هل التّطبيع أمرٌ واقع؟


السيد د. جعفر فضل الله

هناك إشكاليّة طرحت وما تزال تُطرح، وهي اليوم أكثر إشكاليّة من أيّ وقتٍ مضى، نتيجة ضبابيّة المفاهيم والتشوّهات التي لحقت بالذهنيّة العامّة للأمّة، حيث بات الكثير من الواضحات مسائل متنازعًا عليها، وفيها الكثير من الإشكالات، وحولها الكثير من الأسئلة، وأصبح ما هو بديهي اليوم يحتاج إلى استدلالٍ وتأصيلٍ ودليل، والحال أنَّ بعضها قضايا تتّصل بوجودنا كأمّة، ومسؤوليّاتنا كجماعاتٍ وأفراد.

ويزداد الأمر خطورةً وحساسيّة في عصر الإعلام، وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي، والسّرعة في حركة المعلومات، والكمّ الهائل الّذي يمكن إلقاؤه دفعةً واحدةً، بحيث يصبح الإنسان أمام انعدام القدرة على التّمييز بين الحقّ والباطل، وقد يتَّخذ مواقف بفعل اليأس، أو الشّعور بثقل واقعٍ قد لا يكون هو الواقع الحقيقيّ في مقابل العالم الافتراضي.

مسألة التطبيع مع العدوّ الصهيوني هي واحدة من تلك القضايا، بل من أولاها، حيث لا يحتاج المرء إلى الكثير ليُلاحظ زيادة حالات من التنازل في الواقع العربي والإسلامي، وهذا التنازل يتحرّك نحو الكيان الصهيوني بشيء من المودة والتعاون والتنسيق، وربما يطمح بعضهم إلى إيجاد جبهة سياسية أو أمنية تجاه قوى وحركات ودول في المنطقة، وما يُدرينا أنّنا قد نستفيق على محاور جديدة، محور تقوده إسرائيل وفيه دول عربية وإسلامية، في مقابل محاور عربية وإسلامية تتّخذ من قضيّة المقاومة عنوانًا لها ولحركتها.

وقضيّة التطبيع ليست قضيّة موقفٍ سياسيّ فحسب، وإنّما هي قضيّة ترتبط بالكثير من مفردات حياة الفرد والجماعة، وتتّصل في كثير من الأحيان بخيارات كبرى للمجتمعات والدُّول. التطبيع هو مقاومة الشّعور بقبول الأمر الواقع، وبمقدار ما يقوى هذا الواقع، وبمقدار ما يتجذّر في أجزاء الحياة اليوميّة، ويتشابك في العلاقات التي يحتاج إليها المرء في حياته، بمقدار ما تصبح هذه المقاومة قضيّة معقّدة، وتتطلّب درجات عالية من قوّة الشخصيّة في بنائها الذاتي، على مستوى الفكر والشّعور وخيارات الإنسان في الحياة.

