السيد د. جعفر فضل الله

يمكن تعريف الإنسان بأنّه كائن متثاقف، وأنّ اكتماله يتحدَّد بمدى انفتاحه ثقافيًّا؛ والنظرة القرآنية تقرّر بوضوح أنّ الإنسان لم يوجد على هذه الأرض إلا لكي يكون منفتحًا ثقافيًّا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، فالتنوّع هو الواقع، والنسبيّة هي الحقيقة التي تطبع رؤيتنا لذواتنا وللحياة وما فيها.

وعلى هذا الأساس، فقد يمكن لنا القول إنَّ واحدة من المشكلات الأساسيّة الّتي تعقّد العلاقات بين الشّعوب، هي الاستعلاء الثّقافي الناشئ من ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، واعتبار الإنسان نفسه إلهًا، وبذلك يجعل من نفسه محور الحياة الّذي ينبغي أن تدور حول فكره كلّ الأفكار، وحول ثقافته كلّ الثقافات.

ولعلّنا لأجل ذلك، نجد أنّ القرآن الكريم نفسه لم يؤكّد سوى أمرين في العلاقة بين الإسلام والمسيحيّة، في قول الله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} – هذا الأمر الأوّل، وهو وحدة المرجعيّة-، {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ} – وهذا هو الأمر الثاني، وهو النسبيّة البشريّة والتكافؤ الإنسانيّ -.

ولو دقّقنا، لوجدنا أنّ هذين الأمرين هما اللّذان يكفلان حركة التفاعل الإنسانيّ والثقافي بين الشعوب، ويسمح بالتالي لكلّ جماعة ثقافيّة بالاستفادة من الأخرى في السّعي الإنساني الدّائم نحو الكمال.

ويبدو هنا أنّنا محكومون بحوار الثّقافات لا صدامها؛ إذ لا يصلح للثّقافة إلا الانفتاح على الثّقافات الأخرى، ومحكومون بالتّواضع الثقافي الذي لا يستغرق في الأنا- الثقافيّة، تحت وطأة الاستغراق في مفردات التفوّق العرقي أو الديني أو التقني أو السياسي أو ما إلى ذلك.

إنّ الثقافة التي لا تواجه الأسئلة، حتّى الوجوديّة منها، هي ثقافة ليس فيها مؤشّرات الحياة، وإِنَّ قوّة أيّ ثقافة، تتحدَّد بمدى شجاعتها أمام مواجهة الأسئلة، وبمدى صلابتِها في مقابلة الإشكاليَّات، وبمدى قدرتِها على البقاء أمام متغيّرات الحياة.

وإنَّ متانة أيّ ثقافة وحيويّتها، هي بمستوى وجود ومتانة البِنى والنّظُم الضّامنة لحرّية الفكر والتّعبير والنقد.

أمّا الهروب الّذي تمارسه ثقافة ما من طرح الأسئلة، عبر ممارسة القمع لأيّ تفكير ناقد، فهو سلوك يحكم على تلك الثقافة بالموت؛ لأنّها تسير عكس سُنَن التاريخ.

قد يمكن لنا هنا النّظر إلى الأديان نفسها على أنّها ليست بمنأى عن ذلك؛ لأنَّ الأديان إذا كانت تقوم على نصٍّ مقدَّس، فإنّ فهم هذا النصّ هو اجتهاد بشريّ، يمكن أن تتغيّر معطياته عبر تطوّر المعارف والعلوم والاكتشافات، فتتغيّر نتائجه. ومن هنا، لم يعد بالإمكان النظر إلى الأديان نفسها على أنّها مجالات مقفلة عن عمليّات الحوار الحقيقي، والتثاقف المتفاعل.

ولعلّنا نطلّ هنا على واحدة من أخطر المشاكل التي يمرّ فيها الفكر الدّيني اليوم، وهي التطرّف، والذي لم يقتصر على التطرّف الفكري فحسب، وإنّما امتلك الأدوات الكافية للتعبير عن نفسه على أرض الواقع، وكان الأثر المباشر لذلك هو التوحّش الإنسانيّ الّذي يقتل ويذبح ويفجّر ويدمّر ثقافات عريقة، كلّ ذلك باسم الله! ولعلَّ البشريّة كلّها اليوم باتت تنظر إلى ذلك كخطر يهدِّد السِّلم العالمي.

