، وسببًا في ارتباط الجماهير به، بما يعطي قوّةً للظلم والفساد وما إلى ذلك، ممّا يناقض قيم المذهب أو الدّين.

إنَّ اعتبار عاشوراء قضيّةً مذهبيّةً، هو الّذي جعل هناك هامشًا لأجهزة المخابرات أن تلعب على الوتر المذهبي في كلِّ عام، من أجل ضرب الأمَّة من داخلها، ولذلك فإنَّ مسؤوليّة نزع الصفة المذهبيّة عن عاشوراء، عبر إعادتها إلى أصالتها الإسلاميّة، من مسؤوليّة المحيين لها وغيرهم.

الإحياء مسؤوليّة كلّ المسلمين

قد يكون لبعض المسلمين تحفّظات على أنماط الإحياء للمناسبات الإسلاميّة، كأن يقتصر مبرّر إحياءالمناسبات لديهم على مناسبات الفرح لا مناسبات الحزن، وعاشوراء جزءٌ منها.

ولكنّنا نقول: إنَّ الإحياء على قسمين؛ الأوَّل ما يكون من خصوصيّة جماعة مذهبيّة معيّنة، وهذا جزءٌ من ثقافة الجماعة، ومن الصَّعب أن ينتقل إلى جماعةٍ أخرى لم يكن لديها تلك الخصوصيَّة الثقافيَّة عبر الزّمن، ولذلك، فإنَّ نمط الإحياء الّذي يمارسه المسلمون الشيعة، يرتبط ببُعدٍ ثقافي لديهم، ساهمت فيه عوامل فكريّة واجتماعيّة وسياسيّة وغيرها عبر قرون طويلة، فوصل إلى ما وصل إليه. وأعتقد أنَّ من غير المنهجيّ أن يُعمَّم الأسلوب على جماعةٍ أخرى لم تعرف تلك العوامل.

ولكنَّ القسم الثاني هو أن تكون عاشوراء منطلقًا لاهتمامٍ إسلاميّ عامّ، فلا ينطلق فيها الخطاب الإسلاميّ على طريقة المجاملات الشكليَّة، التي يؤكِّد فيها المسلمون اجتماعهم على شخص الحسين(ع)، ويسردون لذلك الأحاديث النبويّة المادحة للحسين(ع)، وإنّما أن يمثّل اهتمامًا بالمرحلة التي احتضنت عاشوراء كفعل ثورة، وكمنطلقٍ للتَّغيير، وكمنعطفٍ من أخطر المنعطفات في تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة؛ لأنَّ واحدةً من مشاكل الحاضر ناشئة من طريقة تعاطي المسلمين مع التاريخ؛ وعاشوراء من أهمّ محطَّاته.

بالعودة إلى الأساس القرآنيّ للتَّعامل مع التاريخ، نجده يتحرَّك ضمن خطَّين: الأوَّل أنَّ التاريخ مسؤوليَّة الذين صنعوه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[4]، والثَّاني أنَّ علينا الاهتمام بالتّاريخ لأخذ العبر والدّروس: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[5]؛ لأنَّ التَّاريخ يحتضن في أحداثه وأقواله وناسه القيم الّتي هي فوق الزَّمان والمكان والأشخاص، ويمثِّل تجربةً في تحريك القيم بطريقة إيجابيَّة وسلبيَّة، ولذلك، تمثّل أخطاؤه ونجاحاته تجارب للحاضر، إذا أحسن استلهامها، شكَّلت قاعدةً لتحقيق نجاحات مماثلة في المستقبل. وإنَّ أمّةً لا تعير اهتمامًا بتاريخها ضمن هذا المنظار، هي أمَّة لا تراكم الخبرة، وتبدأ دائمًا من الصِّفر، وتتحرَّك على سطح الأرض ولا تضرب جذورها في الأعماق.

استلهام العبرة من عاشوراء، هو أن نستخرج النَّموذج العاشورائيّ، الإيجابي والسّلبي، وأن نحوِّل ذلك النّموذج إلى قاعدةٍ لنبحث من خلاله عن النَّماذج المشابهة في واقعنا، في انتمائنا الخاصّ والعامّ، المذهبي والدِّيني والإنساني؛ وبذلك يمكن أن تحقِّق عاشوراء وقفةً إسلاميّةً وإنسانيّةً ضدّ الظّالمين والمنحرفين والمفسدين في الأرض، سواء كانوا قوى محلّيّة أو إقليميّة أو دوليَّة، ويمكن أن تحقِّق تقويةً لخطِّ الحقّ والعدل والاستقامة في كلِّ ميادين الحياة ومجالاتها؛ والله من وراء القصد.

*مجلة الوحدة الإسلامية

[1]موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع)، ص438.

[2]المرجع نفسه، ص 354.

[3]موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع)، ص346.

[4]سورة البقرة: 134.

[5]سورة يوسف: 111.