السيد د. جعفر فضل الله
ما أحوجنا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، إلى التوقّف عند تلك المرحلة التاريخيَّة الَّتي حدثت فيها عاشوراء! ذلك الحدث الّذي كان يضغط على كلّ الواقع الإسلامي والإنساني آنذاك، كان وليد ظروف وأوضاع متشابكة، تشبه ما نعيشه اليوم، فهناك مشاريع كانت تتصارع، وهناك مشاريع تتصارع اليوم، وهناك قوى مؤثّرة وفاعلة في ذلك الوقت، وهناك قوى مؤثّرة وفاعلة في وقتنا الحالي، هناك أريحيّة إنسانيّة تريد أن تنطلق بالإنسان بعيداً نحو التحرّر، وهناك حركة تريد أن تستعبد الإنسان، وتحوّله إلى وحشٍ يقتل ويذبح ويسفك الدّماء، دون أن يدري لماذا يفعل ذلك، وهناك مثل ذلك اليوم.
تمثّل عاشوراء نقطة تاريخيَّة مضيئة في تاريخنا الإسلاميّ والإنسانيّ، واستعادة عاشوراء الحدث والموقف والقيم، من أهمّ ما يمكن أن نقوم به اليوم، بعيداً عن أيّ نقاش أو جدل يرتبط بعاشوراء الإحياء، الَّتي من الطبيعيّ أن تأخذ خصوصيّات الَّذين يحيونها، سواء على مستوى تطلّعاتهم وأفكارهم ومناهجهم وأساليبهم، أو حتى انتماءاتهم المذهبيَّة.
لو رجعنا إلى عاشوراء الحدث، والَّتي أريد لها أن تكون قضيّة على مدى الزّمن كلّه، لوجدنا أنّها ترتكز على أمر أساسيّ، وهو أنَّ الإنسان لا يمكن أن يستمرّ في حياته دون حرّيّة، ولا يمكنه أن يتطوّر من دون حرّيّة، ولا يمكنه أن يكون إنساناً من دون حرّيّة، وأنّ المنهج الذي أريد فرضه على الساحة آنذاك من قبل السلطان الجائر، كان منهج فرعون الّذي تحدّث عنه الله تعالى في كتابه العزيز، عندما قال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}[الزخرف: 54]، استخفّ قومه فكريّاً، واستخفّهم اجتماعيّاً وإنمائيّاً وسياسيّاً، وعلى كلّ المستويات التي تمثّل القاعدة الّتي يرتكز عليها الإنسان ليفكّر، أو لينتج، أو ليطوّر، أو ليصلح واقعاً، أو ليتحرّك في مسار، وكان من نتيجة تلك الخفّة، أنَّ وجده قومه مثالهم الأعلى، وهو في موقع الضّلال، وهو في موقع الجبروت، لماذا؟ لأنهم يتعلّقون عندئذٍ بالسّلطة، أيًّا كان مضمونها؛ وهي أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه بخفّتهم التي فرضت عليهم.
هكذا كان يراد للإنسان في ذلك الواقع، أن يُستعبَد في إرادته، بحيث يتحوّل إلى صدى لما تريده قوى الأمر الواقع، سواء كانت حاكماً، أو أعوان الحاكم، أو قوى المال، أو حتى رجال دين، ممّن امتهنوا الترويج للحاكم والسلطان.
كان فرعون يستعبد النّاس في عقولهم، ويقول الله تعالى عن ذلك: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر: 29]؛ أنا الّذي أفكّر عنكم، وأنا الذي أختصركم في ذاتي وأهوائي، وأنا الّذي ينبغي أن تخدموا غرائزي وشهواتي ومزاجي، وأنا الّذي ينبغي أن يتحرّك اقتصادكم واجتماعكم من أجل أن يخدمني، أو يخدم ورثتي من بعدي؛ فقط لأنّي أنا الحاكم! ولأنَّ الظّروف فرضتني عليكم!
هذا المنهج الفرعوني الَّذي كان يصطدم على الدّوام بالمشروع الَّذي أتى به الأنبياء على مرّ الزّمن؛ المشروع الّذي انطلق ليحرّر الإنسان في عقله، وليقول له: أيّها الإنسان! لقد أودع الله فيك طاقة العقل، وعليك أن تنتج عقيدتك من موقع قناعتك. ليس لآبائك، ولا لأجدادك، ولا لبيئتك، ولا لمحيطك، ولا لأيّ أحد ممن يملك القوّة أو المال أو السلطة، أن يفرض عليك فكراً، إلا أن يقنعك من خلال قواعد العقل والمنطق، وعندما ينقل فكرته إلى عقلك من خلال الدّليل والبرهان وتقتنع بها، فأنت تلتزم بها من موقع أنها قناعتك، لا من موقع أنها قناعة السلطان، أو الحاكم، أو صاحب المال، أو الجاه.