لو أخذنا مفردةً صغيرةً كمثال على ذلك، فإنّ القهوة الصباحية التي يتناولها الإنسان يوميًّا، ليست مجرّد كوبٍ صغيرٍ يحتوي سائلًا مرّ المذاق أسود اللون، ويحتوي على كمّية من المادّة المنبّهة، وإنّما يخفي خلفه سلسلة من العلاقات والمواقف والسياسات والقيم، للجماعة قبل الفرد. هذا الكوب من القهوة، أصبح جزءًا من النّشاط الذي يحتاجه العامل، وبالتالي لا يكون سلعةً كماليّة، بل يصبح من ضروريّات الحياة، كما أنّ الشركة التي يعمل فيها هذا العامل وغيرُه، تلتفت إلى ضرورة توفير البيئة المناسبة لزيادة النشاط العامّ للعاملين، فيصبح شراء هذه السّلعة بالذّات من موازنات الشركة أو المؤسّسة، كما أنّ هذه المادّة تدخل في أيّ اجتماع بين شخصين، ليكون الحديث من دون هذا اللّون من القهوة جافًّا، لا تصاحبه حميميّة أو راحة مطلوبة، ويدخل أيضًا في سياسات البلد الاقتصادية في ما يتمّ استيراده من الخارج، ويتمّ من خلال ذلك إهمال الكثير من الأصناف الأخرى البديلة، والتي يمكن أن تحقّق توازنًا اقتصاديًّا للبلد أو في حركة الاقتصاد العالمي، لكونها مستوردة من شعوب نامية لا تمارس سياسة استكباريّة على الشّعوب الأخرى، وربما يرتبط الاستيراد منها حينئذٍ بمنظومة من القيم الأخلاقية والإنسانيّة، حيث يشير ذلك الصنف إلى أنظمة احتكاريّة رأسماليّة ضخمة، تشكّل حلقة من الشركات المؤثّرة في مواقع القرار في دول كبرى تخوض حروبًا ضدّ شعوب منطقتنا، أو تشكّل داعمًا أساسًا لأعداء الأمّة، وما إلى ذلك، ممّا يتعدّى كون ارتشاف كوب القهوة الصباحي مجرّد سلوك فرديّ عاديّ.

وبناءً عليه، عندما نكتشف أنّ هذه الشركة المصنّعة للقهوة الّتي بات “لا يمكن العيش من دونها” هي شركة صهيونيّة، أو هي شركة داعمة بقوّة للاحتلال الصهيوني لأرضنا، فعندئذٍ ستتحكّم هذه القهوة المرتشفة صباحًا مع الكثير من الخيالات الحالمة، بموقف الإنسان من الاحتلال نفسه؛ لأنّها ستضعه أمام حقيقة أنّه يدعم يوميًّا العدوّ الصهيوني، في الوقت الذي يحمل قضيّة مقاومته وينادي بالموت لهذا العدوّ في شعاراته وأدبيّاته.

هذا الأمر سيتطلّب من الإنسان تغيير عاداته اليومية، إضافةً إلى تغيير نظرته إلى عناوين الرفاهية (وماركاتها التجارية) التي فرضتها السياسات الإعلانية، وقد يتطلّب زيادة عبء اقتصاديّ، بسبب كون المنتج البديل أغلى سعرًا، وهو ما سيؤثّر في الموازنة العامّة للفرد أو للعائلة أو للشّركة، كما أنّ سياسات الاستيراد المعتمدة قد تعيق استيراد بعض المنتجات من بعض الدّول…

هذا الأمر ينفتح بنا على هذا المستوى من التعقيد والتشابك، وهو أمرٌ بسيط متعلّق بارتشاف كوبٍ من القهوة الصباحية سريعة التحضير؛ فكيف بنا إذا وسّعنا دائرة حضور الكيان الصهيوني إلى دوائر أخرى أكثر تأثيرًا، وأحيانًا أكثر حرجًا في إمكانية الاستغناء عنها. وقد نطرح بعض الأمثلة على ذلك:

1- قد يُفاجأ أحد الطلّاب بأنّه يحضر عند أستاذ إسرائيلي في إحدى جامعات الدُّول الغربيّة، وقد يدفع الإنسان تكاليف ورشة عمل عبر الإنترنت ويُفاجأ عندما يحضر أنّ أحد المدرّبين إسرائيلي. كلّ هذا يدلّ على حضور الكيان الصهيوني في المحافل العلميّة في كثير من الدُّول الغربية.

2- قد يجد الإنسان في حاسوبه بعض القطع الحسّاسة التي تصنّع في الكيان الصهيوني، فيكون أمام خيارين: أن يفقد التقنيّة الحديثة أو أن يمتلكها عبر التعامل مع العدوّ.

