السيد د. جعفر فضل الله

طرح السيّد علي خامنئي مصطلح التشيّع اللّندني، مشيراً إلى خطورة الخطاب الصّادر عن فضائيّات موصوفة تبثّ من المملكة المتّحدة وتتحرّك على خطّين: الفتنة المذهبية بين الشيعة والسنّة، وتوهين رموز الوعي والعقلانيّة في الداخل الشيعي.

ومن الواضح أنّ هذا المصطلح قد صيغ بذكاء، من أجل عدم استفزاز شرائح موجودة في قلب المجتمعات الإسلامية والشيعية بالخصوص، تتحرّك في خطابها على الخطّين نفسيْهما المذكوريْن أعلاه، وخطابها يقوم على استثمار الجانب العاطفي والطقوسي المرتبط بمناسبات أهل البيت(ع)، ولا سيّما عاشوراء لدى جمهور المسلمين الشيعة، وهذا ما يُفسح في المجال لمعالجات هادئة، أو أقلّ توتّراً – ربّما -.

في كلّ الأحوال، فمن الجليّ أنّ خطورة هذا الاتّجاه من التشيّع، لا تقتصر على بعض الطقوس الخرافيّة في إحياء عاشوراء، بل خطورته الحقيقيّة تكمن في المنهج الفكري وتأثيراته البعيدة المدى على التشيّع نفسه من جهة، وعلى العلاقات البينيّة بين المسلمين من جهة ثانية، وانعكاس هذين الأمرين على القضايا والتحدّيات الكبرى التي تواجه المسلمين في علاقتهم مع القوى المستكبرة في العالم أو في الإقليم. وفي ظنّي، أنّه ما لم يتمّ وعي هذا اللّون من الخطر، فإنّ المعالجات تبقى معالجات سطحيّة، وأحياناً صوتيّة، لتعود عجلة الأمور إلى مسارها المعتاد، والأزمة ذاتها!

وعلى سبيل المثال والإشارة السّريعة، فإنّ هذا المنهج – الذي ينطق بنتاجِه إعلامُ «التشيّع اللّندني» – يقوم على سطحيّة التفكير الديني، وطقسنة التشيّع التي تعني تفريغه من مضمونه الحضاري العقلاني القادرة على التواصل والعبور إلى الفكر الآخر، وإمكانيّة التوصّل من خلال ذلك إلى صوغ أرض مشتركة، ويقوم أيضاً على المنطق التبريريّ لما هو قائمٌ ويقومُ وسيقومُ لأيّ ظاهرة ينتجها التعصّب ضدّ الآخر المذهبيّ خصوصاً، أو لأيّ بدعةٍ طقوسيّة يمكن أن تقوم بها أيّ ذهنيّة مهما كانت ساذجة أو مسيئة، إضافةً إلى الانتقائيّة من روايات التاريخ التي تشتمل على الغثّ والسّمين، بغية تسخير ذلك لضرب العلاقات الأخويّة بين المسلمين، وتكريس آليّات الفصل عبر السبّ واللّعن والقذف لكثير من رموز ذلك التاريخ وشخصيّاته. وهذا كلّه ليس عبارةً عن مفردات محدودة، وإنّما عبارة عن ذهنيّة وثقافة عابرة للأجيال والمجتمعات.

لن أتناول هنا بعض الآثار التي لها علاقة بمنح ذرائع مجّانيّة للاتّجاهات التكفيرية لتعيث في الأرض فساداً وتدميراً وإجراماً؛ لأنّ هذه الاتّجاهات لا تحتاج إلى تبريرات، فهي نشأت على فكرٍ إقصائيّ نهائيّ يقينيّ لا يتزلزل، وتقوم على منهج انتقائيّ أيضاً من التّاريخ أو من الإعلام أو من الكتب، بما يخدم تعزيز النّهج الإقصائي والتكفيري؛ ولكنّ المصيبة تكمن في أنّنا قد لا نلتفت إلى الحاجة القصوى في سحب الذّرائع من أجل محاولة وضع حدٍّ لامتداد هذا الاتجاه التكفيريّ في الأجيال الآتية؛ أقلّه لنُعذَر أمام الله تعالى في قيامنا بكلّ ما نملك لضرب بعض أدواته التي يسوّق من خلالها للفكر التفكيريّ جيلًا بعد جيل.

