السيد د. جعفر فضل الله

في الثّاني عشر من شهر تمّوز (يوليو) من العام الميلاديّ 2006، صدحت وسائلُ الإعلامِ في بيروتَ بخبر أسر المقاومة الإسلاميّة اللّبنانيّة جنديّينِ إسرائيليّين في عمليّة نوعيّةٍ على الحدود الجنوبيّة اللّبنانيّة – الفلسطينيّة، فتعالت صيحاتُ التكبير في البيوتِ، وعمّت فرحةٌ عارمةٌ كلّ المتعاطفين مع خطّ مقاومةِ الغدّةِ السّرطانيّة الّتي مثّلها الكيان الصهيوني المزروع استكباريّاً في أرض فلسطين، بقوّة الحديد والنّار والحماية الدوليّة منذ وعد بلفور المشؤوم.

تهنئة (السيّد) بالإنجاز

لم تمضِ ساعةٌ حتّى تصدّرت شاشة تلفزيون المنار1 صورتان، الأولى للمرجع الإسلاميّ السيّد محمد حسين فضل الله، والثّانية لأمين عام حزب الله لسيّد حسن نصر الله، والخبر: بيان تهنئةٍ للمقاومة الإسلاميّة صادرٍ عن المكتب الإعلاميّ للسيّد فضل الله.

مضمون الخبر، أنَّ (السيّد) أجرى ـ فور سماعه نبأ الأسر ـ اتّصالاً هاتفيّاً بالسيّد نصر الله، يهنّئه فيه على العمليّة النوعيّة.

وكعادته؛ (السيّد) يعيش الاعتزاز بكلّ نصرٍ للمقاومة، ولأيّ موقعٍ إسلاميّ، على قوى الاستكبار أو على الكيان الصهيونيّ، تُحسُّ بتراقص نبضاتِ قلبِهِ على نغم النّصر، مستشرفاً الأفق البعيد نحو التّحرير الكبير الّذي ما فارقه منذ أن كان فتًى يافعاً ينظُمُ في فلسطين شعراً يستعيد أمجاد تاريخ الانتصارات الكُبرى.. وهو الهمّ الّذي حمله إلى فراشِ الساعات الأخيرة، ليسأله الممرّض: هل أنت مرتاحٌ مولانا؟ فيقول (السيّد): “لن أرتاح حتّى تسقط إسرائيل”.

لم يكن الاتّصالُ سوى تعبيرٍ أبويّ حركيّ عن الشدّ على الأيدي، والتّثبيت في غمرة التحدّيات، والتّعبير عن الاعتزاز بكلّ مسيرة الجهاد ضدّ هذا العدوّ الّذي يكاد لم يذلَّ منذ “عزّ”، حتّى أذلّته المقاومة الّتي كان يصرُّ (السيّد) على وصفها بالإسلاميَّة، في معنى الانفتاح الإسلاميّ على كلّ قضايا الإنسان…

من المؤكّد أنّ الخطوب عندما تقتحم (السّاحة)، والتحدّيات عندما تتراكم في وجه (الحالة)، فإنّ عباءة (السيّد) لا بدَّ من أن تُفرد على مساحة الصّراع، لتحمي ـ كما في كلّ مراحل الصّراع السّابقة ـ ظهر المجاهدين، بالغطاء الفكريّ والشّرعيّ، حتّى تنطلق المواجهة نحو الأمام، مطمئنّةً إلى أنّ أحداً لا يُمكن أن يتلاعبَ بالسّاحة أو يفتّت من عضد الحالة بسبب أيّ ضوضاء داخليّة، أو عبثٍ طفوليّ.

نعم، كان يُمكن لكلّ الحالات الطفوليّة في إثارة الغبار أمام الفكر التجديديّ للسيّد ـ الّذي كان يحدّق بالغيوم السّوداء الآتية من وراء الأفق ـ، كان يُمكن لها أن تشقَّ صفَّ مجتمع المقاومة.

هذه النّقطة بالذّات، شكّلت لدى الكثيرين ممّن حُجبوا بالغبار عن وضوح الرّؤية لمكانة (السيّد) في كلّ مراحل المسيرة الحركيّة والجهاديّة، كما لموقعه الفكريّ والفقهيّ المميّز، انعطافةً فيما بعدُ، عندما اختبر هؤلاء أنّه لم يكن (السيّد) من يُتقنُ فنّ اللعبة السياسية، في هوى الحسابات الشخصيّة؛ بل كان الرساليّ الذي تذوب ذاتُه، ليكون همُّهُ أن تبقى الأرض ثابتةً، والقواعد راسخةً، والموازين الشرعية حاضرةً، والأفق واسعاً، والمنطلقات أصيلة.

في مساء ذلك اليوم، وكان الأربعاءَ، قَصَفت الطائراتُ الحربيّة الإسرائيليّة جسوراً في الجنوبِ، وقُصف بعضُها في الضاحية، وكان يسود الاعتقاد أنّ المسألة لا تعدو عن أن تكون تهويلاً، وضغطاً نفسيّاً، حتّى اتّضح سريعاً أنّه لا أفق لما يحدُث، وأنّ الحركة الميدانيّة لا بدّ من أن تُحدَّد انطلاقاً من ذلك.

