السيد د. جعفر فضل الله
تحلُّ ذكرى المولد النّبويّ الشّريف هذا العام، وقد غطّت العالم الإسلاميّ من أقصاه إلى أقصاه، غيومٌ سوداءُ حالكةٌ، لم تُنزِلْ سوى الشّرور والآلامِ، والمزيد من التفكّك الاجتماعي، والفقر القيمي، والتوحّش الإنساني، وهدم التاريخ والذاكرة الإسلاميّة، وتشويه كلِّ ما هو جميلٌ في هذا الإسلام الّذي بُذِلَتْ في سبيله الأرواح، واستُرخصت لأجله عذابات السنين.
المولد بطبيعته فكرةٌ للسّرور والبُشرى، ومحمّدٌ اسمٌ وذاتٌ، يحملُ كلَّ معاني السموّ الرّوحيّ والإنساني، أيًّا تكن زاوية النّظر إليه، من داخلِ الإسلام أو من داخل الأديان أو بمنظار الإنسانيّة المجرّدة. ولكنَّ الأمر في هذه الأعوام مختلفٌ؛ لأنَّ الاحتفال بذكرى المولد لن يكون له معنًى ونحن لا نحرّكُ ساكنًا أمام صورتِهِ التي تشوَّه، فإذا بمحمّد الذي بعثَهُ الله (رحمةً للعالمين)[1]، الّذي يهدّئ من روعِ تلك المرأة الّتي أخذتها هيبتُه، ويوبّخ من فجعَ طائرًا بفراخه، ويدعو لأعدائه بالهداية والمغفرة وهم يرجمونَه بالحجارة… إذا بهِ يقدَّم في صور هذه النّماذج المشوّهة اليومَ، شاهرًا سكّينَه للذّبحِ، لا يشبعُ من الدّماء، ويقتل على الشّبهة، ولا يقبل رحمة الله أن تنزل على أحدٍ من عباده!
قبل أعوامٍ، انتفض الكثيرون عاطفيًّا عندما نشرت بعضُ وسائل الإعلام الغربيَّة رسومًا كاريكاتوريّةً مسيئة إلى النبيِّ الأكرم(ص)، وسارت التّظاهرات في أنحاء العالم، وصدرت البيانات المندِّدة، وبدأت حملاتٌ حقوقيَّة لاستصدار قوانين تحترم مقدَّسات الأديان كلّها… كلُّ ذلك كان ضروريًّا، ومن يسكتْ على مثل ذلك، فإنّه لا يمثّل ذاتًا تشعر وتستحقّ الحياة.. ولكن ثمَّ ماذا؟
خفتت الأصواتُ، وغابت البيانات في أرشيف الصّحف، وأغلقت ملفّات الحقوقيّين، ولم نفكّر (هنا ننقدُ أنفسَنا) أنَّ تلك الرّسوم المسيئة هي الصورة التي كانت تعكسُها بعضُ أفعالنا التي كنّا نسكتُ عنها تحت ألف عنوان وعنوانٍ أجوف، وهي الصّورة الّتي كانت تعكسها بعض أدبيّاتنا، حينما كنّا لا ندقّق بالمنطق الذي نشكّل فيه أفكارنا، ونصوغ فيه مفاهيمنا، وننقد فيه تراثَنا لنخلّصه ممّا علق به من الشّوائب، والتصق به من عوامل الزّمن…
وإذا بنا، نعيد الكرَّة نحنُ، وبالأبعاد الثّلاثة؛ بل الأربعة والخمسة إذا كانت، ليس رسمًا، وإنّما باللّحم المقطَّع، والدّم المسفوك، والبيوت المهدَّمة، وصوَّتنا بملء حناجرنا في كلِّ وسائل التواصل، ليس مهمًّا ماذا نقول، وماذا نكتُب! المهمّ أن ننفّس عن غيظٍ مأزومٍ، وأن نعبّر عن حقدٍ دفينٍ، وعن تعصُّبٍ أعمى، وعن منطقٍ أجوف، وعن قصَر نظرٍ، وظلامِ بصيرةٍ… وكلُّ ذلك تحت اسمِ محمَّدٍ(ص)، وتحت رايةِ التّوحيد!