3- قد يرى الإنسان أن حجم المساهمة الصهيونيّة في البحوث العلمية بات بأرقام كبيرة جدًّا، قياسًا بما عليه البحث العلمي في العالم العربي والإسلامي، وهي في تزايد مطّرد منذ إنشاء الكيان الصهيوني الغاصب، وقد يخيّل للإنسان أن تطوّره العلمي مرهونٌ بالتشارك مع الباحثين الصهاينة في بحوثهم والتفاعل معهم بإيجابيّة. أي أنّ الصهاينة يجعلون من أنفسهم حاجةً للتطوّر البشري على كثير من المستويات.

4- الشركات الصهيونية العملاقة باتت جزءًا من النظام الاقتصادي لكثير من الدّول الكبرى، وأصبحت الشركات التي أقامت مصانع لها على أرض فلسطين أكثر من أن تحصى… وبالتّالي، فالتطوّر الاقتصادي للدول الناشئة مرهونٌ بالانفتاح على تلك الشركات الكبرى.

5- حضور الكيان الصهيوني على المسرح السياسي العالمي، واحتضانه من دول القرار في المنظّمات الدولية، والتي بنت سياساتها الخارجيّة على محوريّة مصلحة الكيان الصهيوني في أيّ صراع يتّصل بالعرب والمسلمين، وبالتالي قد يشعر الكثيرون أنّهم محاصرونَ في سياساتهم إذا لم يقبلوا بهذا الأمر الواقع، وأن يتنازلوا عن مقاومة العدوّ في احتلاله للأرض، ومصادرته للثروات، وأنّ عليهم أن يسكتوا عن ترسانته النووية، وعن أيّ عبثٍ قد يطال دول المنطقة.

كلّ ذلك مظاهر تدلّ على حضور هذا الكيان علميًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وبالتالي يؤسّس لمستوى عالٍ من التأثير والفاعلية في مستويات عالمية متنوّعة، ويصبح فيه الكيان الصهيونيّ – نتيجة تشابك المصالح – قوة اقتصادية داعمة لاقتصاديّات الدّول، وبالتالي مدعومة من أنظمتها السياسيّة، وكذلك قوّة علمية متجذّرة في المحافل العلمية المتعددة، ومراكز الدراسات والأبحاث، ووسائل الإعلام القويّة… والعلاقات الدولية..

أمام كل ذلك، قد يُقال لنا كشعوبٍ وأفراد: أنتم تتحدّثون عن هذا الكيان وعدم شرعية وجوده، ولكنّه موجودٌ، ووجودُهُ حاضرٌ وفاعلٌ أكثر من حضوركم في المسرح العالمي، وأصبح يمثل حاجة للبشرية، وبالتالي أين أنتم؟ أنتم الذين تنادون بمقاطعة بضائعه وسياساته وشركاته ومراكز دراساته وأبحاثه وجامعاته، قد تجدون أنكم تقاطعون أنفسكم؛ لأنكم لا تستفيدون من كلّ هذه الحركة الاقتصادية العالمية، وأنتم تعزلون أنفسكم سياسيًّا؛ لأنَّ المسرح الدولي العالمي أصبحت له علاقات سياسية متشابكة ومصالح مشتركة مع الكيان الصهيوني.. لن يدعمكم أحد في أيّ مشروع تطرحونه؛ بل بالعكس ستكون المشاريع ضدكم..

وهنا يقال: إنّ مقاومة التطبيع والاحتلال، فضلًا عن سياسية إزالة إسرائيل من الوجود، هي سياسة خياليّة، والسياسة الواقعية هي الإذعان للأمر الواقع، والقبول بالكيان الصهيوني دولة يهوديّة مستقلّة لها حقّ الوجود وشرعيّته، وأن تتنافس الدّول العربية لفتح سفارات لها في هذه الدّولة “الجارة”، وأن يدخل المسلمون من باب حوار الأديان إلى حضن الكيان الصهيوني الّذي ينبغي أن يعترفوا بيهوديّته أيضًا…!