صامدٌ مع النّاس

ولكنَّ للسيّد بعضاً من حساباتِهِ الخاصَّة، شعوراً منه بمسؤوليّة القائد وأبويّته، فقد رفض أن يخرج من البيتِ، وهو الّذي اعتادَ أن يبقى في مكانِهِ، داعماً لقاعدة المواجهة الّتي هي الناسُ الطيّبون، الّذين “معهم المحيا ومعهم الممات”2، ففي أيّام الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، كان (السيّد) مُرابطاً في الضاحية، وفي منعطفاتٍ كثيرةٍ.

وأذكرُ هنا أنّنا كنّا في العدوان الإسرائيلي عام 1993م، وكذلك في العام 1996م، كنّا نترُك بيوتَنا و”نلوذُ” بالسيّد، مع أنّ حسابات الأمور تقتضي أن نبقى بعيدين عمّن شكّل لسنواتٍ طوالٍ أوّل المستهدفين بمحاولات الاغتيال المتنقّلة. ولكنّه الشعورُ بالأمنِ المرتبط بطمأنينة القائد، بعيداً عن كلّ حسابات المادّة، تماماً كما كان المسلمون يلوذون برسولِ الله عندما يشتدّ البأس3.

أتينا (السيّد) بعدَ ظُهرِ الخميس، في اليوم التّالي، وكان ممّن دخلَ إليه مدير مكتبِه الإعلاميّ الحاج هاني عبد الله، وقد استشهدَ أخوهُ خالد في البقاع الغربيّ بغارةٍ إسرائيليّة لئيمةٍ. قال الحاج هاني للسيّد: يبدو أنّ المعركة مفتوحةٌ، ولا بدَّ لك سيّدنا من أن تخرج إلى الشّام4. نظرَ (السيّدُ) إليه نظرةً امتزج فيها الغضبُ بالاستغراب، ولكنّه لم ينطق بكلمةٍ..

كرّر عليه الحاج هاني الطّلب، فأجابه وقد اشتدّ عبوسُهُ: حاج هاني، منذ متى وأنا أترك النّاس؟!

وبعد مفاوضاتٍ مع (السيّد)، وأخذٍ وردٍّ، وافق (السيّد) على مضضٍ، على الخروج، ولكن إلى بضعِ مئاتٍ من الأمتار، إلى منزل أحد أولاده في الشّارع نفسه الّذي يقع فيه المنزل.

وربّما أقرأ اليومَ في عينيه أنّ خروجَه كان يعني فقدان المكانِ للأمان؛ وفعلاً لم تمضِ أيّامٌ حتّى قُصفَ المنزل، وأظنُّ أنّ (السيّد) لو بقي فيه لما كان أصابه أيّ أذىً؛ لأنّنا اختبرنا صدقَ المقولةِ الّتي كان يُردِّدُها عن جدّه عليٍّ(ع): “كفى بالأجلِ حارساً”5، حتّى حفرتها الأيّام في ذاكرة الجيل كلّه، لا تزول ولا تُمحى.

وبقي (السيّد) على تماسٍ مع الحدث الميدانيّ، وبالقرب من النّاس الّذين لم يُغادروا بعدُ مساكنهم، ولم يستفيقوا من أثر الصّدمة الّتي ولّدها القصفُ الجوّيّ الإسرائيليّ الذي بدأ يبدو ممنهجاً للضّاحية الجنوبيّة لبيروت، كما للجنوب اللّبناني.

الجوّ بدأ يميلُ إلى السوادِ، والأفق يُطبقُ أبوابَهُ على الأرض، سُحباً ودخاناً، ودويّ الطائرات لم يعد يُسمعُ صوتُها إلا مُلقيةً حممها على جسرٍ أو على مبنىً أو حتّى على سيّارةٍ أو درّاجة…

الجمعة… والصلاةُ بألف!

وبزغَ فجرُ الجمُعةِ، اليوم الأحبُّ إلى قلبِ (السيّد)؛ ففيه اللّقاءُ بالأحبّةِ، وارتقاؤُهم إلى فكرِ المنبرِ وروحِ المحرابِ، اللّذين كانا يتمايلانِ على مواقفِ (السيّد) ودعائِهِ..

كانت الجمعة محطّ طمأنينة النّاس في الشّدائد، وكان منبرُ المسجدِ في كلّ سنواتِ بلوغِ الحالة الإسلاميّة أشدّها، تُضبطُ عليه ساعاتُ الشّرق والغرب، تلمّساً للموقف الّذي بدأ يغيّر في المعادلات، على وقع الفكر الّذي أنزل القرآن إلى ساحات الجهاد والتحدّي والصّمود واستشراف النّصر، كما أنزلهُ في مواجهة كيد الماكرين وبغي الظّالمين، وصراع الإرادات؛ ليواكبَ القرآنُ دمَ الشّهداء وهو يسقط إلى الأرض، ويبلسم الجراح في ألم النّصر الآتي، ويرفع من الرّوح الجهاديّة على ترانيم قول الله: {كمّ من فئةٍ قليلةٍ غلبَتْ فئةً كثيرةً بإذنِ اللهِ}6، ويرسّخُ في النّفوس معنى المعادلة الإلهيّة: {إن تنصُروا اللهَ ينْصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أقدامَكُمْ}7.