وإذا كان القلمُ قد جرّنا إلى استدرار بعض الأسى والحسرة على ما قدَّمت أيدينا، ولم نفكِّر يومًا في أن نتخلّص مما ورثناه من جنانٍ ذاتِ “أكُلٍ خمطٍ وأثلٍ”[2]، بل حسبنا تلك جنّة السماء، ونظمنا فيها القصائد، وصُغنا حولها السياج، ووضعنا دون التعرّض لها ألوان القداسة… فإذا بها لا تنتج (إلا نَكِدًا)[3]؛ بل هي (الزقّوم)[4] و”الضّريع”[5] و“الماء الصّديد”[6]…
ولكنّنا لن نستغرق في ذلك لنجلد ذواتنا أكثر، وإنّما لنستغفر الله بالتفكُّر فيما مضى، وأخذ العبر ممّا سلف، والعمل على الإصلاح في الآتي من الأيَّام، وهكذا سيكون لاحتفالنا بذكرى المولد معنًى، ولانتمائنا مغزًى ومضمون.
فرصة تاريخيّة
على الرّغم من كلِّ ما سبق، فإنّنا أمام لحظة تاريخيّة لإعادة تصويب اتجاهنا من جديدٍ؛ فإذا كنّا ندرك أنّ ما نجنيه اليوم إنّما هو نتاج كلِّ أزماتنا القلبيَّة والعقليَّة والجسديّة الّتي لم نشأ أن نرى أنّها سائرة نحو الجلطة أو الانفجار، فإنَّ هذا الإدراك هو أولى خطوات التَّصحيح.
إنَّ في تاريخنا الّذي عشناه الكثير من الإيجابيّات، وفيه كثيرٌ من معاني الحضارة والرّيادة الإنسانيّة، والّتي ما زلنا نتغنّى بها إلى اليوم؛ ولكنَّ فيه الكثير من العناصر السلبيَّة التي كانت تشكّل ترسّباتٍ مرَضيَّة في الأجهزة الحيويّة للأمَّة، وإنَّ السكوت عنها اليوم، أو الاكتفاء بالمعالجات الموضعيَّة، سواء كانت سياسيّة أو غيرها، لن تجدي إلّا كما تجدي حبّة دواءٍ مُسكِّنٍ للألم لمريضٍ يعاني من التهاباتٍ في بعض أعضاء الجسد، فكيفَ إذا كان المرض أشدَّ؟!
وهذه الفرصة إنّما تعكس مسؤوليَّتنا تجاه التراث الذي أخذناه كما وصلنا بكلّ حُسن الظنّ والثّقة العمياء، تحت عنوان السلف أو المشهور، مع أنَّ حُسن الظنّ لا ينفي الاشتباه والخطأ، فكيفَ ونحن نعلمُ أنّ التراثَ نفسه قد لعبت فيه أيادٍ متنوّعة الأغراض والأهداف؟!
إنّ علينا كمسلمين أن نقرأ ذلك التراث على ضوء ما تراكم لدينا من خبرات، وما أدركناه من معطياتٍ جديدة نتيجة تطوّر الاكتشافات والعلوم، وهذا يفترض الخروج من ربقة المذهبيّة التي وضعت حواجز أمام العلم وحركته الواسعة، والعمل على معالجة كلّ الإشكاليّات التي وقفت أو ألقيت بكَلِّها وكَلْكَلِها أمام العقل الإسلامي، وهي ستكون بلا شكّ عاملًا من عوامل النهوض لهذه الأمَّة.
ومن الواضح أنّه لا بدَّ لذلك من قيادة فكريّة معصومةٍ، تستطيع أن تشكّل مرجعيّة معياريّة نقيسُ عليها أفكارَنا وما وصلنا من الآخرين، وهي بين أيدينا، ولكنّها، مع الأسف، تكاد تكون معطّلةً في أكثر أوضاعنا، وهذه المرجعيَّة هي القرآن الكريم.
قيادة القرآن
القرآن ليس كتابًا للزّينة أو للتّلاوة المجوَّدة أو المرتّلة فحسب، وإنّما هو كتابُ هدايةٍ، وعندما يعكس القرآن نفسه شكاية النبيِّ(ص) لله: {وقال الرّسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجورًا}[7]، فليس المقصود بالهجران سوى ما له علاقة بالهداية، وباتّخاذه قائدًا، كما ورد عن الرّسول(ص): “من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه قاده إلى النّار”[8]؛ والسؤال الّذي نسأل به أنفسنا: أين هو القرآن في حياتنا؟ أين هو من سياساتنا؟ أين هو من قياس صلاح قياداتنا؟ أين هو من آفاق معرفتنا بالله؟ أين هو من عبر قصَصِه لحياتنا الّتي نعيشُ فيها؟ أين هو من أخلاقنا الّتي حبسناها في إطار عصبيّاتنا؛ حتّى أصبحنا أخلاقيّين مع أنفسنا وجماعاتنا، غير أخلاقيّين مع غيرنا! أليس هذا ما حدّثنا به الله عن يهودٍ قبلَنا، عندما قالوا {ليس علينا في الأمّيّين سبيل}[9]؟!