وبمعزل عن الإجراءات الأمنيّة والسياسيّة التي تتبّعها الشّعوب للدّفاع عن نفسها ضدّ هذا الاجتياح الوحشي، فإنّنا لا نستطيع مجانبة الحقيقة، وهي أنَّ هذه الظاهرة قد تكون واحدة من الإفرازات غير المباشرة لطريقة الدول والشعوب بالتعامل مع بعضها البعض؛ حيث إنَّ بقاء الأنظمة الديكتاتورية عقودًا طويلة من الزمن، وتعزيز مبدأ الانعزال الثّقافي عبر العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة وغيرها، ترك بعض الحركات بمنأى عن أيّ عملية تفكير حواري يسمح للفكر بأن يتشارك مع الآخر في احتمالات الحقيقة، حتّى أصبح الآخر لا وجود له لديها، بل صار من الواجب قتله والقضاء عليه بأبشع الوسائل.

إنّ استفادة تلك الحركات الإجراميّة المتطرّفة من روح العصر الحديث، ومن كلّ التطوّر العلمي الذي لحق كلّ ميادين الفكر البشري، إنما هي في وسائل التّعبير عن الوحشيّة التي تتضخّم ذاتيًّا، من دون أن يترك أدنى أثر بالنّسبة إلى التغيّر في بنية إنتاجها لأفكارها وثقافتها، فوجدنا أنفسنا أمام حركات تنتمي إلى ذهنية القرون الوسطى في القرن الواحد والعشرين!

وإنّ الخطورة الكبرى على مسار البشريّة اليوم، لا تكمن فقط في العنف الموحّش الذي تمارسه تلك الحركات الإجراميّة المتطرّفة، وإنّما في السّماح لها باختزال الإسلام وفكره وثقافته بها، وذلك عبر ما يمكن أن يمارسه الإعلام والسياسة، من تكريس صورة نمطية عن الإسلام هي على شاكلة “داعش” ومثيلاتها.

لا أريد هنا الخوض في المصالح السياسيّة التي يمكن أن تدفع نحو ذلك، بقدر ما أريد الإشارة إلى نقطة أساسيّة، وهي البُعد الثقافي لهذه السياسات، وهو أنَّ من شأن هذا اللون من الاجتزاء، أن يدفع حالات الخوف لدى شعوب العالم إلى حالات قصوى، الأمر الّذي يهيّئ الأرضية لحالة من الانطواء على الذات والهوية والثقافة؛ ونحن ندرك سلفًا، أنّ أيّ حالة انطواء تمارسها ثقافة على ذاتها، ستنعكس سلبًا على تلك الثّقافة نفسها، فتقودها إلى التراجع عن كثير من منجزاتها الإنسانيّة الرائعة.

إنّ وسائل الاتّصال الحديثة قد فتحت العالم على مصراعيه، وأصبح كلُّ فردٍ في أيّ نقطة من العالم قادرًا على مخاطبة العالم كلّه. التحدّي الكبير هو كيف نؤمِّن الأرضيّة الثقافيّة التي تصوغ ذلك الفرد ليستبطن الآخر في فكره وثقافته ووجدانه، ليكون التّواصل عنصر غنًى للبشريّة عبر حوار الثقافات في بُعْده الإنساني الرّحب، بدلًا من صِدام الحضارات التي تغلّب مصالح السياسة على مقتضيات الثّقافة.

ولعلّنا نقول: إنَّ الحفاظ على الجوهر الإنساني في هذا العالم – مما نحسب أنَّ مفهوم التعارف يشير إليه – إنّما هو بجعل القيمة الحاكمة لحركة المجتمعات والشّعوب، هي التثاقف المبنيّ على الاحترام المتبادل، بحيث تختبر الذّات أفكارها عبر أفكار الآخر، وعاداتها وتقاليدها وأعرافها عبر ما يعيشه الآخر في كلّ ذلك.

  • كلمة ألقاها سماحته في ندوة في معرض الكتاب الفرنكوفونيّ ٢٣ المنعقد في بيروت، بتاريخ ٦-١١-٢٠١٦.