ولأهميّة هذه النقطة الأخيرة، يبدو لزاماً علينا توضيحها باختصار، فنقول: إنّ الأجيال تختلف في أدواتها، وتتأثّر بالكثير من المستجدّات الثقافيّة، والتي منها، أنّها باتت – بفعل الاتجاه العالمي – أكثر تقبّلاً للاختلاف، وأكثر شعوراً بحضور الحوار كآليّةٍ من آليّات العصر الضّروريّة، وأكثر انفتاحاً على المنهج العلميّ في مقاربة القضايا المتنوّعة، هذا المنهج الذي يمكن سحبه إلى الاختلاف الديني والمذهبي دون عناءٍ كبير، قياساً بزمان المجتمعات المغلقة، ولذلك يبدو أنّ سحب الذّرائع يعين على تثبيت هذه المكتسبات الثقافية واستثمارها في ترسيخ ذهنيّة مختلفة عن ذهنيّة الماضين في التعاطي مع قضايا الأمّة وتحدّياتها. في المقابل، فإنّ زيادة إذكاء نار العصبيّة المذهبيّة بحجّة تسجيل نقاط على الخصم، أو شحن العصَب الاجتماعي أو الجهادي، يعطي ذريعة وبيئة مؤاتية للجيل الأوّل لإعادة قولبة الجيل الثّاني في قالب التعصّب، وإلغاء الحوار والتفكير العلميّ الناقد والانفتاح على الآخر… بل ربما تكون هذه النتيجة أخطر؛ لأنَّ الأدوات التي لدى الجيل الثاني هي أكثر تطوّراً وفتكاً من تلك التي كانت بيد الجيل الأوّل!

مساران داخل التشيّع

إذا بنينا على النقطة السابقة، فإنّ الإشكاليّة التي نواجهها حاليّاً، هي في الزمن المتاح والأدوات الضرورية للمعالجة العلمية والثقافية؛ ذلك أنَّ كثيراً من الفئات الموجودة على الساحة الشيعية، والتي تنتمي بشكل وبآخر إلى الاتجاه الواعي والعقلاني، ولديها قيم ثابتة في قبول الآخر والانفتاح عليه، ولديها خبرات متراكمة في إدارة الاختلاف والحركة السياسية وبناء الدولة وفهم آليّات الصراع الكبرى الدائرة على المسرح العالمي… هذه الفئات ليس لديها الوقت ولا الأدوات الكافية لذلك.

ولتوضيح هذه النقطة، نحتاج إلى العودة قليلاً إلى الوراء، لنلاحظ أنَّ ثمّة مسارين فكريّين كانا يتشكّلان في المجال الإسلامي الشّيعي:

المسار الأوّل: اتّجاهٌ قادته جهات علمائيّة حركيّة تملك فكراً عقلانيّاً ناقداً، وشجاعة تجديديّة عالية، وروحاً وحدويّة متّقدة وراسخة، وتطلّعاً نحو مشروعٍ إسلاميّ حركي عالمي، قادر على الانخراط بقوّة وفاعليّة في النشاط الفكري والحركي العالمي. نستطيع الإشارة إلى رموز أساسيّين في هذا الاتّجاه، منهم السيّد محمد باقر الصّدر الذي نقل الفقه من فقه الأحكام إلى فقه النظرية المترابطة، وكان يعتبر أنَّ ساحته هي العالم كلّه وأطروحاته الكبرى، فكتب في تأسيس النظرية الإيمانية في مقابل الإلحاد الذي كان يسوّقه الاتحاد السوفياتي آنذاك، وكتب في النظرة الاقتصادية في الإسلام في مقابل الرأسمالية والشيوعية، وكان يكتب في سنن التّاريخ التي تحكم المجتمعات والحضارات… إضافةً إلى انطلاقه بعمل حزبيّ لم يكن ذا سابقة في المجال الشيعي، ولكنّه عكس انخراط الفكر الإسلامي الحركي المستند إلى القاعدة الفقهية في قلب آليّات العصر الحديث.