وفي مناسبة المولد النبويّ الشّريف نسأل: أين القرآنُ ممّا رسمَ به صورَة رسولِ الله(ص)؟ هل رجعنا إلى القرآن لنعرفَ من هو نبيُّنا بعيدًا عن الإسرائيليّات الروائيّة، وعن أوهام الرّواة المؤمنين، وعن خيالات القاصّين، ووضع الوضّاعين، أم أنّنا رسمنا صورةً له من أوضاعنا القلقة، فانتقينا من القرآن ما يوافقها، أو يعزّزها، وتركنا الكثير ممّا يخالفُها، حذرًا من أن نخسر امتيازاتنا عندما نقدّم للناس مقياسًا لا نقتدي به، أو خوفًا من أن نخسر أصوات شوارعنا التي أدمنّا الاستخفاف بها، حتّى سطّحنا عقولها بجهلٍ فرضناه علينا باسم القداسة والإيمان؟!
إنّنا في حاجةٍ الآنَ، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى عودةٍ إلى القرآن الكريم، في كلّ ما تحدّث به عن رسول الله(ص) بشكل مباشرٍ وغير مباشرٍ؛ لأنّه بذلك كان يقدّم لنا صورةً عنه(ص)، وعلينا أن نجمعها بالتفكّر والتّحليل؛ لنصوغَ له(ص) لوحةً قرآنيّة، تعكسُ نظرته الثّاقبة، ولسانه النّظيف، وقلبه الطّاهر، وعقله المبدع، ووجهه البشوش، وأسلوبه اللّيّن، وخفض جناحه للمؤمنين، وحسرته على أعدائه، وعفوه عن المعتذرين وإن كانوا كاذبين، وتجاوزه عن المسيء، وشفقته على الملهوف، وحنوّه على الأيتام والمساكين، واحتضانه للمتعبين…
إنّ صورة النبيِّ محمّد(ص) في القرآن الكريم هي صورة (المبشّر والنّذير)[10]، لا صورة المنفّر الّذي يركّز على عذابِ الله بعيدًا عن الأمل برحمته وجنّته ورضوانه ومغفرته، وهو الّذي ليس (عليهم بجبّار)[11]، وليس على النّاس (بمسيطر)[12]، وهو الّذي لا يُغرقُ الناس في المثُل العليا نظريًّا، وإنّما يعلّمهم النظريّة ويعلّمهم كيف يضعون الأشياء في مواضعها، وكيف يمتلكون منهج تطبيق الإسلام في حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة والسياسيّة وغيرها، وهو الّذي يزكّي النّاس في أخلاقهم واتّجاهاتهم الروحيّة، وهو الرّقيق في قلبه، (أذنُ خيرٍ)[13] للمؤمنين، يتحسَّس هموم الناس ويتفهّمها؛ لأنّه منهم، يعيشُ بينهم، ولا يتربّع في أبراجٍ عاجيّة تبتعد به عن أوضاعهم، عزيزٌ عليه ما يشقُّ على النّاس[14]، حريصٌ عليهم حرصَ الأب والأمّ على أولادهما بكلّ الرأفة والرحمة، وغير ذلك من المواصفات الّتي لا بدَّ من أن تكون برامج عملٍ لنا، كمسلمين وقادة ودعاةٍ إلى الله..