كنّا في ما يُشبهُ حالة الطّوارئ: كيفَ نمنعُ (السيّد) من أن يُلقي بنفسِهِ في فم الخطر؛ لأنّنا نُدرك سلفاً أنّ حضورَهُ في المسجد ـ ولو وحدَهُ ـ مسألة محسومةٌ، لا جدال فيها ولا مساومات!

قُلنا للسيّد: ليس هناك أحدٌ في المسجد! وكان قد دنا الزّوالُ واقتربَ وقتُ صلاةِ الجُمُعةِ..

واعتقدنا لوهلةٍ أنّنا استطعنا أن “ننتصرَ” للمعايير الأمنيّة في ضبط حركة (السيّد)، وأن نضعه أمام الأمر الواقع، وأن نُعطيه العذرَ أمام الله، الّذي كان قبلتَهُ الدّائمة في كلّ المواقف والمواقع…

وبسرعةٍ، وهو يتحرّكُ نحو مُتوضَّئهِ قاطعاً إمكانيّات المجادلة ومحاولات الإثناء عن القرار، قال (السيّد) موجّهاً كلامَهُ إلينا: كم أنتم؟ أولادي والشّباب؛ يكفينا خمسةٌ أو سبعةٌ، فالجُمُعةُ وجبَتْ، هيّئوا أنفسكم للذّهاب!

دخلنا المسجدَ آنذاك والحضورُ خجولٌ جدّاً… الأمرُ طبيعيّ في ظلّ هذه الظّروف؛ يقتصرُ الحضور عادةً على المحيط القريب جدّاً من المسجد، ممّن لا يجدون حرجاً في التنقّل، إلا كمن ينتقل من غرفةٍ إلى غرفةٍ في إطار بيته.

وصعدَ (السيّدُ) منبر (الحسنينِ)، كعادتِهِ؛ واثقاً بالله، ثابتاً كالجبلِ، مطمئنّاً مُنساباً في كلامِهِ، ساكنٌ برغم تلاطم المشاعر والمخاوفِ…

للخطبةِ آنذاك طعمٌ آخرُ؛ الخطبة مجبولةٌ بكلّ مشاعر الاعتزاز والشّموخ والإباء، الممتزجة بكلّ مشاعر الحذر والترقُّب..

لحظاتٌ وبدأنا نسمعُ دويّ طائرات الاستطلاع من دون طيّار (MK) في أجواء المنطقة، وازدادت ضرباتُ القلبِ… الآن سيُقصفُ المسجدُ، أو المنبرُ… المسألة مفتوحةٌ على كلّ أفقٍ..

المفاجأةُ أنّ البابَ لم يكفَّ عن استقبالِ المصلّين، منذ أن صدحت المئذنةُ بصوتِ (السيّد) مفتتحاً الصّلاة في الظّرفِ الصّعبِ… إنّه الاطمئنانُ الّذي يزحفُ إلى النّفوسِ على نبرةِ صوتِ العالِم، وإنّها الرّوح الإيجابيّة الّتي تنسابُ على هدهدات حروفِهِ على نبراتِ صوتِهِ السّاكنِ في عمقِ اللّجج..

وامتلأ المسجدُ عن آخرِهِ… إنّها صلاةٌ بألفٍ… لا شكَّ عند أحدٍ في ذلك الوقت!

انتهت الصّلاةُ، وكان المأوى الثّاني للسيّد، هو في الغرفةِ في جوار قاعة الزّهراء (ع)، في الطابق السفليّ تحت المسجدِ، وهناك كان للسيّد قصّةٌ أخرى!

الهوامش:

1 قناة تلفزيونيّة لبنانيّة تابعة لحزب الله، مرخّصة تحت اسم الشركة اللبنانيّة للإعلام.

2 مضمون حديث شريف.

3 روي عن الإمام عليّ (ع): “لقد رأيتنا يوم بدرٍ ونحن نلوذ برسول الله (ص) وهو أقربُنا إلى العدوّ وكان أشدّ الناس بأساً” [مسند أحمد: 1/86].

4 يتردّدُ السيد فضل الله على سوريا أسبوعيّاً بعد صلاة الجمعة، حيث يقيم في منطقة السيّدة زينب(ع) حتّى يوم الأحد، يستقبل الناس في مكتبه هناك، ويعطي الدروس الفقهية العالية لطلاب العلوم الدينية في حوزة المرتضى، ولم ينقطع إلا بعد أن اشتدّ عليه المرض قبل حوالى الثمانية أشهر من وفاته.

5 نهج البلاغة:4/73.

6 سورة البقرة: 249.

7 سورة محمد:7.