أُعدم الصّدر على يد النظام البعثي العراقي، في الوقت الّذي كان يتمّ اغتيال رموز مشابهة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كالشيخ مرتضى مطهّري، والسيّد محمد حسيني بهشتي، اللذين كانا صلة الوصل بين الحوزة والجامعة، وحركة الثورة وفكر الدولة، وكانا يملكان الأدوات التي تسمح بتواصلهما المباشر مع الفكر الغربي.

بكلمة مختصرةٍ، كان يتمّ اغتيال النُّخب الإسلاميّة الفكريّة في الوقت الذي كان يصعد النموذج الذي يُظهر مكانة التشيّع في قلب الحركة الفكرية والسياسية العالمية؛ إذ من نافل القول إنَّ أيّ فكرٍ عندما يتهيّأ أن يتبنَّاه نموذج سياسي، كالحزب أو الدولة، فإنّه سيكون أشدّ حضوراً ووضوحاً من بقائه في ساحة النظريّة المجرّدة.

وواحدٌ ممّن بقي فاعلاً من ذلك الاتّجاه على الساحة الفكريّة، كان السيّد محمّد حسين فضل الله، الذي سنأتي على ذكر مساهمته لاحقاً. إلّا أنّ المهمّ في هذا المجال، هو الإشارة إلى ما تلقّاه السيّد فضل الله من عمليّات اغتيال معنويّ، عبر أحكام التكفير بلغة الرّمي بالضّلال والمروق من التشيّع وما هو أبعد من ذلك، وقد ساهمت فيها مرجعيّات دينيّة عليا، ومؤسّسات وشخصيّات لها اسمُها وحضورها على السّاحة، بما سمح بالحديث عن تلك المرحلة التي بدأت منتصف التسعينيّات من القرن الماضي وحتّى الآن بـ«فتنة فضل الله». وهذا كان يشير إلى المسار الثاني.

المسار الثاني: هذا المسار يغاير في بنيته الحركيّة المسار الذي اتّخذه «التشيّع اللّندني» الآنف الذّكر في كثير من نواحي النظريّة، ولكنّه التقى في المنهج ذاته من الناحية العمليّة، انطلاقاً من أنّ ذلك المنهج هو الورقة الرّابحة في الحرب التي شُنّت على السيّد فضل الله وأفكاره. إنّه المنهج الّذي يعتمد الإثارة العاطفيّة، والانتقائيّة من التاريخ، والعودة إلى الأدبيّات التي تجاوزها المسار الأوّل، والتي تضرّ بوحدة المسلمين وتقوية منعتهم أمام التحدّيات والفتن التي يسعى إليها الاستكبار العالمي وأدواته.

تواضع أدوات المواجهة

من الناحية العمليّة، فإنّ التقاء منهجين على مصلحة واحدة، وتسخير الأدوات المتنوّعة التي أسعفهما بها التطوّر التقني والتواصل الرقمي والإعلامي، إضافةً إلى استحواذ ذلك على نقاشات وجهود مؤسَّسات معرفية، كان يعني تفريغاً للساحة من نتاج المسار العقلاني، وتشابه المناهج من الناحية العملية لدى ذهنية العامّة أو الجمهور، وأصبح للمنهج الذي ينطق بنتاجه «التشيّع اللندني» حصّة في ثقافة الجماهير، حتى تلك الّتي تخالفها نظريّاً أو في التوجّه الحركي. وعلى هذا المسار، كانت تتشكّل ذهنيّة الكثير من النُّخب الفكرية والسياسية والدينية، وهي ذاتُها النُّخب التي سيكون على عاتقها مواجهة إشكاليّات كُبرى بعد دخول المنطقة في فتنة مذهبيّة طخياء عمياء، سُخّرت لأجلها أدوات إعلاميّة وأجهزة مخابرات ومراكز دراسات وأبحاث، وبالتالي، كنّا أمام ضعف في التراكم الحقيقيّ للنخب الفكرية التي انفتحت على ساحة الصّراع الفكري العالمي والديني والمذهبي دفعة واحدة. ونحن نعلم أهمّيّة المراكمة في الأزمنة الباردة لامتلاك القدرة والأدوات الذاتيّة على المواجهة في الأزمنة الحارّة.