وهذا ما يفرض علينا أن ننزلَ كلَّ صفةٍ من صفاتِهِ إلى حياتنا، لنرى كيف تتجلّى في علاقات أفراد العائلة فيما بينهم، وفي الإنسان مع جيرانه، وفي المجتمع والأمَّة، وكيف تتحرّك تلك المفردات لتحكم حركة الحزب والتّنظيم، ولتحكم القيادة في تعاملها مع القاعدة، والدّولة في قوانينها، وما إلى ذلك، بحيث يحسُّ الإنسان في هذا العصر بأنَّ سيرة النبيِّ(ص) توجّه أموره، وتحدِّد مساراته، وتغذّي طموحاته، ويمكن أن تنطبق على مفرداته الّتي تتحرّك معه، وعلى الوسائل الّتي يحرّكها في سبيل تجسيد قيم الإسلام في حركته. وهذا شيءٌ من تعليم الحكمة؛ لأنّنا إذا اكتفينا بالسّيرة من دون أن نعرف كيف تنطبق السّيرة – في قيمها – على واقعنا، فلن يكون لنا سوى المعرفة المثاليّة، أو التطبيقيّة على مفردات عصر النبيِّ(ص)، دون عصرنا الذي نحن مسؤولون عن إسلامنا فيه، بما يُفقدنا المعنى الحقيقيّ للأسوة الحسنة الّتي أرشدنا الله إليها في سلوك النبيِّ(ص).
نقطة منهجيَّة
وقد ينبغي لنا التنبيه على نقطة منهجيَّة هنا، وهي أنّنا إذا كنّا نرفض أن يُرسَم للنبيِّ(ص) شخصيّة عنفيّة، والّتي يتمّ تأكيدها بملاحظة آيات الحرب والقتال والقتل في القرآن الكريم؛ فإنَّنا لا نريد أن نجعلها شخصيَّة مسالمةً على طول الخطّ، وذلك عبر الاستغراق في آيات السِّلم والسَّلام، كما يصنعُ بعضُ الّذين يُريدون من المسلمين أن يصالحوا العدوّ الصّهيوني الّذي يحتلُّ الأرض ويهتك العِرض ويسفك الدّم ويصادر المستقبل، باسم السّلام الّذي دعا إليه رسول الله(ص)! ولكنَّ ما هو المطلوب، أن ندرس التّطبيق العمليّ للنبيّ(ص)، لنجد أنّه حارب وسالم، وأنّه أخذ بأسباب القتال والعنف، وكذلك بالرّفق واللّين، وأن نقرأ آياتِ القرآن الّتي تدعو إلى القتال والسّلام واللّين والأخلاق والدّفع بالّتي هي أحسنُ وما إلى ذلك، ثمّ نتفكَّر في كلّ ذلك، لنخلص إلى النظريّة الإسلاميّة الّتي تحدّد إطار الحرب والعنف، وإطار السّلم والسّلام، وقواعد كلّ ذلك؛ لندرك – مثلًا – أنَّ الإسلام لا يبادر بالحرب، ولكنّها عندما تفرض عليه، فإنّه يدخلها بقوّة ولا يكون ساذجًا، وعندما يدخل فيها، يدخل محمَّلًا بالقيم الأخلاقيَّة، وبروحيَّة الطبيب الجرّاح الذي يهمّه استئصال المرض أو إعادة التّوازن، ولذلك نجد تعاليم بعدم الإجهاز على أسير أو جريح أو قطع الشّجر أو تسميم المياه وغير ذلك.
وبالتالي، لا يُمكن لنا أن نقبل صورة المسلم الّذي يعتبر أنَّ الأصل هو الحرب في الإسلام، وأنَّ الأسلوب الوحيد لحلّ الخلاف والاختلاف هو القتل والإبادة والتّدمير وما إلى ذلك، وهذا ما يحيلُنا إلى أن نتوقَّف قليلًا عن معنى القدوة والأسوة الحسنة، وعلى أيِّ قاعدةٍ ينبغي أن تتحرّك.
ميزان القدوة
إذا كان الأمر الإلهيّ لنا أنْ نقتدي برسول الله(ص)، وذلك قولُهُ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[15]، فإنَّ بعض ما مارسه النبيُّ(ص) هو سنَّة ينبغي اتّباعها في كلّ زمانٍ ومكانٍ، ولكنَّ البعضَ الآخر قد يكون مختصًّا به، وبعضٌ ثالثٌ مرتبطٌ بطبيعة العصر الّذي عاش فيه.
وكمثالٍ على ذلك: ورد عن رسول الله(ص): “حفّوا الشّوارب واعفوا عن اللّحى ولا تشبّهوا بالمجوس”[16]، وورد: “غيِّروا الشّيب ولا تشبّهوا باليهود”[17]. أو أنَّ رسول الله(ص) كان يحبّ أكل اللّحم من قسمٍ معيَّن من الذّبيحة، أو أنّه كان ينام على جانب دون آخر، أو كان يحبّ أكل فاكهةٍ معيّنةٍ، أو يحبّ عطرًا معيّنًا أو غير ذلك.