المنهج في قضيّة التطبيع

ما نرومُه من هذه السطور، هو تحديد المنهج في التعاطي مع هذه القضايا؛ لأنّ الأمر الواقع من شأنه أن يضغط على حياة الإنسان ونفسه، والّذي يجعل من مقاومته سيرًا في عكس التيّار، وهو انخراط في معاناة دائمة على كلّ المستويات، وهي معاناة مصحوبة بالكثير من الآلام، التي قد لا ترغب جماعات أو طوائف في مجتمعاتنا بتحمّلها، الأمر الذي يدخلنا في صراعات داخليّة، كالتي اختبرناها في واقعنا أثناء مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، أو لفلسطين في غزّة والضفّة الغربيّة، وكذلك في الحصار الّذي فرض على الجمهورية الإسلامية في إيران…

تحديد المنهج أمرٌ حيويّ جدًّا؛ لأنّ عدم وضوح معالمه، قد يدخلنا في متاهات في الرؤى أو في المواقف، وقد يؤثّر كلّ ذلك في مديات أوسع من الجيل الحالي، ليكون الأمر ثقافة في الأجيال الآتية من بعدنا؛ وهذا المنهج نحاول أن نرسم ملامحه في نقطتين:

الأولى: العودة إلى أصل المشكلة

عندما نريد أن نحدّد كيف سنتعاطى مع هذا الوجود الذي هو أمر واقع، ونسأل أنفسنا: هل سنعطيه الشرعية؛ لأنه أمر واقع؟ إنّ علينا العودة إلى أصل المشكلة. فما هو أصل المشكلة؟

مجموعة من اليهود الصهاينة أتوا على صهوة القتل وسفك الدم والتهجير، ضمن مخطّط عالمي يريد أن يزرع كيانًا في المنطقة يؤمّن المصالح الاستكباريّة العالمية فيها، ويمنع من بروز أي حالة نهضوية في المنطقة، إسلامية كانت أو قومية أو ما إلى ذلك، تتكئ على تاريخ وجغرافيا ومقدرات وثروات ضخمة بشريًا وماديًّا… وأفساح الأراضي لبشرٍ صُهروا وحُوّلوا إلى شعب، وأُسكِنوا أرضًا طردوا منها شعبًا هي أرض آبائه وأجداده… هي باختصار قضية احتلال.

هل تغيّر شيء في هذه المسألة؟ هل أصبحت الأرض غير محتلّة؟

ما زالت الأرض محتلّة، وما زال الشعب الفلسطيني مهجّرًا، وهو يريد العودة، ويناضل من أجل إثبات حقّه، وبعض الجيل الذي عاصر النكبة لا يزال يحتفظ بمفاتيح حديدية قديمة كرمز لهذا الحقّ. أمّا التهديد الاستراتيجي في المنطقة فهو قائم على حاله، وأمّا التجارب مع هذا العدوّ في العهود والاتّفاقيّات التي عقدتها دولٌ، فهذه الدّول ماثلة أمام العيان، في أوضاعها السياسية والاقتصادية.. وأمّا المشروع الصهيوني الكبير، فهو يرفرفُ على أراضي الاحتلال في فلسطين، وعلى مداخل سفارات الكيان في دول العالم: دولة حدودُها النّيل والفُرات…

إنّنا عندما نريد أن نحدّد الموقف وأن نعطي شرعيّة أو لا نعطيها، لا بدّ من أن نرجع إلى أصل المشكلة، لا أن نستغرق في النظر إلى الأمر الواقع!

فالأمر الواقع لا يعني سوى أنّ هذا الكيان أصبح أكثر قوّة، وأكثر نفوذًا، وأكثر حضورًا، وأكثر تأثيرًا في المسرح العالمي، وأصبح أكثر قبولًا من كثير من الأطراف الذين لم يكونوا يعلنون قبولها له.. وهذا يعني أنّ المتغيّر خاضعٌ لمنطق القوّة، وهنا نسأل: هل القوّة هي تعطي الشرعيّة، أو أن الشرعيّة لا بدّ من أن تخضع لمنظومة قيم، لها علاقة بالحرية والعزة والكرامة، ولها علاقة بحقّ تقرير المصير والاستقلال، وبإمكانية أن نستفيد من كلّ ما لدينا من أجل أن نتحوّل إلى قوة حضارية منافسة وحاضرة على المسرح العالمي؟

