قضيّة فلسطين في المدلول القرآني


لسنا نريد من العنوان أن نفترض أنّ الله تعالى تحدّث عن قضيّةٍ حديثةٍ منذ نزول الوحي، كجزءٍ من الإخبار المباشر للمغيّبات، نظير انتصار الروم “في بضع سنين”[1] وغيره. ولكنّنا ننطلق من مسلّمة وهي أنّ القرآن كتاب هداية، وذلك يتجلّى بأن يقدّم للإنسان مجموعةً معيّنة من المعاني، ذات الدلالات المباشرة وغير المباشرة، بحيث تمتلئ نفسُ الإنسان بها، فتكون توجيهًا لحركته في الحياة، وتجعله قادرًا على مواجهة تحدّياتها.

وانطلاقًا من ذلك، نحاول في هذه الورقة التأسيس لمجموعةٍ من المعاني القرآنيّة، التي ترتبطُ اليوم بالقضيّة المركزيّة للأمّة الإسلاميّة والعربيّة، بل للعالَم كلّه، باعتبار أنّ احتلال فلسطين شكّل انقلابًا، لا على القيم الدينية والإسلامية فحسب، وإنّما على ما قرّره العالَم من شرعة حقوق الإنسان، بحيث أصبح التعامل بين الدول والشعوب يقوم على معادلة “القوّة فوق القيمة”، و”القوّة تمنحُ الشرعية”، ممّا يشكّل خطرًا على أيّ نظامٍ وبالتالي على أيّ سلمٍ عالميّ، ولا سيّما إذا تمّ القبول بنتيجة هذه المعادلة على أرض فلسطين.

وعلى أساس ذلك، عندما نتعامل مع الواقع الذي نحن فيه، وفق معايير الحقّ والسلم، نكون قد شكّلنا البوصلة التي تحملها الدلالات القرآنيّة، والتي تتمحور حول الوعد الإلهيّ: “فإذا جاء وعدُ الآخرة”[2]، لننطلق منها في تصحيح النظرة إلى ثقافة المحتلّين، الذين شكّلوا ورثة لجماعةٍ من بني إسرائيل من الذين أفسدوا في التاريخ، على صعيد الدّين أو السياسة أو الاقتصاد وما إلى ذلك، والذي نلمحُ كثيرًا من تجلّياته في زماننا الحاضر، ومن ثمّ تبيان ما على المؤمن أن يستشعره من قوّة الإيمان وعزّته، وخلع هيبة المستكبرين، من فراعنة وقوى دينية واقتصاديّة تتحرّك للسيطرة على المستضعفين.

وننطلق في ذلك من منهج تركيبيّ، بمعنى أنّنا لا نكتفي بالنظرة التجزيئيّة للآيات القرآنيّة، فنقرأها بطريقة مفكّكة عن بعضها البعض، بل نحاول أن نقدّم خلاصة نظريّة للمحمول التربوي والإيماني الذي يجبُ العملُ عليه من أجل استمرار الروحيّة التي على عاتقها التحرير الكبير بإذن الله.

الظاهرة الحالية:

لدينا مجموعة من اليهود الذين كانوا يسكنون في شتّى أنحاء العالَم، وهؤلاء تمّ استجلابُهُم بطُرق متعدّدة إلى أرضٍ تمّ اعتبارُها أرضًا – دون شعبٍ – لشعبٍ دون أرضٍ، منحها لليهود وزير الخارجيّة البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، عام 1917، لقاء دخولهم المؤثّر في الحرب العالميّة الأولى، في ما سمّي “وعد بلفور”.

كان سبق ذلك مؤتمر بازل عام 1897 الذي وضع هدفًا وهو “إنشاء وطن قومي يهودي”، وخلال 50 عامًا تقريبًا من وضع ذلك الهدف أعلنَ عن قيام “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين المحتلّة عام 1948، والتي مهّدت لاحتلالها إبادات جماعيّة ومجازر وتهجير من قبل عصابات صهيونيّة، تحت غطاء قوّات “الانتداب” البريطاني بعد تقسيم بلاد الدولة العثمانيّة بموجب اتفاق سايكس- بيكو بعد الحرب العالمية الأولى.

وعندما أعلن عن هذه الدولة” بدأت تتوسّع في احتلالها إلى أن استولت على أراضٍ جديدة عام، واستمرّ التوسّع ولا يزال حتى يومنا هذا، من دون أن يردعها أيّ قانونٍ دوليّ أو ضمير أخلاقيّ، أو أيّ تنازلٍ فلسطيني أو عربي عن كثير من الحقوق، والاعتراف بشرعية كيانها الغاصب، بل  استمرت في مشروعها العدواني التوسعي استنادًا إلى عقيدة توراتية عنصرية تبرر لها إبادة شعب فلسطين، والسيطرة على أرضه وتهديد البلاد العربية والإسلامية يدعمها في ذلك الدول الكبرى وبالخصوص الولايات المتّحدة الأمريكية.

طبعًا، يجبُ أن نلفتَ إلى أنّ هذا الكيان يرتبط بمصالح الدّول الكبرى التي رعتها وما تزال، وهو ما يجعله قاعدة استعماريّة متقدّمة يلعبُ دور المدمّر لقوّة المنطقة والمانع لأيّ وحدة في المنطقة، كما يشكّل أساسًا لحماية المصالح الاستكبارية في المنطقة، مستفيدًا من كلّ الإمكانيّات التي يضعها الغربُ المستكبر بين يديه، وكذلك استثماره كلّ ذلك في سبيل جعل نفسه حاجةً للآخرين على أكثر من صعيد، وليس على الصعيد العسكري فحسب.

توصيف الظاهرة الحالية مسألة هامّة؛ وذلك لاختبار مدى التجانس بينها وبين الصّورة التي يقدّمها القرآن الكريم عن هؤلاء.

التسمية:

لدينا هنا ثلاث تسميات: “اليهود” و”الذين هادوا” و”بنو إسرائيل”.

الأوّل يشير إلى جماعة دينية متشكّلة، ولها معتقدات ناقشَ القرآن الكريم بعضها، وقد ذكروا في آياتٍ[3] متعددة إلى جانب النصارى. ولكن الهامّ بالنسبة لنا هنا هو الطبيعة العدوانيّة لهذه الجماعة، كما في قوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)[4]، (لتجدنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)[5].

الثاني: (الذين هادوا)، ورد هذا المصطلح في سياق إيجابي وسلبي والثاني غالبٌ. أمّا الإيجابي فمثل قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمَن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم  أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)[6]، وأما السلبي فيتراوح بين تحريف الكلم عن مواضعه[7] وسماع الكذب[8] وادّعاء التفوّق[9]. ولعلّ كثرة الآيات التي وردت فيها إشارات سلبية في مقابل آية واحدة إيجابيّة، يجعلنا نخلص إلى أنّ هذه مشروطة بالإيمان والعمل الصالح كما تصرّح، وهو ما يفسّره قولُه تعالى في الآية ١٥٦ من سورة الأعراف: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)، حيث كتابة الرحمة معلّقة على التقوى، وليست ثابتة للجماعة بما هي هي.