لقد أراد الإسلام أن يحرّر الإنسان في إرادته، عندما جعل حركته محكومةً إلى القيم، وحدّد القيم كموضوعٍ خارج عن إطار حركة البشر، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو منبع القيم، والله لا يحويه زمان ولا مكانٌ، ولا يخضع لأيّ ظرفٍ بشريّ، وهذا يعني أنَّ الإنسان إذا ارتبط بقيم الله، فإنّه يخرج نفسيّاً وإراديّاً من كلّ ما يمكن أن يستعبده من حوله، سواء كان إنساناً، أو اتجاهاً، أو دولةً، أو حزباً، أو كان عادات، أو تقاليد، أو مجتمعاً.
عندما أحتكم إلى أهدافي وقيمي، ولو كانت توجب لي الضّرر أو السّجن، أو تؤدّي بي إلى الاستشهاد، فهذا يعني أنّه ليس من شيء في هذه الحياة، يمكن أن يستعبد إرادتي، وإنّما أنا أتحرّك كفردٍ من موقع ما أؤمن به، وأحرّك ما أؤمن به في الحياة، في سبيل أن أحقّق نتيجةً في زمني الذي أعيش فيه، أو في الزمن الآتي من بعدي. أنا بذلك أكون حرّاً في إرادتي، لأنّ السلطة لم تستعبدني، ولأنّ المال لم يفرض عليّ أن أبيع مبادئي، ولأنّ الجاه لم يجعلني أسير على خلاف قناعاتي، ولأنّ حزبي، أو بيئتي، أو عائلتي، أو أيّ إطارٍ أنتمي إليه، لم يفرض عليّ موقفاً، إلا من خلال ما أقتنع به.
أيّ تحرّر أكبر من هذا التحرّر؟! أيّ تحرّر أعمق من هذا التحرّر؟! أن يصبح الإنسان ـ كفردٍ، من موقع ارتباطه بالله سبحانه وتعالى، محور هذا الوجود، كأنّه حرّ في وجه كلّ العالم والكون، وكلّ الأقوياء، وكلّ الطواغيت، وكلّ الجبابرة.. وهذا مما عملت عليه الأديان كلّها، فالأديان لم تحرّر الإنسان من الخارج إلا عندما حرّرته من الدّاخل، فلم يستعبد الإنسانَ مالٌ ولا شهوة ولا غريزة، ولم يتحكّم بإرادته غضبٌ وانفعال، وإنما كان الإنسان دائماً، بوصلتُه عقلُه وقيمُه، يحرّك إرادته في سبيل اتّخاذ الموقف الّذي ينسجم مع إيمانه ومع قناعاته.
هكذا تكون الحريّة في الدّاخل، وهكذا تعبّر الحرية في الداخل عن نفسها في الخارج، في وجه كلّ الّذين يريدون أن يفرضوا أنفسهم على الإنسان. إذا كنت لا أرضى من نفسي أن تستعبدني، فمن بابٍ أولى، أني لا أرضى لأحدٍ في العالم أن يستعبدني. نعم، يستعبدني الله سبحانه وتعالى، تستعبدني القيم الّتي منبعها الله عزّ وجلّ، ولذلك، كلّ من يبرهن لي أنه يتحرك في سبيل تجسيد هذه القيم، فأنا أتحرك معه، وأمشي معه، وأسير خلفه، إذا كان يملك زمام القيادة نحو تجسيد تلك القيم في حياتنا، ولكن كلّ ذلك من موقع الذات التي تؤمن، والذّات التي تريد، والّتي تتحرّك في سبيل أن تجسّد إرادتها إلى جانب إرادات الآخرين، عندما تشترك مع الآخرين في قيم مشتركة. عندئذٍ، تكون فعاليّة الحريّة إرادةً مضاعفة، من خلال تلاحم الإرادات في سبيل تحقيق المشاريع.
هكذا نفهم عاشوراء، وهكذا نفهم فلسفة حركة الإمام الحسين(ع)، وصولًا إلى الاستشهاد بتلك الطّريقة الوحشيّة.