ثم هل هذا المنهج في فرض الأمر الواقع، يمكن أن يُكرّس في العلاقات الدولية، بحيث يُقال إنَّ الذي يملك القوّة يستطيع أن يحصل على الشّرعية في كلّ ما تصل إليه قوّته، حتّى لو كانت شطب دولٍ من الخارطة، أو نقل شعوبٍ بأكملها من طرفٍ من الأرض إلى طرفٍ آخر؟ هذه واحدة من أكثر القضايا خطورةً ضمن منظومة القيم العالمية! ولعلّنا عندما نتحدَّث عن ملء الأرض جورًا وظُلمًا، فإنّما ذلك من خلال تغيّر البنية القيميّة للنظام العالمي، هذا الأمر نشهد بعضًا من ملامحه اليوم، ويُراد لها أن تتكرّس.

إنّ المقاومة للتطبيع تتوجّه في جزء منها نحو هذه المنظومة المقلوبة التي يُراد لها أن تحكم أيّ واقع يتعارض مع المصالح الاستكباريّة لمجموعة من الدول الغنية والقويّة والمترفة، أو لمجموعة من الجماعات المتحكّمة بمفاصل السياسة العالمية؟ وبالتالي هي معركة وجود؛ لأنَّ رضوخ الإنسان لهذا النمط من التفكير والذهنية، من شأنه أن يفسح المجال لإمكانيّة واقعية لإلغاء شعوب ودول بأكملها؛ بالأمس فلسطين، واليوم لبنان وسوريا والعراق ومصر والمغرب العربي وما إلى ذلك…

هناك شعوب تناضل عشرات السنين للحصول على استقلالها التامّ والكامل، لأنّ الإنسان لا يعيش من دون كرامة وحريّة واستقلال
وبناءً عليه، إذا كان التطبيع موقفًا تفرضه منظومة القيم، فهذه المنظومة لم تتغيّر، وإنّما تغيّر واقع القوّة، وإذا كنّا سنرضخ للقوّة، وإذا كان الأمر الواقع هو الذي يحدّد الشرعيّة، فلا ينبغي قتال أيّ محتلّ؛ لأنه أيضًا أمر واقع.. وما الفرق بين الأمر الواقع القريب والبعيد؟!

هناك شعوب تبقى تناضل عشرات السنين لأجل أن تحصل على استقلالها التام والكامل، لأن الإنسان لا يعيش من دون كرامة وحرية واستقلال..

وعلى هذا الأساس، فالمطلوب على مستوى المسؤوليّة أمام زيادة القوّة لدى من لا يملك الشرعية، أن نزيد من الجهد الموازي للجهد المبذول وأكثر، فإذا كان لديه حضور اقتصاديّ، فينبغي أن نحضر اقتصاديًّا، وإذا كان لديه حضور علميّ، فينبغي أن نحضر علميًّا، وإذا كان لديه حضور سياسيّ، فينبغي أن نحضر سياسيًّا، وإذا كان لديه تفوّق عسكريّ، فينبغي أن نتفوّق عسكريًّا.. أمّا عندما يسحق الإنسان إرادته أمام الأمر الواقع، فعندئذٍ هو يحدّد للجميع كيفية التعاطي معه، وأنّ في الإمكان أن يفرض عليه من يملك القوّة ما يريد، ويكرّس بالتالي النظام العالمي المقلوب الذي أشرنا إليه.

أذكر في هذا المجال قصّة حوارٍ سمعتُهُ من الوالد، السيّد فضل الله(ره)، جمعه مع أحد رجال الدّين المسيحي، وكان الحديث عن كيان العدوّ، فقال رجل الدّين إنّ إسرائيل أمرٌ واقعٌ، فقال السيّد فضل الله(ره) له: إنّ الشيطان أيضًا أمرٌ واقعٌ، فهل نعترفُ بشرعيّته؟!