الثالث: (بنو إسرائيل). إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (ع)،

واللافت أنّ القرآن الكريم لم يشر إلى يعقوب بهذا الإسم (إسرائيل) إلّا مضافًا إليه الأبناء، أي بنو إسرائيل، أمّا عندما أريد الإشارة إلى شخصه فاستخدم الاسم العلَم، أي يعقوب[10]. ولعلّ في هذا إشارة إلى أنّ مرحلة (بني إسرائيل) تختلف عن مرحلة يعقوب (ع)، والذي يبدو أنّه كان يؤكّد على أن يكون مستقبل أمرهم في الثبات على الإسلام، وذلك قوله تعالى: (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[11].

وفي الواقع لا يبدو إلّا أنّنا أمام تسميات لمسمّى واحد، وهو الجماعة الدينية المعروفة باليهود، وديانتهم اليهوديّة، وقد يؤيّد ذلك القول إنّ تسميتهم باليهود باعتبار انتسابهم إلى بعض قبائل أبناء يعقوب الإثني عشر، وبالخصوص (يهوذا) ونسله، وبذلك تلتقي التسميتان (اليهود) و(بني إسرائيل) كما هو واضح. ولذلك لن نفرّق في نقاط البحث القادمة بين هذه التسميات في تحديد الصورة القرآنيّة الكلّية لهم.

ما نريده من هذه النقطة بالذات، هو أنّ القرآن الكريم لم يتناول هذه الجماعة الدينية – بكلّ تسمياتها – إلا من زوايا سلبيّة غالبًا، وهو ما يتّضح لنا جليًا في ما يأتي من صفحات.

نعم، ذكر مصطلح (الذين هادوا) في منحًى إيجابيّ لكن مع قيود الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل صالحًا شأنها شأن سائر الفئات. أمّا المصطلحات الأخرى فسلبيّة في الغالب.

يبقى أن نُشير إلى نقطة هنا، وهي أنّ بعض الآيات القرآنيّة تتناول عنوان “أهل الكتاب”، واليهود هم الجزء منه، بل لعلّهم هم الأكثر احتكاكًا بالمسلمين آنذاك، ولا سيّما في المدينة المنوّرة، ولذلك فهذا الخطاب يعنيهم وإن كان بعنوانهم الأعمّ الذي يشملهم مع غيرهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ القرآن الكريم يتعامل مع أهل الكتاب بإنصافٍ، وذلك من خلال تقسيمهم إلى مؤمنين وكافرين”[12]، وإن كان الإتّجاه السائد يميل إلى الكفر، ولا سيما عند اليهود، وفي بعض الآيات: (لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)[13]

سبب اهتمام القرآن باليهود:

ولعلّ النقطة التي انتهينا إليها آنفًا، يمكن أن تشكّل بداية الإجابة على سؤالنا الثاني، وهو: ما هو السرّ الذي يقف وراء اهتمام القرآن بذكر اليهود مقارنةً بالنصارى، وذلك لأنّ الدور الذي اضطلع فيه اليهود في مواجهتهم للدعوة الإسلامية، بل أيضًا لدعوة السيّد المسيح (ع) قبل ذلك، تجعل الصّراع معهم أمرًا متحرّكًا على أكثر من صعيد، وفي أكثر من مرحلة، ويتطلّب معالجات واقعيّة عملية، وليس معالجات فكريّة فقط.

يقول السيد فضل الله في تفسيره (من وحي القرآن) إنّ هناك ثلاثة أسباب تقف وراء هذا الاهتمام القرآني بهم:

أوّلها: “أنَّ اليهود كانوا يمثّلون القوّة الدينية الكبرى المتحرّكة التي وقفت ضدّ الإسلام منذ انطلق كقوّة في حياة النّاس في المدينة. أمّا النصارى من أهل الكتاب، فلم يكن لهم دور كبير في مواجهة الإسلام من ناحية عملية، بل ربما كان لهم دور إيجابي في بداية عهد الدعوة، إذا لاحظنا هجرة المسلمين الأولين إلى الحبشة، واحتضان ملكها النجاشي المسيحي لهم، وانسجامه مع الآيات القرآنية التي تلاها المسلمون المهاجرون عليه في ما يتعلّق بشأن المسيح وأمّه، فلم يبقَ هناك إلاَّ المشكلة الفكرية في موضوع فهمهم للتوحيد ولشخصية السيِّد المسيح وعلاقته باللّه؛ فكانت مساحة الحوار بالمستوى الذي تمثّله المشكلة الفكرية من خطورة. وثانياً: إنَّ المستقبل الذي سيتحرّك فيه الواقع اليهودي، يمثّل الخطر السياسي والاجتماعي والأمني والثقافي على واقع المسلمين، من خلال أطماعهم في الأرض الإسلامية من جهة وفي الثروات الإسلامية من جهة أخرى، لأنَّ طريقتهم في التفكير والحركة ستبقى هي نفسها تطبع مسارهم خلال التاريخ بسبب رسوخ تلك الثقافة التي واجهها القرآن في وجدانهم، ما سوف يؤدّي إلى ولادة مشكلات كبيرة مع محيطهم أينما حلّوا، وخصوصًا مع المسلمين؛ الأمر الذي يفرض على المسلمين التفكير في عناصر الشخصية اليهودية الاستعلائية وخططها العدوانية. وأمّا ثالثاً: فالتأكيد على المسلمين رفض موالاة اليهود بالمعنى الروحي والسياسي، واعتبار ذلك بمثابة ارتدادٍ عملي عن الإسلام يوحي بأيّ تراخٍ في الالتزام العقيدي الداخلي للمسلمين، بما من شأنه أن يؤسس لتمكين اليهود من استعادة السيطرة على الواقع.

انطلاقًا ممّا تقدّم، سنعتمد على التراكم الفكري والنفسي الذي يحصلُ لدى القارئ للقرآن الكريم تجاه هذه الجماعة الدّينية، والتي كان لها أدوار متعدّدة في التاريخ، وتلعبُ اليوم دورًا كبيرًا على المستوى العالمي، وفي أبعاد متعددة، وإن لم يكن ذلك واضحًا دائمًا، ويمكن لنا التوقّف عند محورين:

المحور الأوّل: المقاربة غير المباشرة (الثقافة اليهوديّة)

يمكن لنا أن نشرع في رسم مجموعة من الصفات التي تنطبع في ذهن القارئ الذي يتلو كتاب الله، وقد يمكن اعتبارها جزءًا من التصوّر الذي يتحدّث الله تعالى به عن هذه الجماعة الدّينية وثقافتها.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الثقافة ذات طبيعة امتداديّة في الزمن، بحيث تستند إليها هويّة الجماعة، وبالتالي تصبح جزءًا من المقدّس أو من الذات التي يجبُ على الجماعة الحفاظ على استمراريّتها، والدفاع عنها إذا ما تعرّضت للخطر، تمامًا كما يحافظ الإنسان على ذاته، وهي تستمرّ من خلال ذلك.

أمّا هذه الصفات فهي على النحو الآتي:

1- الاستعلاء المقدّس!