ولعلّ المتابع لتأثيرات الخطاب الذي أطلقه السيّد حسن نصر الله في ليالي عاشوراء حول بعض ما يسمّى بـ«الشعائر الحسينية» المتخلّفة، على مواقع التواصل الاجتماعي، على الأقلّ، يستطيع أن يلمح ما يشبه «الهَبَّة النّقدية»، من قبل القاعدة الحزبية أو النخبويّة الدينية حتّى. ولكنَّ ذلك لم ينعكس – إلى الآن – إعادة إنتاج للمسار الثقافي برمّته، ممّا قد يشير إلى ارتباط الثقافي بالسياسي على طريقة العمل الحزبي، أكثر من تحوّله إلى حالة بنيويّة غير خاضعة للمتغيّر السياسي؛ وقد كان من مؤشّرات ذلك، الطريقة النقديّة نفسها لدى بعض الأقلام، والتي منها النقد على طريقة «باء تجرّ وباء لا تجرّ».

وفي مقابل ذلك، نُدرك أنّ المواجهة المطلوبة لـ«التشيّع اللندني»، تتطلّب بيئة فكرية واجتماعية وسياسيّة تغيّر في الأرضيّة المجتمعيّة التي يستطيع ذلك الاتجاه المتطرّف اللّعب فيها على عاطفة النّاس الولائيّة لأهل البيت، لتكريس ذلك المنهج الذي أشرنا إليه وآثاره في ذهنيّة الجماهير وحركة العلاقات الشيعية الداخليّة. ولا يكفي فيها إطلاق بعض الفتاوى والمواقف الآنية، ولو كانت من قيادات عُليا لها حضورها وتأثيرها، ولا بدَّ من تحوّل تلك المواقف إلى حركة مؤسّسيّة، وأن تحوز على تبنّي الأطر الوسطى من النخب الدينية والفكرية خصوصاً، والتي يقع على عاتقها تثقيف القاعدة الشعبية بتوجّهات القيادات، وحتى امتلاكها للأدوات اللازمة؛ لأنّها اقتاتت طويلاً على ما كان يقدّمه المسار الثاني، وهو في حاجة إلى وقت أطول لتغيير آثاره على الفكر والأسلوب والحركة.

مراجعة ومصالحة

إنَّ طبيعة التحدّيات، الداخليّة والخارجيّة، تقتضي بناء شبكة علمية ومؤسّسية وبشرية قويّة قادرة على سدّ أيّ فراغ في المنظومة الثقافيّة، ونعتقد أنَّ الخطوة الأولى لبنائها تبدأ بإجراء مراجعة ومصالحة.

أمّا المراجعة، فهي لمرحلة ماضية، وهي ما اصطُلح عليه بـ«فتنة فضل الله»، التي ما زالت تداعياتها مستمرّة إلى يومنا هذا، وتؤثّر في شبكة العلاقات فيما بين النّخب المنتمية، إعلاناً أو قَهراً، إلى المسار الأوّل، أي المسار العقلاني في الفكر والحركة. وإنّما نحتاج إلى مراجعة انطلاقاً من أنَّ السيِّد فضل الله لم يكن يمثّل شخصاً، وإنّما مثَّل امتداداً لذلك المسار الذي أشرنا إلى بعض رموزه أعلاه، والّذي عمل في مرحلة أعطت الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية أدوات الامتداد الكبير في الواقع العربي والإسلامي والعالمي، ما جعله ممثّلاً للاتّجاه القادر على أن يكون صلة الوصل بين الفكر النظري والحركة الواقعية، وبين الأصيل من الفكر والفقه، والمعاصر من القضايا والإشكاليات، ونقطة ارتكاز في فكر الانفتاح على الآخر من موقع الالتزام الصّارم بالإسلام، وفي الوحدة الإسلاميّة، من موقع القناعة التامّة بالتشيّع، وشكّل نقطة تقريب بين المجال الدّيني والعلمي من داخل النّسق الدّيني نفسه، إضافةً إلى تفكيكه بين المتلازمات التي أنتجها التعصّب على مستوى التاريخ والحاضر، أو القضايا العقديّة والشرعيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة وما إلى ذلك… وفي الوقت نفسه، أكمل تنظيره للحركة الإسلاميّة في دخولها في قلب العصر، وفي عمق التحدّيات العالميّة، بما لا يزال الكثير منه بكراً على مستوى التجلّي في عالم التّطبيق والمأسسة على نطاق واسع.