الثانية: الأدبيّات الإسلامية

التطبيع مصطلح حادث فرضته تحدّيات الواقع وتطوّرات التعبير عنه، ولكنّ القيمة التي تحكمه، بيّنتها أدبيّات إسلاميّة كثيرة، وأهمّها ما يؤصّل لمبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهو يمثّل منظومةً متكاملة لها ارتباط بمسؤوليّة الإصلاح الدّائم، وهي تطلّ على الجانب التربوي في صوغ الإنسان لشخصيّته ولمساره في الحياة، وسوف لن ندخل فيه هنا؛ لأنّه يحتاج إلى مقاربة مستقلّة، ولا سيّما أنّه قد خضع لشيء من التشويه بعدما ربطته بعض القوى المتطرّفة في الأمّة بقضيّة قهر النّاس على العبادة بالقوّة والعنف، وهو أمرٌ بعيدٌ عن ذلك.

لكنّنا قد نشير إلى شيءٍ من ذلك في الحديث المرويّ عن النبيّ(ص): “من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، أي إنكار المنكر بقلب الإنسان هو أضعفُ الإيمان، فإذا قبل الإنسان بالمنكر، فقد خرج من دائرة الإيمان، والمنكر هنا هو كلّ ما يصادم القيم الأخلاقية والشرعية والإنسانية، وبالتالي، يجب على الإنسان – من الناحية الشرعية والإيمانية – أن يقوم بكلّ ما يحفظ إنكار المنكر في قلبه. ليس له في ذلك خيار!

وفي حديثٍ آخر عنه(ص):، عندما كان بين أصحابه يومًا، فقال لهم: “كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟!”، قالوا: أيكون ذلك يا رسول الله؟ قال: “نعم، وشرٌّ من ذلك! كيفَ بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟!”، قالوا: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال: “نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا؟!”[1]. فهذا الحديث يدلّ على تنازل الموقف الإسلامي تجاه القيم، عندما يترك الإنسان نفسه للأمر الواقع الذي يفرض الاعتياد عليه، وهذا ما يصل بالإنسان إلى انقلاب المفاهيم، وبالتّالي انقلاب الأحكام؛ وهذا ما وجدناه فعلًا عندما تحوّل المقاوِم إلى عميل، والعميل إلى وطنيّ، وتحوّلت دول أصيلة في المنطقة إلى دول مارقة، والعدوّ الصهيوني أصبح يمثّل الجار والصّديق…

فالتطبيع هو واحد من أهمّ العناوين التي ينطبق عليها ذاك الحديث وهذا التوجيه، حيث إنّ أضعف الإيمان أن لا نقبل في نفوسنا بوجود هذا الإيمان؛ لأنّ القبول به هو قبول بما هو ضدّ قيمنا الإسلاميّة والإنسانية. ونحن لسنا قادرين فقط على أضعف الإيمان، بل لدينا ما نستطيعه في هذا المجال.

عندما يكون لدينا إيمان وقيم، وهذه القيم يُراد لها أن تحكم مواقفنا السياسيّة، وعلى مستوى الأمّة والوجود، فإنَّ في إمكان الأمر الواقع أن يزيح هذه القيم من مجتمعاتنا، ويصبح الأكثر حضورًا على الشّاشة وفي الجامعات والاقتصاد والسياسة، ويصبح هو في الصورة، وقيمنا تصبح في خلف الشّاشة والمشهد العام.

أمّا عندما نريد أن نحافظ على حضور هذه القيم في حياتنا، فينبغي لها أن تتحوَّل إلى سلسلة إجراءات وتطبيقات عمليّة، حتى لا يبقى الأمر مجرّد عناوين وشعارات كبرى للعزّة والكرامة والحرية والاستقلال، وفي الوقت نفسه، يدخل الإنسان إلى المتجر ليشتري سلعةً يذهب جزءٌ من أرباحها لجيش الاحتلال الإسرائيلي، أو لمحرّكاته التي يدمّر بها بيوت الفلسطينيّين!