يُعتبر عنوان “شعب الله المختار” وصفاً بارزاً لليهود في عقيدتهم التي يختزنونها عن أنفسهم. ومن الواضح أنّ هذه العقيدة لا تقف عند حدود تمجيد الذات، بل تتعدّاه إلى احتقار من عداهم من الشعوب، فيعتقدون أنّهم خدمٌ عندهم أو من مخلوقات أدنى،  ممّا لمحناه بوضوح في حصرنا الحاضر في ما يصرّح به حاخامتهم بما يكشف حقيقة نظرتهم إلى الآخرين، كقول أحدهم على سبيل المثال أنّ الفلسطينيّين هم حشرات وأفاعٍ.

واللافت أنّ القرآن الكريم ذكر تفضيل بني إسرائيل، في قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين)[14]؛ إلا أنّ من الواضح أنّ ذلك التفضيل كان تفضيل النعمة، بمعنى أنّ الله سبحانه أغدق على بني إسرائيل كثيراً من النعم، حتّى لَيُمكن عدّهم “المدلّلين” بين أقوام الأنبياء.. ولم يكن ذلك إشارةً إلى تفضيل الذات؛ كيف؟! وتقريعهم وذمّهم في سورٍ عديدة من القرآن متكرّر، ممّا يُفهم منه أنّهم ليسوا شعباً فوق الشعوب، بل هم دون الشعوب؛ فإنّ الذي يكفر رغم كثرة النعم عليه هو أشدّ استحقاقاً للذمّ من غيرهم ممّن لا يتميّزون بذلك.

ولعلّ المتتبّع لموارد استخدام القرآن الكريم لمفهوم التفضيل يستطيع أن يلمح أنّه يتناول التفضيل في العطاء والمنح الإلهيّة، في حين عبّر عن التفاوت في الارتقاء برفع الدّرجات؛ قال تعالى: (تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٍۢ ۚ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ)[15]

وبذلك نفهم أنّ ذكر تفضيلهم لا يعني رفعهم فوق البشر، بل هم كسائر البشر، وقد صرّح الله تعالى لهم بذلك في قوله: (وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ)[16].

بل ربّما نجدُ أنّ ذكر التفضيل في النّعم إنّما هو تمهيدٌ لبيان انحطاط ذهنيّاتهم وروحيّتهم ومسلكيّاتهم، وذلك لأنّ الصورة التي ستنطبع في الذهن من خلال سوق القرآن لكمّ الانحراف الذي مارسه اليهود ونوعه في التاريخ على الرغم من هذا التفضيل، هي صورةُ الاحتقار الحضاري والدِّيني والقيمي لسلوك هؤلاء الذين كفروا بالنّعمة بدلًا من شكرها.

2- الاستعلاء ثقافة ونهج

وفي القرآن آيّات عديدة تجسّد تلك النظرة الدونيّة لكلّ ما ليس يهوديّاً من البشر، وهي التي تبيح للإنسان ظلم الناس في حقوقهم، ومنها قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينارٍ لا يؤدّه إليك إلا ما دمتَ عليه قائماً)، ويعلّل ذلك بقوله تعالى: (ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين) – وهم غير اليهود – (سبيلٌ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)[17]. ولعلّ هذا التعليل يصلح أساساً لما سنتعرّض له لاحقاً من سلوك نقض العهود والمواثيق، وهذا أمر تميّزوا به عبر التاريخ؛ لأنّ الذي يعتقد أنّ الحقّ إلى جانبهم في شكل دائمٍ وليس على اليهوديّ حقٌّ بالنسبة إلى غيره لن يكون لديه حرجٌ في نقض أيّ عهد أو موثق.

وهذه الذهنيّة سوف تعبّر عن نفسها في نرجسيّة تبرّر للإنسان كلّ الوحشيّة والإجرام بحقّ الشعوب الآخرى، طالما أنّ العقاب والمؤاخذة الإلهيّة مرفوعة عنهم؛ كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنّة إلا من كان هوداً أو نصارى)[18]، وإذا ما تعرّضوا للعقاب فإنّ أقصى ما قد يُعاقبون عليه في النار أيّام معدودة، كما قال تعالى: (ذلك بأنّهم قالوا لن تمسّنا النار إلا أيّاماً معدوداتٍ وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون)[19]. وهذه الآية تشير إلى أنّ هذه الأحكام التي تتّصل بتمجيد الذات والحطّ من شأن غيرهم إنّما هي افتراءات كذبوا فيها على أنفسهم، وأرادوا منها النيل من الآخرين إلى حدّ التكفير.

ولكنّ الله تعالى يضع القاعدة الأساس أمام هؤلاء الذين لا يملكون أيّ برهان على هذه الافتراءات ـ بل البرهان على عكسه، وهو ما ذكرناه أعلاه من قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه قل فلمَ يُعذّبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممّن خلق)[20].. هذه القاعدة تقول: (ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب) ـ ومنهم اليهود ـ (من يعمل سوءاً يُجزَ به ولا يجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً)[21].

وقد نستطيع هنا أن نلمح تحوّل الاستعلاء إلى نهجٍ تكفيريّ للآخرين، فهم – بالنسبة إليهم – خارجون من رحمة الله وثوابه، مُهملون من عنايته، ولن ينالوا جنّة الله التي هي حصرًا لهم.

3- المصالح فوق الدّين!

الأنبياء هم الحاملون لواء القيم، ويعملون على أن تتجسّد في حياة النّاس، وأن تعيد برمجتهم ليكونوا منسجمين معها في كلّ شأنٍ من شؤونهم، وكلّ وضعٍ من أوضاعهم. أمّا اليهود فقد سلكوا سلوكًا متنوّعًا ولكن يجمعه الرفض لرسالات السّماء، وهو ما تعكسه الآيات التالية:

1- (وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ وَقَفَّيْنَا مِنۢ بَعْدِهِۦ بِٱلرُّسُلِ ۖ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌۢ بِمَا لَا تَهْوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)[22]. فالقتل لمن قدروا عليه من الرسل، أمّا التكذيب فسيرة مستمرّة على مدى أجيالٍ من الأنبياء، ما بين موسى وعيسى (ع).

2- هذا التكذيب عندما لا تتوافق الرسالة مع مصالحهم وأهوائهم استمرّت إلى عصر النّبي (ص)، حيثُ كانوا يتوقّعون مجيء هذا النبيّ الذي سينصرهم على أعدائهم، وبالتالي ستؤول لهم القيادة والسلطة الدينية وتتبعها السلطة السياسية، وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)[23]، إذ سرعان ما كفروا بالنّبي الموعود ليس إلا لأنّه يقف ضدّ مصالحهم.

3- إرباك حركة الأنبياء في هدايتهم وتنشئتهم، وهو ما نلمحه جليًا في مرحلة النّبي موسى (ع)، إذ ما إن تركهم لفترة وجيزة حتى اتّخذوا العجل إلهًا متمرّدين على أخيه هارون بعد أن استضعفوه واستمرّوا في سياسة الإرباك هذه رغم كل ما أفاضه عليهم ربّهم من نعم، كإنزال المنّ والسلوى، فلم يشكروا كما لم يعتبروا ممّا تعرّضوا له من اختبارات ليثبتوا على إيمانهم بربّهم، حيث سرعان ما كانوا يطالبون بأن يكون لهم آلهةٌ أسوة بالوثنيّين، أو يرفضوا الالتزام بطاعة نبيّهم عندما أمرهم بدخول الأرض المقدّسة، وغير ذلك من ممارسات تعبّر عن تمرّد على حركة الدعوة، والإصرار على إرباكها في كلّ ما يتّخذونه من مواقف.

