السيد د. جعفر فضل الله

ثقافة أيّ شعب، هي جزءٌ من هويّته الجماعيّة، وهي تمثّل مجموعة الأفكار والقيم واللّغة والعادات والتقاليد والرموز والأوضاع التي يتّبعها المجتمع في التّعبير عن وجوده في الحياة، وفي إدارة علاقته بكلّ ما فيها من علاقات ومواقف وأوضاع. وعلى هذا الأساس، تتمايز الثقافات عن بعضها البعض.

ومن طبيعة الثقافة التي تطبع أي مجتمع، أنّها تتحوّل – بفعل تبنّيها الاجتماعي – إلى حالة معاشة، تُمارس تأثيرها في من يعيش في مجالها، فيتبنّاها في شكلٍ عفويّ، ويتطبّع بطابعها، وتنتقل بطريقة سلسة جيلًا بعد جيلٍ؛ كما تُمارس هذه الثقافة عادةً ضغطًا أو جذبًا اجتماعيًّا للأفراد الذين يعيشون في مجالها، فتدفعهم إلى الانسجام معها. ولذلك فإنّ انتقال الإنسان من مجتمعٍ للعيش في مجتمعٍ آخر، يجعله عرضةً لهذا القانون، فيجد نفسه يتغيّر مع الزمن، ويتطبّع بعادات ذلك المجتمع وتقاليده، ويتأثّر بأفكاره ورؤيته للحياة والأمور..

من هنا، ندخل إلى موضوعنا، وهو الدور الذي يقوم به القرآن الكريم في ضبط حركة التأثر الثقافي الذي أشرنا إليه، وأهمّية هذا الدور، إضافةً إلى مسؤوليّتنا كمسلمين تجاهه، وما يُمكن أن ينعكس عليه في طريقتنا في إدارة اختلافاتنا المذهبيّة وعصبيّاتنا في هذه الفترة الحسّاسة من تاريخنا.

تميّز الثقافة الإسلاميّة

لو درسنا المنظومة الإسلامية للقيم، سواء كانت أخلاقية أو شرعية قانونية أو عقدية، لوجدنا أنّها تمثّل ثقافة متميّزة، تتمحور حولها التفاعلات الإيجابية للثنائيّات، من قبيل المادّة والروح، والعلم والدين، والدنيا والآخرة، والالتزام والانفتاح، والفردي والاجتماعي، وما إلى ذلك… كما أنّها تزخر بالرموز التي تمثّل تراثها الكبير، من أنبياء وأولياء صالحين، والتي تؤمّن استعادتها استمرار ثقافة الأنبياء الذين عاشوا التوحيد الصادق لله عزّ وجلّ، وتحرّكوا ليُصلحوا في حياة الناس، كلٌّ من موقعه، وبحسب التحدّيات التي كانت تواجههم مع أقوامهم، وقد قال تعالى عنهم: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[1]، إضافةً إلى رمزيّة العديد من الأمكنة التي تعيد صهر المجتمعات الإسلاميّة في بوتقة من الوحدة الثقافية، وهذا ما يمثّله بالدرجة الأولى الحجُّ إلى بيت الله الحرام، الذي هو بيت الله العالميّ، الذي يشكّل محور اجتماع المسلمين من سائر أنحاء العالم. أضف إلى ذلك، ما تقدّمه الثقافة الإسلامية من منهج في التعاطي مع التاريخ، وكيفيّة ربطه بالحاضر، من دون أن يدفع الإنسان نحو اتخاذ موقف انفصالي عن واقعه، أو إلى موقف جامد عن ذلك التاريخ.. استعراضنا للكثير من عناصر الثقافة الإسلاميّة يحتاج إلى مجلّدات ضخمة، ولسنا بصدده هنا.

المرجعيّة الثقافية الموحّدة

ما نريد الوقوف عنده، هو المرجعيّة النظريّة الموحّدة للثقافة الإسلاميّة، والمتمثلة بالقرآن الكريم، بوصفه مرجعًا نظريًّا يحدّد التصوّرات الإسلاميّة في العقيدة والشريعة والأخلاق والرموز والمناهج والأساليب في التعامل مع مختلف شؤون الحياة. هذه المرجعيّة التي قد نستهين بدورها المحوريّ في وحدة الأمّة من جهة، كما في تحديد الإطار والحدود التي تضبط أيّ عمليّة تثاقف تفرضها الحياة واحتكاك المجتمعات ببعضها البعض.