ناهيك بتغطية السيّد فضل الله لمساحات فارغة من المقاربات الفقهيّة أو الفكريّة الجادّة والعلميّة، في مقاربة قضايا الشَّباب والمرأة والعلاقة بين الحرّية والتديّن، والإلحاد والإيمان، والعلمانيّة والشّريعة، وغيرها من القضايا الّتي تضغط بقوّة على شبابنا، وتشي بتغيّر المزاج والاتجاه في كثير من تلك القضايا، بسبب التحدّيات التي يواجهها الجيل الحالي من دون أسلحة كافية، نتيجة الحُرُم الّذي وضعه الجوّ الضاغط على فكر السيّد فضل الله من أكثر من جهة.

من نافل القول، إنَّ ما مثّله السيّد فضل الله لم يكن فقط نقطة التقاء الحركات الإسلاميّة على تنوّع مذهبيّاتها؛ بل إنّه استطاع اختراق السّاحة السلفيّة، عبر نزع الكثير من الذّرائع التي تتسلّح بها لتكفير الشيعة، من دون أن يتنازل عن مفاهيم تشكِّل نقاطاً حرجة لتلك الساحة، كقضية التوسّل والشّفاعة وزيارة القبور وما إلى ذلك. كانت إعادة تعريف المفاهيم وإنتاجها من خلال المنهج العلمي العقلاني كفيلةً بنزع الفتائل، وهذه الحركة مطلوبة في حدّ ذاتها، حتّى لو لم يكن هناك تكفير أو آخر مذهبيّ بالكليّة.

والأهمّ من ذلك كلّه، أنّه أرسى دعائم منهج في التفكير الفقهي والفكري، يعيد تصويب المرجعيّات الفكرية الإسلاميّة، حيث القرآن يأتي أوّلاً، من دون أن ينسف الحديث كما يحلو للبعض أن ينظّر اليوم، ولكنَّ القرآن يمثّل المرجعيّة المعياريّة التي يُقاس عليها المضمون الّذي تزخر به كتب الحديث، ممّا باتت إشكاليّاته على الملأ من خلال المنهج التقليدي الذي أنتج الفكر التكفيري، وهو ينتج ازدواجيّة في الشخصية الدينية إلى حدّ ما بين الداخل والخارج. هذا الأمر يشكّل اليوم تحدّياً رئيساً أمام أن يكون الإسلام أو لا يكون.

ثمّة نقطة جوهريّة لها صلة بالواقع الحركي على مستوى القضايا الكبرى؛ ذلك أنَّ السيّد فضل الله لم يخلط بين ما تعرّض له من حملات تضليليّة وتكفيريّة ظالمة، ولم يسمح لأيِّ اختلاف فكريّ أو فقهيّ أو سياسيّ في تلك القضيّة أو غيرها، لأن يلقي بظلاله على احتضانه للمرجعيّة الدينيّة – كمؤسّسة وخطّ – لكونها تمثّل عموداً فقريّاً في الاجتماعي الإسلامي الشيعي، بالرغم من تعرّضه لفتاوى تكفير من بعضها، أو على دفاعه عن النّموذج الحديث للدولة الإسلامية المرتكزة إلى تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران، على الرغم من انخراط جهات فيها في الحرب عليه، وعلى دعمه لحركة المقاومة المتمثّلة في حزب الله في لبنان، بالرّغم من حركة الانفصال الفكري عن السيّد فضل الله التي استفادت من هذه الحرب الظّالمة عليه… هذا المنهج لا نحتاج إلى كثير عناء لرؤية ضرورته في زمن اتّساع الذهنيّة الفرديّة في التعبير، التي تخلط بين المشاعر الشخصيّة والقضايا الكبرى، بحيث يكون الفرد فيها منتمياً إلى حركة إسلاميّة، وفي الوقت نفسه، هو مستعدٌّ لأن يطيح في تعبيراته بحركات إسلاميّة أخرى أو بمؤسّسات كبرى، أو لأن يفرّط بقضايا كبرى لها تاريخها؛ لمجرّد الاختلاف الفكريّ أو المذهبي.