4- التحايل على الشريعة والقوانين الإلهيّة، كما حدث مثلًا في قصّة تحريم الصيد على بعضهم يوم السّبت، حيث تجلّى الرفض للميثاق بينهم وبين الله تعالى، كما قال عزّ وجلّ: (وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً)[24]، وقد قال تعالى: (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون)[25]، فاستخدموا الحيلة بالالتفاف على أمر الله عندما صنعوا أحواضاً وفتحوا لها أبواباً إلى البحر، فكانت تدخل الأسماك فيها يوم السبت، فتُحبس فيها، ثمّ في اليوم التالي يعمدون إلى صيدها، أو كانوا يلقون شباك الصيد في يوم السبت ويخرجونها يوم الأحد، أو كانوا يعمدون إلى المخالفة المباشرة، بالصيد يوم السبت.. وعلى كلّ حال، نجد في كلّ ذلك تلبيةً لنداء الهوى الذاتي والمصالح الآنيّة، على حساب المنهج الرسالي والالتزام بقواعد الحقّ.

5- رفض الانصياع للأوامر الإلهيّة المنافية لمصالحهم الدنيوية، وذلك من قوله تعالى: (وأكلهم الربا وقد نهوا عنه)[26]، ولعلّ في حديثِ الله عن مسألة الربا بصيغة الجمع يشي بأنّه أصبح طابعًا عامًا لحركتهم المالية، وليست مجرّد مسألة فرديّة طارئة.

6- تحريف كلام الله بعد وضوح الحجّة لديهم، وهو ما يشير إليه قولُهُ تعالى: (أفتطمعونَ أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعونَ كلامَ اللهِ ثمَّ يحرّفونَهُ من بعدِ ما عقَلوه وهم يعلمون)[27]، والتحريف إن لم يكن في النصّ، فإنّه يكفي أن يكون تحريفًا في التفسير، ولعلّ اعتماد تفسير التوراة (التلمود) مرجعيّة لهم يمكن أن يكون من هذا الباب، كما يمكن أن يكون تحريفًا في مقام التطبيق العملي، بما يلتقي بمثال التحايل على الشريعة الوارد في المفردة الرابعة أعلاه.

4- نقض المواثيق

تبيّن أكثرُ من آية في القرآن الكريم كيف نقض بنو إسرائيل المواثيق المتنوّعة التي أخذها الله تعالى عليهم، وهو ما يفعله اليهود ـ في الحاضر ـ امتداداً طبيعيّاً لأسلافهم لجهة الالتزام بالثقافة نفسها، سواء في علاقتهم بالله أم مع الآخرين. قال تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثمّ تولّيتم إلّا قليلًا منكم وأنتم معرضون)[28]، وفي هذا حثّ وتشديد لبناء العلاقات الاجتماعيّة على قاعدة سليمة، وللخطّ الروحي المتمثّل بالخضوع لله تعالى، إضافةً إلى تطهير النفس من أنانيّة الحرص ليبذل الواحد منهم في سبيل الله، بما يعكس الشعور بالمسؤوليّة عن الفئات المحرومة في المجتمع، وعن رفع مستواهم من خلال ما تؤمّنه الزكاة من تمويل للمشاريع التي تضمن استمرار الخير في حركة المجتمع نحو المستقبل.

لكنّ بني إسرائيل – في شكلٍ عام – أي أنّ أكثريّتهم نقضوا هذه المواثيق، كما يؤكد القرآن الكريم في حين كانت الأقلّة هي التي تحرّكت في خطّ الالتزام.

وهذا النهج المتفلّت من المواثيق هو ذاته تحرّك في خطّ الإفساد وسفك الدماء، ممّا يشير إليه قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون)[29]، ولكن ما هي النتيجة؟ (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)[30].

حتّى أنّ هؤلاء تعاملوا مع الدستور الإلهيّ المتمثّل في الكتاب الذي أنزله على أنبيائهم بالطريقة التي تمنع الناس من الاطّلاع عليه والمعرفة بمضمونه، فلم يطلقوه للنّاس بالنحو الذي يحوّله إلى علمٍ موضوعيّ يشكّل معياراً للحُكم والتقييم، وبرنامجاً فكريّاً وثقافيّاً وحركيّاً يُمكن كل إنسان أن يترقّى في مدارج العلم والتزكية وصولاً للالتزام بما فيه من الحقّ ومواجهة الباطل، فكان أن استأثر هؤلاء بالعلم، لتكون لهم الفسحة في التحكّم برقاب الناس. قال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون)[31].

ويظهر من بعض الآيات أنّ الله تعالى قد جعل لهم من الآيات والنعم لقاء إيمانهم والتزامهم بالمواثيق، ولكنّهم أعرضوا ولم يبالوا بذلك، وذلك هو قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون، ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين)[32].

ولم يقتصر التزامهم بهذا النهج، نهج نقض المواثيق، على المرحلة الزمنية الطويلة التي عاشوها مع أنبيائهم، بل ها هو يتجدّد في زمان النبيّ (ص)، وخصوصًا حين أخذ عليهم عهدًا عندما قدم المدينة المنوّرة مهاجراً من مكّة في ما سمّي بوثيقة المدينة التي حدّدت قواعد العلاقة معهم ضمن إطار المواطنة والسلم الاجتماعي، فنقضوها وظاهروا على حربه المشركين، ممّا تجلّى في معركة الأحزاب، ثمّ نجد ذلك هو الطابع الذي يتحرّك به اليهود في عصرنا الحاضر، ممّا يُشير بوضوح إلى ذهنيّة متأصّلة ومنهجٍ تربويّ راسخ توارثت فيه الأجيال خطوطه الفكرية والعمليّة جيلاً بعد جيل.

ومنذ أكثر من سبعين عامًا حتى الآن تعاطى اليهود المحتلّون لفلسطين مع العرب والمسلمين من خلال هذه الذهنيّة، بحيث كان نقص العهود هو النهج الذي يلتزمونه حين تحين لهم الفرصة لتحقيق أطماعهم، وصولاً إلى إلغاء فلسطين كلّها من الخارطة، وتهويدها بالكامل بطرد كلّ الفلسطينيّين، ثمّ لإخضاع العالم العربي والإسلامي لسيطرتهم.

إذا عدنا بالذاكرة – فقط – إلى مؤتمر مدريد القائم على أساس إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلّة عام 1967م، أو إلى اتّفاق أوسلو، ورغم تخلّي الأنظمة العربية عن أغلب أرض فلسطين، لرأينا كيف تنكّرت الحكومة الصهيونية المغتصِبة الجديدة لكل ما طُرح، بما يؤكّد الحقيقة القرآنيّة: (كلّما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)[33]، كحقيقة مطّردة مع حركتهم السياسية في مدى الزمن؛ لأنّ المسألة بنيويّة في ثقافتهم، وهذا ما ربّما يؤكّده ذيل الآية المتقدّمة، حيث تُشير بوضوح إلى أنّ أساس نقضهم لتلك العهود أنّهم لا يؤمنون أصلاً بالقواعد التي تقوم عليها؛ فهم لا يؤمنون بحقوقٍ للإنسان، غيرهم؛ بل لا يؤمنون بإنسانٍ غيرهم، ولا بشرعة دوليّة، أو بأخلاق إنسانيّة؛ لأنّ من عداهم دونَهم في الإنسانيّة، أو أدوات أو طاقات سخّرها لهم الله بما يزعمون أنّهم شعبه المختار. لذلك ليسوا ملزمين ـ في منهجهم هذا ـ بأيّ عهد؛ لأنّه يبقى حبراً على ورق، ولا يساوي في قيمته حتّى «الورق الذي يُكتب عليه» ـ كما عبّر رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون عن المبادرة العربيّة للسلام.

