موسى الصدر؛ حتى لا يغيّب مرتين!


في الذكرى الرابعة والأربعين لتغييب السيد موسى الصدر؛ يتّسع الهمّ للكثير من المواضيع المزدحمة؛

سواء ما كان له علاقة بتاريخ المرحلة التي عاشها من أجل فهمها بطريقة أعمق،

أو بكلّ التغيّر الذي لحق بلبنان والمنطقة والعالَم إلى يومنا هذا؛ ما يفتح الخيال على التفكير في أنّ العالم لو كان يحتضن الوجودَ الحسّي للسيّد الصّدر فكيف كان سيكون؟ وماذا سيقول؟ وكيف ستبدو مواقفه؟ ومنطقه؟ وعلى أيّ خطّ مواجهة سيقف؟ وهكذا تتوالى الأسئلة ولا تنتهي.

ولذلك سيكون الإخلاص للشخصيّات التاريخية التي نتحدّث عنها بمقدار ما نتطلّع من خلالها إلى واقعنا الذي نعيشُ فيه؛ فإنّ ذلك صدقةً جارية تتّصل بهم على طريقة “ولدٌ صالحٌ يدعو له”.

طبعًا، لسنا هنا مع إيقاف التاريخ عند أيّ شخص أو مرحلة؛ لأنّنا نؤمن بأنّ الله تعالى هو المهيمن على الزمان وما فيه، وهو الذي تلتقي عنده قطعُ الزمان ورموزُ المراحل ونتائجها، وبالتالي نحن نرتبط بالأشخاص انطلاقًا من ارتباطها بالله، ونرى المراحل على أنّها حلقاتٌ متّصلة، ويكون الواجبُ علينا أن ننظر إلى حلقتنا ارتكازًا إلى الماضي والمستقبل في آنٍ معًا.

ولأجل ذلك، سأعبُر من خلال السيّد موسى الصّدر إلى واقعنا لنحدّد طبيعة المسؤولية التي تجبُ علينا تجاه المشروع الذي حمله، وغُيّبَ لأجله؛ وهو بلا شكّ مشروع واسعٌ جدًّا وسعَ الشخصيّة التي كان يمثّلها، بعيدًا عن تأطيرات المتوهّمين وأحجام المتخيّلين!

سأقفُ في الوقت المتاح عند ثلاث نقاط:

الأولى: فرادة شخصيّته

ليست فرادة شخصيّة السيّد الصّدر في كونه رجل دين يملك جاذبيّة المنطق والمُحيّا؛ ولا في كونه رئيس طائفة في هذا النظام الملّي اللبناني، بل لأنّه كان أكبر من موقعه الرسميّ؛

لأنّه كان صاحب رؤية تستند إلى الإيمان بالله أولًا،

وتنعكسُ هذه الرؤية في طريقة مقاربته للمفردات السياسية، فلا تستهلكُهُ السياسة بقدر ما يوجّه دفّتها نحو ملعبٍ آخر، يحدّق دائمًا بقضايا الإنسان الكبيرة؛

وأنّه كان صاحب دعوة؛ لم تجعله السياسة بعيدًا عن ممارسة دوره كداعية للإسلام، ومبيّين لأطروحاته، ومواجهٍ لحاجة المعرفة في أتباعه وناسه. بل لعلّه، كما كثير من رموز ذلك الجيل، كان يعيشُ السياسة ثقافةً ودعوة، يحضُر فيها كتابُ الله وخطّ الأنبياء والأولياء والصالحين.

وكان أيضًا صاحب أخلاقٍ لا يفسد الاختلاف في جزئيّات العمل أو في السياسة صداقة شخصيّة، وانفتاحًا في التعاون، وفي ذلك يعيش الصدر الرحب والعقل والواسع والخلق الكبير؛ وهذا جسرُ العبور.

الثانية: حجم شخصيّته

من خلال تعدّد أبعاد الشخصيّة، فإنّ السيد الصدر لم يكن يعيشُ الحركة السياسية بلا قاعدة فكريّة، وهذه القاعدة هي الإسلام المنفتح على قضايا العصر، ومستجدات الواقع، والذي يحرّك الخطاب والأسلوب انطلاقًامن الحكمة. والظلم الذي يلحقُ بهذه الشخصيّات ليس من خلال ما تواجَه به في زمانها، وإنّما في سلخها عن سياقها؛ لأنّ هذا الإمام كان يعظ الناس ويُرشدهم في العقيدة والشريعة والفكر والأخلاق، وله في كلّ ذلك مبادئ وقواعد وأسس ومفردات. ولذلك عندما تحجّم الشخصيّة إلى بعض مقولاتها، سيسهل عندئذٍ استثمارها في جوانب كثيرة نتوقّع أنّها لو كانت موجودة لما كانت تعيشُ هذه التجزئة في حياتها ومواقفها.

لسنا هنا من دعاة الحصريّة، سواء للسيد الصدر و لغيره من الشخصيات التاريخية، ولا من دعاة التقديس الذي همّه كيف يغالي في إظهار الانتماء إليها، بل أن تُفتح هذه الشخصيّات على مصراعيها، وأن تصل إلى الإنسان المعاصر بالوسائل التي يتأثر بها. فالسيّد الصدر لم يكن سياسيًّا إلا بمقدار ما كان متديّنًا، ولم يكن شيعيًا إلا بمقدار ما كان إسلاميًا، ولم يكن إسلاميًا إلا بمقدار ما كان رساليًا، ولم يكن رساليًا إلا بمقدار ما كان إنسانيًا في انفتاحه على الله المطلق.