ذلك أنّ التّثاقف هو مسألة عفويّة، تحصل من حالة الانفتاح الضروريّة على الحياة وما فيها؛ لأنّ الإنسان لا يصلح له أن يأخذ بأسباب الانغلاق على نفسه، وقد ثبت بالتجربة والوجدان، أنّ الانغلاق أحد أوجه التضخّم الذي يؤسّس للغلوّ في التصوّرات والمفاهيم، وفي تغذية نزعات الأنانيّة والإقصاء، وصولًا إلى التكفير والإلغاء، مما شهدنا كثيرًا من مظاهره في واقعنا المعاصر كما في التّاريخ. وبالتالي، لنا أن نطلق مقولةً أنّ الإنسان، وأيّ ثقافة، سواء كانت دينية أو إنسانية عامّة، لا يصلح له إلّا الانفتاح؛ لأجل سلامة نفسه وروحه واستمراريّة تدفّق العناصر الضرورية لتجدّده، هذه العناصر التي تنشأ من الاحتكاك بالاختلاف، بما يثيره ذلك الاختلاف من أسئلة وإشكاليّات تحتّم على الإنسان أن يرجع إلى مرتكزاته وقواعد إنتاجه للمعرفة، ليعمل على الإجابة عليها، وبهذا يقوّى بنيانه الفكري والثقافي، ويتجذّر أكثر في حركة المجتمعات والزمن المتغيّر بسرعة لا مثيل لها.

وإذا كنّا حُكْمًا منفتحين على الاحتكاك بالثقافات الأخرى، بفعل عوامل عديدة، فالقرآن الكريم هو الذي يجيبنا عن سؤال: كيف يمكن التحكّم بمستوى التأثّر ونوعيّته؟ هذا التأثّر الذي هو واقع لا محالة، باستخدامنا – على سبيل المثال – الوسائل التقنية الحديثة، كالهواتف الذكية، وما تفتحه من آفاق غير محدودة للتّواصل مع كلّ فردٍ في أنحاء العالم، بحيث تحوّل التّواصل العالمي إلى جزءٍ من الحياة اليوميّة، ودخل في مفردات العادات اليوميّة، فالإنسان بات يتناول فطوره أو غداءه وهو يتصفّح هاتفه، ويتواصل مع أفراد عديدين، ويحتكّ بثقافات مجتمعات لم يسمع بها من قبل، ويختبر بالصّوت والصّورة كيف تعبر عن أفكارها، وكيف تُمارس عاداتها، وما إلى ذلك. في هذا المجال، نجد أنّ كلّ التوجيه القرآني الذي يبدأ من النظرة الوجودية للإنسان في الحياة الدنيا، وموقع الدّنيا من الآخرة، ووظيفة الإنسان في تحقيق الخلافة على الأرض، إضافةً إلى كلّ الأخلاقيّات والسموّ الرّوحي والوسائل والأدوات والأساليب التي ينبغي للإنسان المسلم أن يتسلّح بها في التعامل مع الآخر الّذي يتّفق معه، والآخر الذي يختلف معه، حتّى الأعداء الّذين يصارعونه الوجود ربّما، كلّ ذلك سيحكم طريقة تلقّينا للثقافة الأخرى، والحدود التي نضعها أمام ما يفد إلينا منها، والمعايير الّتي على أساسها يقوّم ظاهرة ما يراها، أو فكرة ما يسمعها، أو رؤية معيّنة قد تناقض ما يراه.. كلّ ذلك يجعلنا نشعر بأهمّية وجود منظومة متكاملة كتلك التي يعكسها القرآن الكريم.

ولتلمّس أهمّية هذه المرجعية الثقافية الموحّدة، أي القرآن الكريم، يمكن لنا النظر إلى انعكاسها على ثقافة المسلمين بعامّة. هؤلاء المسلمون يتنوّعون شعوبًا وقبائل وقوميّات وأعراقًا، ويختلفون في الكثير من العادات والتقاليد التي يفرضها انتماؤهم إلى هذه المجتمعات المختلفة، فكيف يُمكن لنا الإشارة إلى نوعٍ من الوحدة العالمية للمسلمين حول العالم؟

القرآن الكريم يعتبر هو المسؤول الأوّل والفعّال عن هذا النوع من الصهر، وإعادة الإنتاج الثقافي لهذه المجتمعات في بوتقة ثقافية واحدة، ولعلّ من المفيد لنا الإشارة إلى ما يمتاز به القرآن الكريم في هذا المجال، وذلك فيما يلي:

1- أنّه عابر للتنوّعات العرقية والجغرافية والقومية وما إلى ذلك من أُطر إنسانية عامة.