5- الاستغلال الاقتصادي

تعرّض القرآن الكريم لطريقة اليهود في التعاطي في الشأن الاقتصادي مع الناس في آيةٍ قرآنيّة اختصرت أمرين:

أ- أخذ الربا.

ب – أكل أموال الناس بالباطل.

قال تعالى: (فبظلمٍ من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّباتٍ أحلّت لهم وبصدّهم عن سبيل الله كثيراً، وأخذِهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلِهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليما)[34]، وعلى الرغم من هذا التحريم أخذوا به في تعاملهم الاقتصادي مع الناس، وهو أمرٌ يعكس حالة الجشع التي تعبّر عن نفسها في استغلال حاجات الناس، كما تعكس البُعد عن اصطناع المعروف بين الناس؛ فلا مجال لدى المرابين للعاطفة الإنسانيّة أن تتحرّك لتُعطي لوجه الله.

وممّا يُنقل عن بعض ربّانيّيهم قوله: “عندما يحتاج النصراني إلى درهم فعلى اليهودي أن يستولي عليه من كلّ جهة، ويضيف الربا الفاحش إلى الربا الفاحش، حتّى يرهقه ويعجز عن إيفائه ما لم يتخلّ عن أملاكه، أو حتّى يضاهي المال مع فائدة أملاك النصرانيّ، وعندئذٍ يقوم اليهود على مَدينِه وبمعاونة الحاكم يستولي على أملاكه”[35]، وهذا التفريق بين اليهوديّ وغيره في جواز أخذ الربا، إنّما هو بسبب هذه النظرة الاستعلائيّة التي لا ترى في الآخر إلّا مصلحة اليهودي.

في كلّ الأحوال، لا تزال حركة اليهود اليوم في السيطرة على مقدّرات الاقتصاد في العالم، والتأثير على حركة السياسة الدولية، ولا سيّما من خلال اللوبيات في بعض الدول المؤثّرة على مواقع القرار العالمي، كالولايات المتّحدة الأمريكيّة، حركة فاعلة، أمّنت على مدى سنوات طوال تغطية لكلّ المشروع اليهودي العنصري الاحتلالي الإجرامي في فلسطين المحتلّة؛ بل فرضت على الساحة الدوليّة اعتماد ازدواجيّة المعايير في التعاطي مع حقوق الإنسان وقضاياه، حتّى رأينا أنّ هؤلاء استطاعوا أن يضغطوا على العالم الذي يسمّي نفسه متحضّراً لأن يضع أيّ طرفٍ أو دولةٍ في دائرة العنصريّة إذا وضعت في موقع التساؤل أو الاتّهام ما يقوم به الصهاينة المغتصبون يوميّاً في فلسطين، بينما تُنحر كلّ حقوق الإنسان على عند حدود دولتهم المُنشأة غصباً في فلسطين. وليس بعيداً عن ذاكرتنا كيف تتعاطى المنظّمات الدوليّة مع أيّ مشروعٍ لإدانة اليهود على ما يرتكبونه من فظائع في عالمنا العربي والإسلامي.

6- الشخصيّة الجبانة

يقول الله تعالى ـ مخاطباً اليهود ـ: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين، ولن يتمنّوه أبداً بما قدّمت أيديهم والله عليم بالظالمين، ولتجدنّهم أحرص الناس على حياةٍ ومن الذين أشركوا يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر والله بصير بما يعملون)[36]. ويقول في سورة الجمعة: (قُل يا أيّها الذين هادوا إن زعمتم أنّكم أولياء لله من دون الناس فتمنّوا الموت  إن كنتم صادقين، ولا يتمنّونه أبداً بما قدّمت أيديهم والله عليم بالظالمين)[37].

هذه الآيات تؤكّد على نقطةٍ، وهي أنّ شعور اليهود المستعلي تجاه أنفسهم دفعهم إلى الشعور بالتميّز في الجزاء الإلهيّ الأخرويّ، حيث الآخرة في نعيمها لهم وحدهم دون سائر الناس؛ إلا أنّها تُشير إلى واقعٍ آخر معاكس لما يعيشونه في أعماق نفوسهم، وهي أنّ هؤلاء يرتعدون أمام الموت؛ ولذلك كان التركيز القرآنيّ على هذا التناقض أو المفارقة ليفضح حقيقتهم ويدحض حجّتهم ويسقط ما يدّعونه من تميّز لهم عند الله.

وهذا الأمر يؤكّد على أنّ شعورهم بالعلوّ على الناس، والادّعاء بتميّزهم عند الله، لم ينطلق من أساسٍ واقعيّ في أنفسهم، وإنّما قد يكون نوعاً من التعويض عن حالة من النقص، كما أشار إلى ذلك الإمام جعفر الصادق (ع): «ما من أحد يتيه إلا من ذلّة يجدها في نفسه»[38]، أو من خلال سذاجةٍ وسطحيّة فكريّة حسبت الإمداد الإلهيّ في النعم والإمهال نوعاً من التفوّق النوعي على سائر البشر، في حين أنّ ذلك كان امتحانًا واختبارًا لإظهار حقيقة ذواتهم التي أظهروها بصورة جذّابة بهدف خداع الناس.

ويبدو أنّ هذا النحو من الرهبة من الموت أكثر ما عبّر عن نفسه خلال خوضهم للصراعات والحروب، فقال تعالى: (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرىً محصّنة أو من وراء جدر)[39]؛ فإنّ الرهبة التي كانوا يعيشونها من المؤمنين أحد أهمّ عواملها ضعف الإيمان بالآخرة، بنحوٍ جعلهم يعتبرون حياتهم الدنيا هي نهاية المطاف، ولذلك كانوا أحرص عليها في حالات التحدّي التي تتّصل بمواجهة الموت، فاحتموا بالوسائل المادّية التي اعتقدوا أنّها مانعتهم منه، كما قال تعالى في آيةٍ أخرى: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله)[40]..

7- التزييف والتضليل

إحدى أكثر الصور القرآنيّة عن اليهود لفتاً للنظر، تلك التي تجعلهم في موقع المتلاعب بالدِّين الذي أُنزل إليهم، والكتاب الذي جاءهم به نبيّ الله موسى (ع)، وهو التوراة، فقال تعالى: (من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه)[41]، وفي آيةٍ آخرى: (فبما نقضِهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسيةً يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّاً ممّا ذُكّروا به)[42]، ويقول تعالى: (ومن الذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقومٍ آخرين لم يأتوك يحرّفون الكلم من بعدِ مواضعه)[43].