لا بدّ – ولا سيّما الجهات المعنيّة به – أن تعمل على إطلاق السيد موسى الصدر بكلّ خطابه وتجربته إلى الجيل المعاصر، حتى يعي هذا الجيل الذي لم يعاصره جسدًا مَن هو موسى الصدر؟ وما هي آفاقه؟ أفكاره؟ مجالاته التي أنتج فيها؟ تجربته؟ مواقفه وسياقاتها؟ مبادئه؟

لماذا لا نرى – على سبيل المثال – السيد موسى الصدر على وسائل التواصل الاجتماعي.. أحاديثه الرمضانية الروحية التي كانت تبثّها الإذاعة اللبنانية في أسحار شهر رمضان؛ ألا يحتاجها القلب الظامئ للإيمان اليوم في عالم التصحّر الروحي وطغيان المادّة.. وغيرها…

أليس هذا تغييبًا أشدّ ظُلمًا؟! أن تحصر شخصيّة في جزءٍ من صورتها؛ أو أضيق من حجمها؛ وأن تحرم حياة فكره وروحيّتها وتأثيرها عن أن تمتدّ إلى ظمأ الإنسان الباحث عن الماء العذب!

الثالثة: نموذج شخصيّته

انطلاقًا من نجاح نموذجه في زمانه، وكذلك ما بعد تغييبه من خلال حضور خطابه وفرض منطقه، فإنّ من المهمّ العمل على تحديد معالم نموذجه؛ لأنّ ضبابيّة النموذج يفتح إمكانيّة التسلّل إلى دائرة الانتماء إليه الكثيرون ممّن لا يحملون اسمه وإنما عاطفة الانتماء فقط؛ وهذا الأمور نقولها عن السيد موسى الصدر والسيد فضل الله والسيد الخميني والسيد محمد باقر الصدر ومحمد الصدر وغيرهم. أنا أطرح المسألة هنا في بُعدها الفكري وليس السياسي، وليست في وارد تسجيل نقاط بقدر تأكيد حضور وفاعلية النموذج في العالم المعاصر.

فعلى سبيل المثال، ماذا كان رأي السيد موسى الصدر في عاشوراء الحسين (ع)؟ وكيف كان ينظر إلى وظيفتها؟ وخطابها؟ وتجسّدها في حركة الواقع؟ وغير ذلك من الأمور.. وبالتالي أيّ خطابٍ لعاشوراء يُمكن أن يُحسب عليه؟ هل هو خطاب شدّ العصب المذهبي؟ أم هو خطاب اعتبار الحالة المذهبية عنصر غنًى انطلاقًا من تشكيلها تمثيلًا للإسلام الذي يحضن الآخر المذهبي، ولا ينغلق عليه؟!

هل كان يعيشُ العصبيّة لشخصه في زمانه؟ وبالتالي هل يمكن أن نخلق اليوم عصبيّة حوله؟

هذه الأمور أقولها لنا جميعًا؛

أصبحت دوائرنا تنغلقُ بدلًا من أن تنفتح تحت حجّة الانتماء الحزبي أو الحركي أو حتّى الديني المؤسّسي!

لقد كان السيد فضل الله غير منسجمٍ – من خلال طبيعة أسلوبه في العمل الإسلامي – مع فكرة المجلس الشيعي، ولكنّه كان يعمل مع علماء آخرين ليقنعوا الجبهة المضادّة للسيد موسى الصدر بفكرة المجلس وصحّتها في ضمن سياق النظام اللبناني، وفعلوا ذلك.. بمعنى أنّ المؤسّسة كانت تحتضنُ خطابًا أوسع من جدرانها، وأنّ الروحية التي كانت يختزنها تنتفح على كلّ طاقة في ما تشترك معها فيه من أجل أن تعطي للمشروع الكبير زخمه، ولكيلا تتحول المؤسسة إلى إطارٍ تحجيميّ للمشروع الكبير، بل منصّة لتثوير الحركة حوله حتى لو لم تكن موظّفةً فيه.

هل نعيشُ اليوم مؤسّسيًا لننتج ثقافةً إسلاميّة، في أفقها المعرفي والأخلاقي والحركي الرحب؟

يمكن أن نفهم أن العمل التنظيمي له وظيفته وأسلوبه، لكنَّ الثقافة التي يمكن أن تعزّز انتماءك للإسلام الذي تعمل الحركة أو الحزب أو المؤسسة لأجله، مداها أوسع من هذا الإطار أو ذاك! هل واقعنا يوحي بالانفتاح أو لا؟

نحن – في كثير من طرق عملنا – بتنا مستعدّين أن نحسب الإسلام على الضعفاء فقط لأجل أنّ الإطار التنظيمي يقتضي ذلك؟ أو لأجل إدارة الأمور على طريقة العلاقات العامّة والمصالح السياسية، فأصبح الإسلام في حجم الإطار، بدلًا من أن يكون الإطار منصّة لحركة الإسلام التي تسمح بالبناء على المشتركات، وتدير اختلافاتها من خلال أريحية إنسانية أخلاقية كانت الطابع المميز لشخصيّة الإمام الصدر وكثيرٍ ممّن عاشوا تلك المرحلة.

والحمد لله ربّ العالمين

السيد د. جعفر فضل الله 
ندوة في قرية الساحة التراثية- بيروت – لبنان

بيروت 3 صفر 1444هـ

30 – 8- 2022م