السيد د. جعفر فضل الله
تنعقد سنويّاً مؤتمرات عدَّة للتَّقريب بين المذاهب الإسلاميَّة، في أكثر من بلدٍ عربيّ وإسلاميّ وغربيّ، وثمّة مراكز ومؤسَّسات أخذت من التّقارب المذهبيّ والحوار الإسلاميّ عناوين لها. ولا شكَّ في أنَّ ذلك العنوان يكتسب أهمّية بالغة على ضوء التحدّيات التي تواجه المسلمين اليوم، فكريّاً وعمليّاً، وعلى مستوى النّموذج الإسلامي في السياسة وفي حركة الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي.
وينظر كثيرون إلى أنَّ الحاجة الشيعيّة إلى التقريب، هي أكثرُ من الحاجة السنّيّة إليه؛ بحكم النسبة العدديّة بينهما، إضافةً إلى الإشكاليّات التي رافقت حركة التشيُّع تاريخيّاً، والّتي كانت تعتبرهم فرقةً خارجةً من الإجماع الإسلاميّ، وبعضُ الفرق الإسلاميَّة تكفِّرهم تماماً.
ولكنَّنا نعتقد أنَّ الحاجة إلى التقريب هي حاجة إسلاميّة عامّة، ليس فقط لبروز تحدّيات أمام الفكر الإسلامي بعامّة، بل لأنّ مسألة التقريب نفسها، هي مسألة منهج إسلاميّ أكثر ممّا هي حاجة مصلحيّة ظرفيّة لهذا الطّرف أو ذاك. وما نحاول مقاربته في هذه المقالة، هو الشّروط الموضوعيّة الضروريّة لنجاح تجارب التّقريب، سواء كانت مؤتمراتٍ أو مؤسّساتٍ. وهنا ملاحظات عدَّة:
أوّلاً: مشكلة الضَّوء الّذي من شأنه أن يُفسد أيَّ نشاطٍ تقريبيّ، أو يحدّ من نتائجه المتوقّعة، لأنَّ التَّظهير الإعلاميّ للنّشاط التقريبيّ، عندما يوضع كأولويّة، سيؤثّر في نوعيّة المنتدين أو المؤتمرين، وكذلك في مستوى المقاربة من حيث العمق أو السّطحيَّة، أو من حيث اعتمادها جانب الخطابة مقابل البحث والدّراسة المعمّقة. ليس ذلك فقط! بل سيكون للظروف الخارجيّة، سياسيّةً كانت أو غيرها، تأثيرات سلبيّة كذلك. لنأخذ مثلاً الظّروف الّتي نمرُّ فيها، وهي تشهد حرباً على الجماعات المتطرّفة التي تعيثُ في الأرض فساداً، وقد أفرزت اصطفافاً في العالم الإسلاميّ والعربيّ تجاه قضيّة التّقريب وقضايا أخرى ذات صلة، فهل نتوقّع أنَّ المؤتمر لن يكون منبراً يوظَّف لتوجيه رسائل سياسيّة، تمثّل استمراراً لما هو قائمٌ من حركة السياسات والخطابات والمواقف؟ ألا نتوقَّعُ أن يكون المؤتمر مناسبةً للمجاملات الخطابيّة، وأحياناً النّفاق الإعلاميّ والسّياسيّ، لدى جماعاتٍ نعرفُ سلفاً أنّها لا تستطيع الذهاب بعيداً في مسألة التقريب في مجتمعاتها، لأنّها ستفقد الجمهور والساحة بسرعةٍ قياسيّة؟
ثمّ ألن يحكم الاصطفاف السياسيّ نوعيّة المدعوّين أو المؤتمِرين؟ لأنّ من الطبيعي أنّ الأطراف المناوئة لهذا البلد أو ذاك المحور، لن تجد نفسها مدعوّةً أو قادرةً على الحضور لو دُعيت. وبذلك، يفقد المؤتمر التنوّع الضّروريّ لأيّ حراكٍ مختلفٍ عمّا هو سائدٌ ومسؤولٌ عن توليد الأزمات.