وقد كان هذا الأسلوب ـ في ما تشير إليه الآيات ـ جزءاً من حركتهم في مواجهة النبيّ محمّد (ص) والمسلمين معه، بهدف إيجاد عنصر التشكيك في نفوس المسلمين، والحفاظ على ولاء عامّة اليهود لهم، وفي هذا السياق كانوا يتلاعبون ببعض الكلمات لإلحاق الأذى بالرّسول، كالذي أشار إليه قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا)[44]، حيثُ قيل إنّ المسلمين كانوا يقولون للنبيّ: يا رسول الله راعنا، بمعنى استمع منّا، فكان اليهود يستعملون هذه اللفظة ويقصدون بها الرعونة، ليوقعوا بالنبيّ وينقصوا من قدره، من خلال ما يثيره ذلك من السخرية.

وهذا التعامل تجاه هذه القضيّة التفصيليّة لا يعكس فعلاً جامداً، بل يعكس ذهنيّةً تستسيغ هذا اللون من الاستخدام للغة، لصرفها عن معانيها الحقيقيّة التي تلتقي بالقيمة، ليُجعل منها وسيلةً للتوصّل إلى غايات دنيئة وأهداف خبيثة، كما يُشير إلى عدم المسؤوليّة تجاه القضايا الجادّة في الحياة، فضلاً عن القضايا المتّصلة بالمصير الحاسم، في قضيّة الهداية والضلال، والدنيا والآخرة.

ولذلك نجد القرآن الكريم يستنكر على المسلمين طمعهم في إسلام بعض هؤلاء لهم، وهم الذين يحرّفون كتبهم، ويصرفون مضامين دينهم، وذلك هو قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثمّ يحرّفونه من بعدِ ما عقلوه وهم يعلمون)[45]. إنّ من تنعدم لديه المسؤوليّة تجاه أموره، كيفَ يُنتظر منه أن يتصرّف بمسؤوليّة تجاه قضايا الآخرين.

ونجد هذا الأسلوب هو نفسه يتكرّر في واقعنا المعاصر، في مقاربتهم للقضايا الكُبرى، حيث يحرصون دومًا على انتهاك كلّ ما يمتّ إلى القواعد الإنسانيّة الأخلاقية بصلة، حتّى استحلّوا الدماء وسفكوها، وركبوا مراكب الدجل والتلفيق، وإعلامهم كلّه اليوم يدور حول اللعب على الكلمات وإثارة الإشاعات والفتن، وهذا ما شهدناه لسنين طوالٍ في القرارات الدوليّة، وهم من لم يلتزموا بها أصلاً، حيث يقومون بالتلاعب بالألفاظ، وبتحريف الكلمات للتنصّل من أيّ التزام، في مراهنةٍ على عامل الزمن، وذلك لضرب القضيّة من جذورها، وتحقيق الغايات في نهاياتها. ولعلّ قصّة البقرة وكثرة اللعب على التفاصيل والدوران حولها يمكن أن يشير إلى هذا الأسلوب المستند إلى التملّص من كلّ التزام، والانقياد إلى كلّ تكليف.

إن ّمنهجاً يتحرّك هنا يتطلّب منّا ـ نحن العرب ـ الذين أدمنّا التأثّر بالكلمات، حتّى تقيمنا كلمةٌ وتقعدنا أخرى، أن لا نجعل الكلمات أساساً في مقاربتنا لقضايانا في الواقع الدولي، بل المواقف والأفعال؛ لأنّ هؤلاء اليهود يجيدون اللعب على الكلمات في مدى الزمن، في الدِّين؛ فكيف في السياسة؟!

المحور الثاني: فلسطين في الدلالات المباشرة

تعرّض القرآن الكريم لأمور مباشرة مع جغرافية فلسطين وتاريخها ووجهها العبادي والديني في أكثر من مورد، والذي يهمّنا منها هنا ما يرتبط بالدلالات المباشرة حول القضيّة، وذلك ما نطرحه في عنوانين نرى أنّهما عملا معًا في تكريس المسجد الأقصى كرمزيّة لحركة تحرّر كبرى، ذات بُعد وحافز دينيّ:

  • الربط الوجداني مع بيت المقدس
    1. في بداية سورة الإسراء نجد قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنّه هو السميع البصير)[46]، ممّا يشير إلى اهتمامٍ قرآنيّ بهذا المسجد، ولولا رمزيّته لما كان هناك داعٍ للإسراء إليه كما هو واضحٌ من السياق. طبعًا هنا نجد أنّ عنوان المسجديّة في كلا المسجديْن، الحرام والأقصى، لهما نحو ارتباط. طبعًا يلفتنا هنا قوله تعالى (الذي باركنا حوله) والذي يشير إلى مركزيّة المسجد ومحوريّته لدائرة جغرافيّة مقدّسة، والتي لا نتوقّعها مدينةً فحسب، بل هي أوسع من ذلك باعتبار أنّ ذلك هو المناسب لحديث الله تعالى عنها، وقد تشمل كثيرًا من جغرافيّة المنطقة.
    2. قد نجد في الآيات التي تناولت قضيّة تحويل القبلة، أنّ الصلاة إلى بيت المقدس فترة من الزمان تخلقُ شعورًا بقداسة هذا الموقع وحافزًا للارتباط به ليكون جزءًا من التوجّه العبادي الأساس، وبالتالي يدخل في الهويّة الإيمانية ليكون الاعتداء عليه اعتداءً عليها وإساءة لها.
    3. استعراض تاريخ الأنبياء الذين عاشوا في فلسطين، يوجد رابطًا روحيًا وثقافيًا رمزيًّا مع تلك الأرض بكلّ مندرجاته. يكفينا في ذلك ما تستعرضه سورة مريم وغيرها من خدمة السيدة مريم (ع) في المسجد وتعبّدها فيه.
  • معركتان حول بيت المقدس

المعركة الأولى، ذكرها تعالى بقوله: (فإذا جاء وعدُ إولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولًا)[47].

أمّا المعركة الثانية، فتذكرها أو تشير إليها آيتان:

  1. فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليتبّروا ما علوا تتبيرًا)[48].
  2. (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفًا)[49]. وهذا التجمّع الذي تُظهره الآية عبّر الله تعالى عن مجيئه في مرحلة ما بين الأولى و”الآخرة” بقوله تعالى: (ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها)[50].

وتحت هذا العنوان سوف أتوقّف عند هذه الملاحظة بعيدًا عن أقوال المفسّرين في محاولة تفسير المراد بالأولى والآخرة، وبمنأى عمّا يمكن أن نراجع فيه ما يختزنه اليهود أنفسهم عن دمار الهيكل بما يؤكّد المعنى الذي سنورده آتيًا، فإنّنا يمكن أن نورد عدّة ملاحظات:

  1. استخدام المضارع قد يوحي باستمرار الوعد، وكأنّ المسألة مرتبطة بالسنن التاريخية الثابتة في مسألة حركة الصراع بين العدل والظلم.
  2. إمكان توجيه دلالة لفظ (الآخرة) على كون القضيّة مرتبطة باقتراب نهاية العالم والتي لا بداية بعدها.
  3. الواقع الخارجي الدالُّ على أقصى الحدود التي يصل إليها اليهود في تجربة الاحتلال لفلسطين، ممّا لم يكن لهم خلال فترة الشتات.
  4. دلالة كلمة (لفيفًا) قد تشير إلى كيانٍ مجتمعي، وليس مجرّد أفراد أو جماعات منتمية إلى اليهودية يجعها جانب اعتباري، حيث إنّ قوله تعالى: (جئنا بكم لفيفًا) قد يُشير إلى حركة في اتجاه مركزٍ ما، بما ينطبق على حركة تموضع واضحة التشخّص اليوم في أرض فلسطين. طبعًا لا يفوتنا الإشارة إلى أنّ قوله تعالى: (جئنا بكم) إشارة إلى البُعد التكويني، وليس الشرعي الذي يضفي شرعية على الكيان، وهذا واضح من السياق لمن له أدنى تأمّل.