لا يعني ذلك اختزال طاقات السّاحة بشخص السيّد فضل الله، ولا انعدام النخب الفكرية والثقافية والدينية القادرة على الإنتاج والإبداع، ولكنّه كان عنوان مسار، وجسر عبور ضروريّ إلى المرحلة القادمة من تاريخ أمّتنا، ولا أتحدّث هنا عن التشيّع من زاوية مذهبيّة ضيّقة، وإنّما عن التشيّع كمسار إصلاح وتجديد مستمرّ في الأمّة، وهو الدّور الذي لعبه خلال التاريخ لمن كان لديه أدنى تدبّر.

كما لا يعني ذلك حصر المراجعة والمصالحة بفصائل أو جهات تمّت الإشارة إليها ضمن المقال، فإنّ الواقع كلّه في مساحة الوجود الإسلامي الشيعي بات يُظهر خللاً في البنية والدّور، انطلاقاً من طبيعة الخطاب الديني في مقاربة قضايا العصر، أو من طريقة جهات نافذة في التّعبير عن صراع المصالح، أو في النموذج الديني نفسه الّذي يُعمل على ضربه من خلال مخطَّطات متنوّعة، وتنخرط فيه – من حيث تدري أو لا تدري – جهات عديدة، إذا قسنا المسألة على حركة المجتمعات وعمر الأجيال.

إنّ الفتنة السياسيّة الضّاربة أطنابها في العالم اليوم، والتي تتّخذ من الاختلاف المذهبي غطاءً لها، هي أرضيّة خصبة لذلك اللّون من التشيّع المتطرّف والمغالي والخرافي، والتّصالح مع المرحلة الماضية والبناء عليها، يوفّر جهوداً ووقتاً كبيراً في المراكمة من جديد من الصِّفر، وربما من تحت الصِّفر لأدوات المواجهة الفكريّة، ويوحّد الطّاقات المنخرطة أصلاً في تيّار الوعي والعقلانيّة، ليتكوّن تيّار في الأمّة، ليس بالضّرورة أن يكون حزبيّاً، وإنّما هو التيّار الّذي أراده السيّد الخميني عندما دعا إلى المزاوجة بين الحوزة والجامعة، وعندما نفثَ زفرات أنينه وألمه من العقول المتحجّرة في الحوزة العلميّة التي فوّتت على الجمهورية الإسلامية الاستفادة من أرضية صالحة لتكريس النموذج الإسلامي للدّولة.

وإنّ المصالحة تلك سوف تقطع الطريق على كثير من الولائيّين المزعومين بالصّعود على سلالم القبول السياسي أو الديني التقليدي، وسوف يخفّف من حدّة الأصوات الحادّة التي قد تكون ردّ فعل على حالة المظلومية المستمرّة لفكر السيّد فضل الله، وربّما سوف يفضح تلك الأصوات التي تستغلّ فكره لتصفية حسابات سياسيّة في أكثر من ساحة، في مشهدٍ ما زال يوحي ببساطة التعاطي مع هذا اللّون من التداعيات والآثار، رافضاً مقاربة تعقيداتها التي حاولنا أن نشير إليها في هذه المقالة.

على أعتاب عامٍ مليء بالتحدّيات الكبرى، والاهتزازات البنيويّة المتنوّعة التي يواجهها المجال الإسلامي على اختلاف تنوّعاته المذهبيّة، هي كلماتٌ أشبه ما يكون بجردة حساب، لعلّها تفتح أفقاً نحتاج معه إلى جهود جبّارة في السّنة أو السنوات المقبلة، لإعادة إنتاج الأمَّة القويّة والقادرة على مواجهة تحدّيات القرن الـ21، وكلّ الحروب النّاعمة النّائمة في أدراج أجهزة المخابرات ومراكز الدّراسات، أو المفعّلة على أرض الواقع منذ زمن طويل لم نلتفت إليه حينها؛ والله من وراء القصد.

جريدة الأخبار اللّبنانيّة