لماذا لا نعقد مؤتمرات حول شروط التنمية في مجتمعاتنا الإسلاميَّة؟
إنّ السّرّيّة ـ بالمعنى الإيجابيّ ـ والمناقشة في الدّوائر المغلقة، ذات أثر فعّال في الحدّ من تأثير الظروف الضّاغطة المحيطة بالمؤتمرين، لأنَّ ثمّة من لا يمتلك الشّجاعة الكافية لمواجهة قوى الأمر الواقع، أو لا يجد المصلحة في ذلك، وهؤلاء سيجدون أنفسهم محرجين أمام عدسات الكاميرات، أو أمام التّسريبات الإعلاميّة، وهذا ما يدفع الإنسان إلى البحث عن ألفاظٍ عامَّة، لا تقارب المسألة بالجدّيّة والعمق الكافيين.
ولعلّ هذه النّقطة باتت من لوازم المؤتمرات، حيث تصاغ البيانات الاختتاميّة بطريقةٍ لا تحرج الجميع، وأحياناً يقفُ صوغُ فقرة ما على حرفٍ زائدٍ أو ناقصٍ، الأمر الَّذي يجعلنا أمام إضافة هامشيّة على المستوى الفكريّ في المعالجة.
ثانياً: إنَّ المؤتمرات باتت غالباً مناسبةً للعلاقات العامَّة، وهذه إحدى نتائجها بطبيعة الحال، وليست وظيفتها، لأنَّ الوظيفة الأساسيَّة للمؤتمر، أن يشكّل إضافةً نوعيّةً في تدارس ظاهرة، ووضع حلول لمشكلات، وهذا إنّما يتمُّ من خلال النّخب الفكريّة، وليس السياسيّين بالضّرورة (بعض السياسيّين هم مفكّرون بلا شكّ). وعندما نتحدَّث عن نخب ثقافيّة، فمن اللازم هنا أن نتحدَّث عن ضرورة التنوّع في الاختصاصات لدى هذه النّخبة. فمن غير السّديد أن نعتبر ـ مثلاً ـ أنَّ قضايا التّقريب هي ضمن القضايا المذهبيّة، وبالتّالي يمثّل رجال الدين ـ بالمعنى التخصُّصي ـ غالبيّة المشاركين فيها. أمّا علماء النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأمن، وغيرهم من المختصّين، فحضور هؤلاء أشبه ما يكون بالدّيكور الشّكلي، وليس بالّذي يقتضيه موضوع التقريب نفسه.
كيفَ يُمكن لنا أن نتوقّع مقاربات جديّة ومعمّقة لمسألة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، في ظلّ غياب التخصّصات المطلوبة لفهم المشاكل والتحدّيات والظواهر الّتي تفرزها حركة الاختلاف المذهبيّ، وهي مشاكل وتحدّياتٌ وظواهر يتشابك فيها النّفسيّ بالاجتماعيّ بالسّياسيّ بالاقتصاديّ بالأمنيّ، بغير ذلك من العوامل؟!
ولعلّه لأجل ذلك، نجد أنّه قد أصبح لدينا كتبٌ كثيرةٌ في التقريب المذهبي، تنحو منحى علم الكلام والجدل العقديّ والشرعيّ، من دون أن نضيف شيئاً كبيراً إلى النّمط الّذي ساد تاريخيّاً، وطبع كلّ النتاج الفكريّ المذهبيّ على مدى التّاريخ الإسلاميّ، والّذي غلب عليه منطق تسجيل النّقاط، والحجاج، ومحاولة إثبات الانتماء إلى الإسلام أو الخروج منه، وما إلى ذلك من مواضيع هي في عصرنا ممّا يزيد المشكلة تفاقماً، وهي من إفرازات المشكلة الحقيقيّة، وليست هي المشكلة في حدّ ذاتها.
ثالثاً: إنّ المشكلة الَّتي أشرنا إليها، من تغليب النّتاج العقديّ والكلاميّ والحجاجيّ، لا تنشأ فقط من طبيعة تخصّصات الّذين يُدعَون عادةً إلى مؤتمرات التّقريب وأنشطته، وإنّما تنشأ أيضاً من طبيعة النّظرة إلى موضع النزاع العمليّ في مسألة التقريب، والحاجة إليها بين المذاهب الإسلاميّة.
إنَّ نظرة تأمُّل في موضع النّزاع الَّذي ينبغي أن يكون محور أيّ نشاط أو مؤتمر أو لقاء، لا بدَّ من أن تتّجه بنا إلى غير ما هو سائدٌ من ذلك، لأنَّ الأمور العقديّة نوعان: منها ما هو محسومٌ بين الطرفين أو الأطراف، كمسألة مرجعيّة القرآن الكريم الفكريّة، ومنها ما يمثّل البحث فيه إعاقة لأيّ نتائج عمليّة، كما في قضايا إثبات الخلافة أو الإمامة. والمشكلة التي نجدها غالباً، هي أنَّ هذه المسائل وأمثالها، هي الحاضرة دوماً في أيّ نشاط مذهبي، وتنعكس على لهجة الخطابات وصوغها، حيث كثيراً ما نجد مقدّمات لا داعي لها، سوى التبرير وإبراز حسن النيات وما إلى ذلك!