الخلاصة:

إنّ كلّ ذلك يرسم لنا ملامح ثقافة تشرّبها اليهود في تاريخهم، وهم حافظوا عليها جيلًا بعد جيلٍ، بل ربّما تكون تضخّمت بفعل حالة الانغلاق والانعزال التي عاشوها في مدى الزمن، والخطير فيها أنّها تسلّحت بالكثير من المؤسّسات والتأثير على مواقع القرار في العالَم، وأصبح لها كيانٌ سياسي مرعيّ من النظام العالمي الرأسمالي، بالطريقة التي باتت تؤثّر سلبًا على أيّ عملية نهوض في عالمنا العربي والإسلامي.

ويمكن لنا أن نشير إلى بعض الخلاصات التي نراها هامّة في ما يخصّ موضوع فلسطين، وذلك ضمن النقاط التالية:

أولًا: الاستعلاء العنصري – ذو الأصل الدّيني – على الشّعوب الأخرى يجعلهم لا يشعرون بوجود (آخر) يمكن أن يكون له حقوقٌ، ولذلك يمكن أن يقتل أو يُنهب أو ما إلى ذلك.

ثانيًا: أنّ ثقافة هؤلاء القائمة على أنّ المصالح أوّلًا، والتي جعلتهم – تاريخيًا – يقتلون الأنبياء أو يقاتلونهم أو يتآمرون عليهم أو يكذّبونهم عندما لا تسير رسالاتهم مع مصالحهم، هذه الثقافة تلغي المرجعية النصوصيّة التي يؤمنون بها، إضافة إلى تحريف الكلم عن مواضعه، كلُّ ذلك يُفقد العلاقة المفترضة مع هذه الجماعة أيّ مرجعيّة معياريّة يمكن الاستناد إليها في حلّ أي نزاع، أو إثبات أيّ حقّ، كما يحصل عادة بين الجماعات التي تتبنّى قوانين أو شرعًا معيّنة.

على أساس ما تقدّم، سيكون سهلًا علينا أن نفهم أنّ تفلّت هؤلاء من القوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان، وعدم الاحتكام إلى أيّ قانون دولي، مسألة ثقافة بنيويّة دائمة، وليست مسألة ظرفيّة أو هامشيّة.

ثالثًا: أن المواثيق والعهود والاتفاقيّات التي يمكن أن تبرمها سلطة يهوديّة معيّنة تحت ضغط ظروف ما، سيكون من ديدن السلطات المتعاقبة أن تنقضها إذا ما توافرت ظروفٌ أخرى تسمح بذلك، وهو ما تنعدم معه أيّ قاعدة للثقة في مجال العلاقات بين الدّول.

رابعًا: أنّ الاستغلال الاقتصادي المناقض لتعاليم الدّين، والسائر وفق مصالح الجماعة الآنيّة، خلق لديهم ثقافة قائمة على الابتزاز المالي، والعمل على السيطرة على الشّعوب انطلاقًا من حاجاتها، بل من فرض حاجات عليها نتيجة حركة السياسة الدولية السائرة في فلك المصالح الصهيونيّة، بحيث يتمّ حصار بلدٍ أو إفقاره لدفعه للاستدانة، وعندئذٍ ستتكفّل مؤسسات مالية عالمية يسيطر عليها اليهود أو يؤثّرون على قراراتها، أن تخنق هذه الشعوب وترهنها إلى أجيال قادمة، وهو ما يضمن التفوّق اليهودي، وخصوصًا حين تنعدم عند الشعوب المستهدفة فرصُ المواجهة بسبب غرقها في الديون الخارجيّة، ممّا يؤدّي إلى إلحاقها وجعلها على هامش سياساتها.

خامسًا: في مقابل كلّ ذلك، تنزع الشخصية اليهوديّة نحو عدم المواجهة إلّا إذا توفّرت الوسائل التي تضمن الانتصار بأقلّ كلفة بشريّة ممكنة، وهذا الأمر وإن كان طبيعيًا في الإنسان الذي لديه غريزة حبّ البقاء، ولكنّها في اليهود الذين يعيشون ادّعاء التفوّق الديني لدى الخالق تصبح قضيّة دالّة على خواء ذاتي ونفسي وضعف روحي، وهو ما يسمح لنا باعتبار هذه إحدى أهمّ نقاط الضّعف التي تلعبُ لمصلحة الذين يمتلكون إرادة مواجهة للموت، وقوّة روحيّة في الإقدام.

سادسًا: هذا الخواء والضّعف، يدفعان إلى استخدام الوسائل المتنوّعة لفرضهما على الشّعوب القويّة، ولذلك عمد اليهود سابقًا، وما يزالون يتحرّكون على خطّ استثمار الإعلام في سبيل العمل على التضليل وبثّ الفتن، بل ربما دفعت كثير من مؤسّساتهم الإعلامية والثقافية إلى إشاعة الإباحيّة والخواء والتسطيح ممّا يُضعف القدرة على المواجهة. إضافة إلى ذلك، هناك عمل دؤوب على منع اقتصاديات الشعوب من بلوغ مراحل الإنتاجية والاكتفاء الذاتي، والسياسة الدولية – المتأثرة بهم – كفيلة بحصار أي تجربة على هذا الصعيد. بل لعلّنا نفهم هنا أنّ المشكلة تجاه بعض الدّول الإسلامية ليست في امتلاكها تقنية نووية أو عسكرية، بل في امتلاكها الخبرة العلمية التي تسمح بالتطوير، وامتلاك وسائل الإنتاج، والمقدرات الضرورية لتشغيلها، وكذلك الاستقلالية في أي قرار مرتبط بها.

وانطلاقًا من كلّ ذلك يبدو أنّ المواجهة والعمل على التحرير ليست قضيّة مرتبطة فقط بأرضٍ محتلّة، بل تشكّل هذه الأرض المحتلّة نقطة الارتكاز لنهوض مشروع عالمي إنساني لتحرير العالَم من سيادة هذه الثقافة وتأثيراتها السلبية على السلام الحقيقي بني الشعوب، والقائم على الثقة المتبادلة، وسيادة القيم والقانون على حساب الألاعيب السياسيّة والتملّص المستمرّ من العهود والمواثيق وما إلى ذلك، بما يؤدّي إلى تحرير الأرض والإنسان معًا.

مع أنّ ما تقدّم من النقاط يفرض علينا العمل على عدّة مداخل:

الأوّل: تعزيز القوّة والمناعة الذاتية، والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي في شتى المجالات.