أوّلًا: لا بدّ من أن نتحمّل مسؤوليّة مقاومة التطبيع كأفراد؛ لأنّ المسؤوليّة في الإسلام فردية، وكذلك مسؤوليّة الضمير الإنساني، والله تعالى سائلني يوم القيامة فردًا، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}[2]، فحتّى لو أنَّ العالم كلّه مارس التّطبيع مع الكيان الصهيوني واعترف بشرعيّته وتعامل معه، فإنّه يبقى عليّ كفردٍ، مسلم مؤمنٍ بالله وملتزم بأحكامه، أن أقاوم هذا التطبيع، في نفسي وفي أهلي وبيتي، ومن أنا مؤثّر في شؤونه وأوضاعه..

لا بدَّ من أن نتحمّل مسؤوليّة مقاومة التطبيع كأفراد؛ لأنّ المسؤوليّة في الإسلام فرديّة
وهنا لا بدّ من أن نعي أنّ كلّ فردٍ منّا يساهم في جعل الكيان الصهيوني أمرًا واقعًا، من خلال ما يمثّله الفرد إلى المجموع في هذا المجال، ولا بدَّ من أن لا يحوّل الفرد منّا حضور هذا الكيان إلى جزءٍ من العادات اليومية؛ ما يأكل الإنسان وما يشرب وما يلبس وما يستعمله في تنقّله؛ لأنّنا عندئذٍ سنحوّل الكيان الصهيوني إلى جيوبنا، ويصبح جزءًا من مصروفنا الشهري..

وهنا يمكن لنا أن نعود إلى التصوّرات التي يجعل فيها الإنسان شيئًا ما ضروريًّا ويربط حياته به، بينما هو في الحقيقة ليس ضروريًّا، وإنما ثقافتنا جرى عليها التبدّل والتغيّر، وهذا ما يتطلّب – في المقابل – تغييرًا في الثّقافة حتى تصبح مقاوِمَةً للتطبيع.

على المستوى الجماعيّ، هناك جهد لا بدّ من أن يُبذَل:

ثانيًا: التذكير الدّائم بأصل المشكلة، وأن نقول لهؤلاء أنتم محتلّون ولستم مواطنين، وأنّ اسم كيانكم هو الكيان الصّهيوني الغاصب، ولا يمكن أن يتحوَّل اسم فلسطين إلى إسرائيل.. العناوينُ الأصليّة لا بدَّ من أن تبقى حاضرة، في تعابيرنا، وعلى وسائل إعلامنا..

ثالثًا: الأيّام التي لها رمزيّة معيّنة، كيوم النّكبة والأرض وأيّام الانتصارات، لا بدَّ من أن لا نسمح بتفريغها من مضمونها، وتحويلها في وجدان الشعوب إلى مجرّد أيّام دبلوماسيّة، حتى إنّ كيان العدوّ يحضر في بعض المناسبات ذات الرمزيّة القومية، كما حصل مؤخّرًا في حضور رئيس كيان العدوّ ورئيس وزرائه في ذكرى ثورة يوليو/ تمّوز 67 في السفارة المصريّة الكيان! وأيًّا تكن الاختلافات حول بعض الرموز أو بعض الأوضاع، فإنّ المهمّ هنا ما تحمله هذه الأيّام من حضور في الوجدان الشعبي، وهذا أمرٌ لا يُتاح في أيّ لحظة، وإنّما يمثّل تراكمًا تاريخيًّا إذا ضُرب فقد لا يمكن استعادته مجدّدًا.

رابعًا: استمرار إنتاج عناصر الثقافة الشعبية في التعبير عن القضيّة، كالقصّة والنّشيد والرّسم والشّعر وسائر وسائل التّعبير.. وهنا نجد أنّ اغتيال ناجي العلي كان واحدًا من آليّات ضرب الوعي الشّعبي عبر رسم بسيط ينبع من همّ شعوب المنطقة وقضاياها، ويوحي لنا بأهمّية ما يمكن أن يقوم به إنسانٌ فردٌ في هذه المجالات.