2- أنّه عابر للتنوّعات السياسية من أحزاب وحركات ومنظّمات ودول…

3- أنّه عابر للتنوّعات المذهبيّة في إطار الانتماء إلى الإسلام.

4- أنّه عابر للطبقيّة – بكلّ تنوّعاتها – في داخل كلّ مجتمع، بمعنى أنّه يمثل مرجعيّة ثقافيّة عابرة لانقسامات الغنى والفقر، والشرف والضعة الاجتماعية، والنخبويّة والشعبيّة…

وعلى هذا الأساس، فلا ينبغي النّظر بسطحيّة إلى الارتباط العقدي بالقرآن الكريم ككتاب يوجّه التصوّرات والأفكار الّتي تفد إلى فكر الإنسان وعقله، وتخرق مشاعره وأحاسيسه، وتوجِّه سلوكه ومواقفه، ولا ينبغي النظر بهامشيّة إلى الحثّ على تلاوته آناء اللّيل وأطراف النّهار، وربط ذلك بالصّلاة اليوميّة من جهة، وبأزمنة وأمكنة وأوضاع معيّنة؛ هذه التلاوة التي لا تعدو تكرارًا للآيات القرآنيّة على مستوى اللفظ، هي الباب الأساس الذي نلج منه إلى ما يمكن تسميته إعادة شحن الثقافة الإسلامية في وجدان كلّ مسلم.

المصلّي الذي يتلو فاتحة الكتاب في كلّ صلاة، وهي المشتملة على مجموعة من المضامين الأساسية في العقيدة والقيم والمنهج والاجتماع، هي تقود الذّهن نحو اختزان كلّ ذلك، سواء كان صاحبه عربيًّا أو فارسيًا أو تركيًّا أو إنكليزيًّا أو فرنسيًّا أو ما إلى ذلك، وسواء كان من النخبة أو من الجماهير، متقدّمًا في موقعه الاجتماعي أو متأخّرًا.

مشكلة الصّراع المذهبي والقرآن

فإذا نظرنا – مثلًا – إلى مشكلة حيّة اليوم في حياتنا كمسلمين متوزّعين إلى مذاهب متصارعة بشكل وبآخر[2]، والتي يقف التاريخ وطريقة استعادته جزءًا لا يتجزّأ من تذكية صراعها، لوجدنا أنّ القرآن الكريم يحدّد منهج التعامل في التاريخ في أمرين:

١ـ الاستفادة من التاريخ على مستوى الدرس والعبرة، أي أنّ ما يعنينا منه هو كيفيّة تجسّد القيمة الإيجابية أو السلبية في الأشخاص والمواقف والأوضاع، وهو ما أشار إليه الله تعالى بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[3].

٢ـ الفصل في عالم المسؤوليّات بين التاريخ – بكلّ رموزه – وبين الحاضر؛ فالتاريخ مسؤوليّة الذين صنعوه، وحسابهم فيه على الله، ومسؤوليّتنا أن نصنع تاريخنا بأيدينا، وذلك ما عناه الله تعالى بقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[4]..

ألسنا نجد في ذلك عنصرًا يمكن أن نحوّله بالتربية والتوجيه إلى ثقافة عامّة للمسلمين على اختلاف تنوّعاتهم المذهبيّة، فيسهل حِينَئِذٍ إيجاد أرضية لعدم تحكّم كلّ خلافات التاريخ في الواقع الذي نعيش فيه؟! أجهزة المخابرات تخلق لنا في كلّ يوم أرضية لاستعادة أحداث تاريخية لا تختلف في واقعها المعاصر إلا في الأسماء والأدوات، وإذا بنا ننساق إليها كأنّنا نعيش عمليّة محاكاة للتاريخ بأسماء جديدة وأدوات مستحدثة!

لا نريد الخوض كثيرًا في تفاصيل هذه النقطة أو تلك؛ فإنّ لكلّ واحدة منها عمقها الذي يمكن أن يُكتب فيه الكثير؛ بقدر ما نريد تأكيد ما يمكن أن يمثّله القرآن الكريم من ضابط لحركة الثقافة الإسلاميّة، بحيث تتَّجه نحوها الخصوصيّات المذهبيّة، لتخفّف من غلواء تأثير الانتماء العصبي إلى المذهب في تجسيد القيمة في مفردات التعبير عن الالتزام الدّيني.