في كلّ الأحوال، نعتقد أنّ ما ينبغي تغليب المناقشة فيه، هو البُعد الأخلاقي والقيمي العملي، وهذا الّذي يبدو أثره في الميدان وفي أرض الواقع. والمذاهب الإسلاميّة، بل الأديان كلّها، متّفقة عليها في أصولها وفروعها، فلا أحد يناقش في ضرورة الصّدق والأمانة والإخلاص في حركة القيادات والسّياسات، فماذا يضيرنا أن يكون قدوة أحدنا في ذلك عليّاً أو عمر أو غيرهما؟! اِعتقد ما شئت! نستطيع أن نتحاور حول تجلّيات ما تعتقد أنّه الصَّواب، بدلاً من أن نقضي العمر في حوارٍ حول صوابيّة ما أعتقد، وصوابيّة ما تعتقد، والواقع من حولنا يذهب بكلّ الأرض التي نقف عليها.
ليَكُنْ ما أعتقده أنا في عدل عليٍّ في الحكم، وما تعتقده أنت في عدل عمر في الحكم، هو الفيصل بيننا للحكم على كثيرٍ من نماذج الحكّام والحكومات، سواء كانت شيعيّة أو سنّيّة، والَّتي تصادر سياستنا واقتصادنا وحاضرنا ومستبقلنا. الاعتقاد هنا له أثرٌ في البناء التّحتيّ للقيمة، وسواء كان اعتقادك أو اعتقادي مطابقاً للواقع أو مخالفاً، فما دام الهدف من الاعتقاد هو الوصول إلى القيمة، فالحوار سيكون الوسيلة المساعدة للوصول إلى نتائج عمليّة مشتركة، ترصد القيمة في حركة مسؤوليّتنا في واقعنا المعاصر.
إنّ كفاءة الشّيعيّ وأمانته في دائرة العمل، وكفاءة السنيّ وأمانته كذلك، هما اللّذان يحقّقان التقارب العمليّ، والذي يعبّر فيه كلٌّ منهما عن الانتماء القيميّ إلى التشيّع أو التسنُّن، وإلّا فما نفعُ شيعيّة لا تنعكسُ تجسيداً للمبادئ، وما نفعُ سنيَّةٍ لا تنعكس كذلك!
من هنا، نظنّ أنّ إحدى مشاكل المؤتمرات واللّقاءات والنّدوات، أنّها مازالت تغلّب العقدي على العملي، ونجد أنفسنا مشدودين إلى جعل الآخر مثلنا، لنشترك معه في العملي. هذا لا يجعلُ منه “آخر”، وإنّما سيكون “أنا” مماثلاً، أو سيكون ضمن “نحن” الجماعة المذهبيّة، وهذا يعني أنّ الحوار يتحوّل من حوارٍ مذهبيّ، إلى حوار المذهب الواحد.
ولنا أن نتساءل هنا: لماذا لا نعقد مؤتمرات حول شروط التنمية في مجتمعاتنا الإسلاميّة، والتي تعتبر شرطاً ضروريّاً لتغيير البيئات المنتجة للتطرّف؟ ألا نرى من المناسب ـ مثلاً ـ بحث الآليّات التي يمكن من خلالها التحقّق من سلامة القيادة السياسيّة، لتشكّل ثقافة الشّعب الّذي يدلي بصوته لينتخب هذا أو ليقبل بذاك؟ ما هي آليّات التّغيير في المجتمع الإسلامي؛ هل هو العنف المسلّح أو التغيير السلميّ؟ وما هي شروط كلّ منهما في ضوء الكتاب والسنّة؟ لماذا لا نفكِّر في دارسات معمَّقة للمناهج التعليميّة، وتأثيرها في بناء ذهنيّة المسلم في نظرته إلى الآخر المذهبي، والآخر الدّيني؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الّتي تمثّل موضوعاتٍ ملحّة، ونتائجها تنقلنا مباشرةً إلى تغيير الواقع، عبر فهمه أوّلاً، والبحث في شروط تغييره ثانياً، وبالإمكان أن تقدّم للقيادات السياسيّة الكثير من الأفكار العمليّة التي تُشكّل تقريباً عمليّاً، ولينتظر الجدال العقيدي أن ننتهي من كلّ ذلك؛ فحينئذٍ، لن نواجه مشكلة في أيّ اختلاف!