خامسًا: لا بدَّ من إيصال الصوت إلى الأفراد المؤثّرين في المزاج العالمي، حيث نجد أنَّ بعض المهرجانات السينمائية في بعض الدول الغربيّة، تقرّر إهداء إحدى دوراتها لمدينة تل أبيب في الذّكرى المئويّة لإنشائها، بدعوى أنّها مدينة تجسِّد التنوّع الثقافي، فيتمّ مقاطعتها من قبل بعض المخرجين الغربيّين أنفسهم، محتجّين بأنّ إدارة المهرجان متواطئة مع آلة الإجرام الصهيونيّة.. هذا جزءٌ من مسؤوليّة العلاقات التي ينبغي أن يديرها أصحاب القضيّة في سائر أنحاء العالم، وإنّما تحدّثنا هنا عن الأفراد؛ لأنّ المؤسّسات غالبًا ما تكون مصادرةً من قبل الجهات النافذة، والتي تتحرّك سياساتها في فلك الحركة الصهيونية الداعمة للاحتلال.

سادسًا: لا بدَّ من أن تقوّي حركات المقاطعة بعضها بعضًا، وبعض هذه الحركات قد لا تتّفق معنا في عنوان الصّراع، وإنما قد تعمل على قاعدة التّفريق بين ما تصدّره مثلًا الأراضي المحتلّة العام 67 وغيرها، فتقوم بحملات مقاطعة لما يصدَّر من تلك الأراضي، وتفرض على شركاتٍ كبرى أن تنقل مصانعها إلى أماكن أخرى.. هذا يمكن البناء عليه في ضمّ قوى أخرى إلى جزءٍ من مشروع مقاومة التّطبيع، مع الإبقاء على العناصر التي تبقي أصل القضيّة حيّة في الوجدان من أجل المراحل الأخرى..

سابعًا: هناك أمورٌ قد لا نلتفت إلى خطورتها، وهي ترتبط ببعض المواقف السياسيّة في مراحل حسّاسة في الأمّة، كما جرى بين حركات المقاومة تجاه الموقف من سوريا، أو كما نجده في إقحام السّلطة الفلسطينية في بعض المواقف تجاه بعض الدّول الداعمة لقضية فلسطين، كالجمهورية الإسلامية الإيرانيّة.. إنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يدفع حركات المقاومة أو الشعوب عمومًا إلى الخلط بين أصل القضيّة التي تحتّم الوحدة في خطّ القضية، وبين الأمور التي لها مسارات علاج أخرى.. البعض اليوم – نتيجة للفتنة المذهبية – أصبح يولّد عقدة نفسيّة من المذهب الذي تتبّعه بعض الفصائل الفلسطينيّة، أو عقدة نفسية من المذهب الذي تتبّعه حركة المقاومة الإسلاميّة في لبنان.. وهذا لا يصبّ إلّا في مصلحة الكيان الصهيوني، ولذلك كان العمل على درء الفتن، وإدارة الحوار حول الاختلافات بين المسلمين جزءًا من مسار المقاومة، وبمقدار ما يكون جدّيًّا وفعّالًا، بمقدار ما يحمي مشاريع المقاومة الجهاديّة على طول المنطقة، وفي مدى الزمن الآتي وتحدّياته.

يبقى أن نشير – أخيرًا – إلى أنّه قد ثبت أنَّ الإصلاح السياسي في دولنا العربيّة والإسلاميّة، يمثّل ضرورة ملحّة لصيانة المجال الّذي تعمل فيه مشاريع المقاومة، وتكون جزءًا من عمليّة النّهوض الذي تحتاجه الأمّة؛ والله من وراء القصد.

[1] الكليني، الكافي، ج5، ص59، ح14.

[2] سورة مريم: 95.