في موازاة ذلك، أليس القرآن يمنح المسلمين المعايير التي على أساسها يختارون قيادتهم السياسية، والتي ينبغي أن تحكم بالعدل، وأن تَتَّبِع سبيل الأنبياء والأولياء، وتبتعد عن سبيل فرعون وهامان وقارون وعادٍ وثمود وقوم تبّعٍ، وما إلى ذلك ممّا قصّه القرآن علينا، لا للترويح عن نفوسنا بقصص التاريخ، وإنّما ليحدّد لنا المفاهيم الضروريّة، والمعايير الأساسيّة لما نتّبعه في حياتنا إذا كنّا نؤمن بالله واليوم الآخر؟!

التطرّف وتشويه القرآن تطبيقًا

ولعلّنا لأجل ذلك، نشعر بخطورة ترك الإشكاليّات المثارة في مواجهة النصّ القرآنيّ، من دون تفكيكها والإجابة عليها من داخل المنطق والعقل والتفكّر المنهجي والعلمي؛ لأنّ هذه الإشكاليات تؤدّي إلى تشكيك النّشء المسلم بالقرآن الكريم ككتاب مرجعيّ؛ لأنّها تحيله إلى تأليف بشريّ من شخصٍ أكثر ما يقال فيه إنّه عبقريّ يملك ذكاءً حادًّا، ألّف القرآن الّذي ينتمي إلى مجاله التاريخي، ولا مجال لتطبيقه في حياتنا اليوم، التي اندفعت أشواطًا منقطعة النّظير في التطوّر العلمي والتقني.

المشكلة الأعوص، أنّ جزءًا من ذلك تمارسه جماعات متطرّفة تعلن انتماءها إلى الإسلام، وترفع لواء إعلاء القرآن في مساحة العالم، ولكنّ فهمها المشوّه لآياته، وسطحيّتها في مقاربة مفاهيمه، وضحالتها الفكرية في تلمّس نظريّاته، تدفع المسلمين إلى الكفر بآيات الله بدلًا من الإيمان بها؛ لأنّها تظهر الإسلام والقرآن آلةً للقتل والذّبح، ووسيلةً للانغلاق والحقد والعداوة والبغضاء بين الأفراد والشّعوب، وطريقًا إلى الإلغاء والإقصاء تحت عنصر القوّة، بعيدًا من الحوار والانفتاح، والرحمة والتعاون على البرّ، وما إلى ذلك من قيم الإسلام الإنسانيّة الصّافية السّمحة… وعندما يترافق ذلك مع اتّساع رقعة الضخّ لتلك الإشكاليّات والأسئلة دفعةً واحدةً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بما لا يملك الفرد العادي أن يواجهه بأدواته المحدودة، وينصرف العلماء من رجال الدّين إلى أمورٍ هامشيّة، والانخراط في مفردات السياسة التي تنتج العصبية وتؤكّد الجهل، فهنا لن يجد الفرد أمامه سوى أن يتخفّف من ثقل القلق الذي تورثه الأسئلة الكثيرة من دون أجوبة مناسبة لروح العصر وطريقة تفكيره؛ فإمّا أن يتقوقع ليتحوّل إلى موقع الانغلاق والانطواء على الذّات ليحافظ على ما يراه من إسلامه، وإمَّا أن يتفلّت ويترك دينه إلى اتّجاهات تظهر نفسها على أنّها الممثّلة لسماحة الدّين ورحمة الإله…

ولعلّ من المفيد التأكيد هنا أنّ الإشكاليّات التي تبرزها الجماعات المتطرّفة والإجراميّة في سلوكها، هي أكثر وقعًا على الأجيال من كثير من المواعظ النظريّة والخطب الكلاميّة الرنّانة التي يلقيها الوعّاظ وخطباء الجمعة على المنابر أو في وسائل الإعلام؛ لأنّها تقرن بين الآية وتطبيقها على طريقتهم بالدّم والألم والرعب، وتقرن بين اسم النبيِّ(ص) وبين الممارسة المتوحّشة؛ وعندئذٍ سنحتاج إلى سنين طويلة، وخطط تربويّة ونفسيّة واجتماعية وسياسية طويلة الأمد، لفكّ الاقتران الذي حصل في تلك اللحظة الزمنيّة المأزومة من تاريخ أمّتنا وواقعنا.