رابعاً: إنَّ لدينا مشكلة أو عقبة دائمة في نتاج أيّ جهد تقريبيّ، وهي الأطر الوسطى، لأنّها صلة الوصل، أو القناة الضّرورية لتحويل أيِّ فكرة إلى واقع لدى الجماهير والأطر الشعبيّة. وهذه القناة هي خطباء المنابر وأئمّة المساجد والدّعاة وغيرهم؛ لأنّ هؤلاء قد يساهمون في موقفين خطيرين على السّاحة:
1ـ قد يحرّفون ما يصدر عن الأطر العليا والمرجعيّات الدّينية بالخصوص، تجاه قضايا تقريبيّة حسَّاسة، وهذا ما يحصل تجاه بعض الفتاوى الصّادرة عن المرجعيّات الدّينيّة، والّتي تحرّم سبّ الصّحابة، وبعض أمّهات المؤمنين، أو تكفير المسلم، وما إلى ذلك.
2ـ قد يشكّلون قوّة ضغطٍ على الأطر العليا، لكونهم مؤثّرين في عاطفة الجماهير، ولذلك، يجيّشون مواقفهم لصالح تحجيم دور أيِّ فتوى أو رأي لا يصبّ في مصلحة الأطر الوسطى الّتي قد تكون منتفعةً من سيادة بعض الأفكار التي تزيد الحالة العاطفيّة أو الانفعاليّة للجماهير.
ولذلك، قد نحتاج إلى جهدٍ خاصٍّ يهدف إلى وضع آليّاتٍ لتحويل الأفكار الّتي تتبنّاها الأطر العليا، إلى واقع تربويّ وتعليميّ ينتقل إلى الأطر الوسطى، ليكون الخطاب الدّيني أكثر انضباطاً، قياساً بالأهداف أو التوجّهات الجديدة. ومن الواضح أنَّ هذا الجهد ليس سهل المنال، ويحتاج إلى سلطةٍ تفرضه في آليّاتها بالحكمة والنفَس الطويل.
خامساً: من المهمّ لمؤتمرات التقريب وغيرها من الجهود المماثلة، أن تأخذ بعين الاعتبار فئةً مهمّة من الأمّة، وهي الشباب، الّذين قاموا بثوراتٍ، وحرّكوا الشارع تجاه قضايا كُبرى، وهم يشكّلون الشريحة العدديّة الكُبرى في أيّ مشروعٍ وحدويّ أو مشروعٍ فتنويّ على حدٍّ سواء، الأمر الّذي يفرض الاستماع إليهم، والاقتراب من ذهنيّتهم ومن الطّريقة التي يتناولون فيها الأمور، وعدم النظر إليهم على أنّهم فئة انفعاليّة أو سطحيّة في مقاربتها للأمور، وعلى العكس من ذلك، فإذا لم تكن عيّنة ممثَّلة ـ على الأقلّ ـ من هذه الفئة حاضرةً في مثل هذه المؤتمرات أو اللّقاءات أو نحوها، فسوف نرى أنَّ مقرَّرات هذه المؤتمرات أو توصياتها قد لا تجد لها مكاناً على أرض الواقع، لا لأنَّ كثيراً منها عامٌّ أو صيغ بطريقة لا تحرج أحداً فحسب، بل لأنّها قاربت قضايا ليست هي الّتي تحظى باهتمام تلك الفئة الشابّة، فضلاً عن أن تكون قد نظرت إلى تلك الفئة من علٍ.
أخيراً، لا بدَّ من أن نُشير إلى أنّ كلّ جهد تقريبيّ يُبذَل، ولو على مستوى الشّكل، هو أمرٌ محمودٌ، لأنَّ المطلوب هو الثّبات على الفكرة في زمن سيادة التكفير وتحجّر التفكير، ولكنّ ذلك غير كافٍ، إذا ما أردنا استشراف المستقبل، ووضع الخطط العمليّة التي تغيّر واقعنا إلى حالٍ أفضل، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(سورة الرّعد: 11).
جريدة الأخبار اللّبنانيّة