يُمكن لنا أن نعتبر مثلًا أنَّ السنّة هي إحفاء الشّارب وإعفاء اللّحى، أو الخضاب للشّعر، وكذلك الأمور الأخرى، في أيِّ ظرفٍ وفي امتدادِ الزمن، وبذلك فإنّ الذي يريد التعبير عن التزامه بالسُّنّة، أن يقومَ بإحفاء الشوارب وإعفاء اللّحى، أو الخضاب أو ما إلى ذلك. أمّا إذا فهمنا الأمر ضمن قاعدته، كما قال الإمام عليّ(ع): “إنّما قال رسول الله(ص) ذلك والدِّينُ قُلٌّ؛ أمّا وقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه، فامرؤٌ وما اختارَ”[18]، فإنّ الموضوع سيختلف، وسيكونُ ذاك الفعل مرتبطًا بطبيعة الظروف التي أوجبته، وليس الأمر به مطلقًا لكلّ ظرفٍ وزمانٍ.
إذًا هناك نمطانِ من الاقتداء:
1) القدوة في الشّكل الجامد للسّلوك، بحيث يتمّ التأسّي بالنبيّ(ص) في طريقة عيشه ووسائلها ولباسه ومأكله ومشربه…، من دون فهم القاعدة النظريّة أو القيمة الّتي يجسّدها هذا السلوك. وهذا النّمط أو المنهج يُمكن أن يجعل الإسلام عبارةً عن سلوكيّات جامدة على امتداد الزّمن من جهة، كما من شأنه أن يعزل المسلمين عن مواكبة الحياة وتطوّرها؛ لأنَّ ذلك يؤسِّس (ينطلق أو يرتكز إلى) لفهم سطحيّ لكثيرٍ من الظواهر، ولا سيَّما تلك المرتبطة بالعلاقة مع الآخر.
2) القدوة في السّلوك من خلال فهم قواعده، وذلك عبر إرجاعه إلى مرجعيَّته الفكريّة والشرعيّة، ولا سيَّما القرآن الكريم…
إنَّ النّمط أو المنهج الثاني هو الّذي يؤسّس لعنصر القدوة الحقيقيّة، ويمهّد الطريق لانخراط صحيح للإنسان في الحياة المتطوّرة والمتغيّرة، وذلك عبر محافظته على منظومة القيم في مفردات حياته، بما يجعله يساهم بفعالية في تطوير الحياة ومجالات الإبداع وتحقيق الطموحات والارتقاء في سلّم المواقع.
هذه بعضُ الأفكار السّريعة الّتي تحاول أن تثير شيئًا من الفكر في أمر الإسلام الّذي نكاد نخسره في كلّ هذه الفوضى الّتي تعصفُ بالفكر والقيم والأخلاق… والواقع، وحتّى تكون حافزًا لتفكير مختلفٍ، لأجلِ أن يولدَ رسولُ الله(ص) من جديدٍ فينا، في الملامح التي تشبهه(ص) وتمثّل شيئًا من صورتِهِ الحقيقيّة، فلنعمل على أن نتشبَّهَ بها؛ لنكون الّذين يولدون بمولده، لا الذين يحتفلون به ويلهجون بذكره والصّلاة عليه، وهم عنه بعيدون؛ والله من وراء القصد.
من مجلّة الوحدة الإسلاميّة
[1] سورة الأنبياء: 107.
[2] سورة سبأ: 16.
[3] سورة الأعراف: 58.
[4] سورة الصافات: 62.
[5] سورة الغاشية: 6.
[6] سورة إبراهيم: 16، وقد ورد في ما يُسقاه أهلُ النار.
[7] سورة الفرقان: 30.
[8] المتقي الهندي، كنز العمال: 4027.
[9] سورة آل عمران: 57.
[10] سورة الإسراء: 105.
[11] سورة ق: 45.
[12] سورة الغاشية، 22.
[13] سورة التوبة: 61.
[14] سورة التوبة: 128، وهو قوله تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
[15] سورة الأحزاب، الآية 21.
[16] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص291.
[17] نهج البلاغة، ج4، ص5.
[18] المصدر نفسه.