الثاني: تعزيز الوحدة الإسلامية والعربية وأي نوع من الوحدة القائمة على تفعيل المكوّنات والطاقات الموجودة في المنطقة، وذلك لتحصين الساحة وحمايتها من الفرقة والتمزيق.

الثالث: العمل على تقديم النموذج المناقض لهذا النموذج العنصري من الناحية الثقافية، وذلك عبر مخاطبة الشعوب بالدرجة الأولى. وبعبارة أخرى، يجب أن يترافق خطابٌ ثقافي قيمي مع الحركة السياسية، بحيث يبيّن للعالَم منطلقات شعوبنا وما يحكم حركتها من القيم والقواعد الإنسانية والرسالية في هذا المجال، لئلّا يختلط الأمر بفعل السياسة الإعلامية المضادّة، فيصوّر المحسن كالمسيء، والمقاوِم بالمعتدي أو “الإرهابيّ”[51]، كما يحصل في كثير من الأحيان.

الرابع: المحافظة على الارتباط الوجداني الحسّي بالمقدّسات، وفي مقدّمتها المسجد الأقصى، والعمل على تطويق المحاولات التشكيكيّة في هذه القداسة كما نشهده في أكثر من مجال.

الخامس: تأكيد تحقيق التنشئة الدينية الإسلامية على أساس تعزيز القوة الروحية المستندة إلى وعي وبصيرة بالواقع ومجرياته وتعقيداته وخلفيّاته، وذلك أهمّ عاملٍ من عوامل الانتصار على من يعيشون ثقافة الخوف من الموت والخواء الروحي الواعي.

السادس: في الوقت التي يتمّ فيه التحضير للمعركة الكبرى للتحرير، سياسيًا وثقافيًا وإعلاميًّا واقتصاديًا وما إلى ذلك، فإنّه لا ينبغي أن يتطرّق الشك وأن يُسمح بالتشكيك في كون المعركة العسكريّة والأمنية تمثّل العمود الفقري الذي تدور معه كلّ تلك الأبعاد من المعركة.

السابع: أنّ طبيعة الكيان الصهيوني القائم على التسلّح بالآلة والأدوات، والمستند إلى المواقع الدولية ومفاصل السياسة العاملية، وابتزازها لتحقيق الحماية له من أيّ خطر، والساعي دومًا إلى ضربنا من الداخل، يحتّم أن تتشكّل دولنا بطريقة لا تسمح للسياسات الدولية بالنفاذ إليها، وتحديدًا تجاه نوع وسائل القوّة التي نمتلكها، وخصوصًا القوّة العسكريّة؛ لأنّ التفريط بأيّ قوّة هو إلقاءٌ للذات في الهاوية ما دام هذا الكيان قائمًا.

الثامن: ضرورة تزخيم الأفكار والآليّات المتّصلة بتأكيد الوعد الإلهي الوارد في القرآن الكريم، حول مسألة التحرير الكبرى، وترسيخها في الوعي الشعبي والوجددان الإسلامي، وذلك كثقافة ممتدّة امتداد قضية الأمة المركزيّة حتى إنجازها.

أخيرًا: من خلال كلّ ما تقدّم، فإنّ المعركة مع المحتلّين لفلسطين من اليهود ليست معركة ناشئة من حقدٍ ديني، وإنّما يمكن اعتبارها عمليّة إصلاح اللواقع العالمي الذي سيطر عليه اليهود، في شكلٍ مباشر وغير مباشر، على الكثير من مقدّراته، بما قلبَ المعايير والموازين العالميّة على حساب العدالة بين الدول والشعوب.

ونشير في نهاية المطاف إلى أنّ هذا البحث لا يدّعي الشموليّة في تتبّع الموارد، وإنما فرض حجمه ضرورة الاختصار، وإلّا فالموضوع في حدّ ذاته أوسع من ذلك، نأمل أن يكون محلًّا لتوفيق الله للقيام به في المستقبل بإذن الله، والله الموفّق لكل خير.

جعفر محمد حسين فضل الله

بيروت 13 شهر رمضان 1443هـ، الموافق لـ 14-4-2022م

ملاحظة: البحثّ ورقة مقدّمة إلى مؤتمر (فلسطين قضيّة الأمّة المركزيّة) المنعقد في العاصمة اليمنية صنعاء، في الجلسة الأولى، الثلاثاء 25 رمضان 1443هـ، الموافق لـ 26 نيسان 2022م.

الهوامش:

—————————————————————————————————————————-

[1] سورة الروم، الآية 3.

[2] سورة الإسراء، الآية

[3] وردت هذه الآيات في السور التالية: البقرة 113 و120 – المائدة 18 و51 و64 و82 – التوبة 30.

[4] سورة المائدة: ٦٤.

[5] سورة المائدة: 82.

[6] سورة البقرة: 62.

[7] سورة النساء: 46.

[8] سورة المائدة: 41.

[9] سورة الجمعة: 6.

[10] هناك آية واحدة ورد فيها الإسم في إشارة إلى شخص يعقوب، وذلك قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا)/ مريم: 58. ولكن بالتأمّل فإنّه وارد أيضًا في الحديث عن الذرية أو بني إسرائيل.

[11] سورة البقرة: ١٣٢.

[12] سورة المائدة: 66.

[13]  سورة آل عمران: 113.

[14] سورة البقرة: 47.

[15] سورة البقرة: 253.

[16] سورة المائدة: 18.

[17] سورة آل عمران: 75.

[18] سورة البقرة: 111.

[19] سورة آل عمران: 24.

[20] سورة المائدة: 20

[21] سورة النساء: 122.

[22] سورة البقرة: 87.

[23] سورة البقرة: ٨٩.

[24] سورة النساء: 154.

[25] سورة الأعراف: 163.

[26] سورة النساء: 161.

[27] سورة البقرة، 75.

[28] سورة البقرة: 83.

[29] سورة البقرة: 84.

[30] سورة البقرة: 85.

[31] سورة آل عمران: 187.

[32] سورة البقرة: 64-65.

[33] سورة البقرة: 100.

[34] سورة النساء: 160-161، ومن الواضح من هاتين الآيتين أنّ الربا كان محرّماً على اليهود، وليس تشريعًا حادثًا في الإسلام، أو أنّه مختصٌّ بالشريعة الإسلامية.

[35] الربا وأثره على المجتمع الإنساني، د. عمر الأشقر، ص31.

[36] سورة البقرة: 94-95.

[37] سورة الجمعة: 6-7.

[38] الكليني، الكافي، ج2، ص312، ح17.

[39] سورة الحشر: 14.

[40] سورة الحشر: 2.

[41] سورة النساء: 46.

[42] سورة المائدة: 13.

[43] سورة المائدة: 41.

[44] سورة البقرة: 104.

[45] سورة البقرة: 75.

[46] سورة الإسراء: 1.

[47] سورة الإسراء: 5.

[48] سورة الإسراء: 7.

[49] سورة الإسراء: 104.

[50] سورة الإسراء: 6.

[51] وضعناها بين قوسين لأنّها مفردة لا تعريف رسميًا لها في الإعلام والسياسة العالمية، وإبقاؤها بلا تعريف يخدم هذه السياسات في مواجهة حركات التحرر وتشويه صورتها عبر خلطها بغيرها، وبالتالي إبعاد الناس عنها.