ولا نستطيع هنا أن نغضّ النّظر عن حجم الجريمة التي ارتكبتها دولٌ تنسب نفسها إلى الإسلام، سهّلت وموّلت ومهّدت الطرق أمام هذه الفئات المأزومة لتفتك بالبلاد والعباد، وسلّطتها على آثار الحضارات وأضرحة الأولياء لتعبث بها محوًا وتدميرًا، باسم التّوحيد الذي تحوّل من قاعدة لبناء الحضارة والانفتاح على عباد الله، إلى شعارٍ لتدمير جمال الكون ونشر القبح والانغلاق في نفوس البشر!

الجدل المذهبي وضرب الثّقة بالقرآن

الطريقة التي ندير فيها جدلنا المذهبيّ، والّتي تقوم على أساس تسجيل النقاط على الخصم، وليس إدارة الفكر عبر حوارّ بنّاء للوصول إلى تقارب في وجهات النّظر، أو إلى فهمٍ مشتركٍ للآخر، أو إلى الاقتراب من الحقيقة، عبر اختبار الفكر في فكر الآخر وأسئلته التي يطرحها… هذه الطريقة تدفع كثيرًا من أفراد الجيل إلى الكفر بالقرآن، والابتعاد عن الإسلام. ما معنى أن يأتي بعضنا بأحاديث من واحدٍ من مجاميع الشّيعة الحديثيّة، عن تحريف القرآ، لمجرّد أنّه يريد تسجيل نقطة على الشيعة؟ أو يأتي بعضنا بأحاديث من مجمعٍ حديثيّ لأهل السنّة عن تحريف القرآن لمجرّد أنه يريد تسجيل نقطة على السنّة؟! غير عابئين بالشظايا التي تتفجّر في أذهان الجيل الفتيّ والشابّ، الذي يحتكُّ اليوم بألف سؤال وسؤال، ليجد أمامه هذا اللّون من المهاترات الإعلاميّة التي لا تدلّ على حسّ المسؤوليّة.. تلك المسؤوليّة التي يتعاون فيها السنّي والشيعيّ على إثبات كذب مثل تلك الأحاديث، سواء في المجاميع الحديثية السنية أو الشيعية.

إنّ المرء ليشعر بأنّه إذا لم تكن ثمّة أصابع مخابراتية مشبوهة وراء هذا اللّون من الجدل، فإنّه ينمّ عن جهلٍ مطبق، وفقدان لأدنى حسٍّ من المسؤوليّة عن الإسلام وقضايا الإيمان، فضلًا عن الغيبوبة الكارثية عمّا يعتمل في صدر الجيل المعاصر من الإشكاليات التي تُلقى إليه من كلِّ حدبٍ وصوبٍ.

ولعلّ المرء يصيبه الحزن المشوب بالصّدمة، عندما ينظر إلى أنَّ كثيرًا من أهل القرآن لم يعودوا معنيّين بدراسة الشبهات التي يطرحها الملحدون واللادينيّون تجاه القرآن ونصّه، أو آياته ومضامينه، أو إلى التاريخ الإسلامي المرتبط به، وانشغل بَعضُنَا ببعض بطريقة تعين هؤلاء وهؤلاء على قرآننا، بدلًا من أن نشعر بأنّنا لا نزال مُقصِّرين، سنّة وشيعة، في الاستفادة من هذا التنوّع في تفعيل الفكر الإسلامي حول القرآن، بما يعيد إنتاج وحدة الهويّة الإسلاميّة من خلاله.

هذه بعض أفكارٍ ربّما تحتاج إلى الكثير من التأمّل والتوسعة، وحسبنا أنْ تكون حافزًا للتفكّر في حالنا كأمّة، لعلّنا من خلال ذلك، نعيد إنتاج المنهج الذي نتعاطى فيه مع بعضنا البعض، مذاهب وجماعات، حتّى لا نخسر أثمن ما يمكن أن تملكه جماعة أو دين، وهو القرآن، الّذي يجمع بين دفّتيه كلّ ما أراد الخالق أن يقوله لعباده في هذه المرحلة من تاريخ البشريّة؛ والله من وراء القصد.

[1] سورة الأَنْعَام: 90.

[2] بمعزل عن توصيفنا لهذا الصراع، هل إنّه مذهبي أو سياسي يستغل المذهبية في تذكية حركة الصراع في الواقع…

[3] سورة يوسف: 111.

[4] سورة البقرة:134.