المسألة كانت بالنّسبة إليه هي الإسلام، وكانت القيم، وكانت المشروع، وبالتّالي وقف الإمام الحسين(ع) أمام خيارين: إمّا أن تُستعبد البشريّة في قادم الأيّام، وإمّا أن تتحرّر، ولذلك، كان واضحاً في المواقف الّتي وقفها في كلّ محطّات الطريق، وصولاً إلى الاستشهاد، إذ لم يعد هناك من مجال لحلول وسط، ولم يعد هناك من مجال لتسويات، ولم تكن المسألة بالنّسبة إليه مسألة شخصيّة ولا حزبيّة ولا عائليّة، بل المسألة مسألة إنسانيّة، ومسألة قيم ورسالة، لذلك، كان موقف الحرّية عندما قال: “لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد”، كان الموقف في ذلك الوقت إعلاناً لحركة تحرّر للأمّة من بعده.
كانت هناك إمكانيّات لكي يسلم كشخص، لكنّ الدّين لن يسلم، والقيم ستتشوّه، والإنسانيّة ستتحرّك في منطق وحشي، لا يقتصر على شخص الحاكم، ولا على بعض أعوانه المحيطين به، بل كانت هناك منظومة بديلة تتحرك ضدّ المنظومة الإنسانيّة التي بدأت مع رسول الله(ص) في مشروعه الرساليّ، كانت هناك منظومة استعباديّة تريد أن تستعبد الناس في عقولهم وإرادتهم، وتكسر نفسياتهم، وتحاول أن تصادر ثرواتهم ومستقبلهم، حتى يعيشوا على فتات تقدّمه لهم قوى الأمر الواقع.
وهذا نجده اليوم في واقعنا الّذي نعيش فيه، ونحن مطالبون في هذا الزّمن، بأن نصنع كربلاءنا وعاشوراءنا، بأن نحدّد ـ على ضوء ما نفهمه من فلسفة عاشوراء ـ كيف يمكن أن نقف الموقف الّذي لا يجعلنا نصادَر في حاضرنا أو في مستقلبنا، ولا نصادَر في ذهنيّاتنا ولا في مناهجنا التربوية، ولا في قيمنا الأخلاقيّة، ولا في انفتاحنا على بعضنا البعض، ولا في إدارتنا لعلاقاتنا، ولا تُصادَر أوطاننا في جغرافيّتها، وفي ثرواتها، وفي حاضرها ومستقبلها.
علينا أن نبرهن عن موقف الحرّيّة، لنقوم نحن بما ينبغي أن نقوم به على كلّ تلك المستويات؛ فنحن الّذين نركّز قواعد القيم في حياتنا، ونحن الّذين نحدّد كيف ينبغي أن يكون نظامنا السياسيّ، وكيف يمكن أن تتحرّك سياساتنا الاقتصاديّة، على أساس أن تجلب لنا المصالح في الحاضر والمستقبل، ونحن الّذين ينبغي أن نحدّد كيف يمكن أن نصوغ عيشنا المشترك، وكيف يمكننا أن نبني مجتمعنا، لا أن ندخل في فتنٍ وراءها فتن، من أجل أن نستسلم لليأس والإحباط العامّ، ونقول للّذين يخطّطون من الداخل والخارج: نحن نستسلم! لا نستطيع بعد أن نفكّر، لقد استقلنا من فاعليّتنا التاريخيّة، أفيضوا علينا من أنظمتكم، أفيضوا علينا من سياساتكم، أفيضوا علينا من مناهجكم، لو أردتم أن ننسف نصف القرآن أو أكثر من ذلك، لا مانع! لو أردتم أن نطوي صفحاً عن الإنجيل! لا مانع! ائتونا بما لديكم، نحن سنسبّح بحمدكم، استعبدونا كما شئتم!
وعندما نيأس، تبدأ حركة نحو العبوديّة. ولكن عندما لا نفقد الأمل بالله، مهما عصفت بنا الظّلمات، ومهما توحّش الإنسان في هذا العصر، ومهما تكالبت علينا الأمم، فإنّنا نستطيع أن نخرج من كلّ ذلك، لنبني حضارتنا، ولنرجع الحياة إلى أوطاننا، والله تعالى يقول: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}[الطلاق: 2، 3].
*كلمة ألقاها السيّد جعفر فضل الله في ندوةٍ نظمت في ذكرى عاشوراء، بتاريخ: 8 محرّم 1436هـ/ الموافق: 1 تشرين الثّاني 2014م.