السيد د. جعفر فضل الله
أفرز الحراك الشّعبيّ في البلاد العربيّة أكثر من ظاهرة ينبغي أن ندرسها بعمق، مع إدراكنا لصعوبة الأمر في ظلّ التّسارع في المواقف والكلمات وعناصر الإثارة الّتي باتت خبز بعض وسائل الإعلام وملحها اليوميّين، وكذلك الكتابات والبيانات وما إلى ذلك.
الإسلاميّون والمشهد السياسيّ
ولعلّ من أبرز تلك الظواهر، صعود نجم الإسلاميّين، وتصدُّرُهم واجهة المشهد السياسيّ في أكثر من بلدٍ عربيّ، بعد سنواتٍ من الانكفاء نتيجة ظروف قسريَّة أو غيرها؛ وإن كان هذا النّجم غير حديث السّطوع، إذا أخذنا أفغانستان وإيران وباكستان ولبنان وفلسطين والسّودان نماذج في هذا المجال؛ ولكنّ ما لم يكن موجوداً، هو هذا الانفتاح للمشهد السياسيّ على كثير من المتغيّرات والتحدّيات في آنٍ، بما فتح أكثر من إشكاليّة، سواء على مستوى الدولة وشكلها وموقع الإسلام منها، وظهور التباينات في القواعد العمليّة للحركات الإسلاميّة إلى حدود التّناقض، بين رؤية إسلاميّة تدعو إلى مدنيّة الدولة، ورؤية أخرى تأخذ بمنهج التكفير والإقصاء، كلّ ذلك في ظلّ بروز المشكلة المذهبيّة في حِدّة منقطعة النّظير تاريخيّاً على مستوى الامتداد والوسائل واحتمالات التداعيات…
ونؤكّد دراسة الأمور بعمق؛ لأنّ المطلوب:
أوّلاً: ضرورة فهم أعمق للظّواهر والجماعات الإسلاميّة، الّتي برزت كلاعب رئيس في المشهد السياسيّ وقيادة المجتمع؛ لأنّ لكلّ جماعة مميّزاتها المختلفة في الخلفيّة الفكرية وأساليب الحركة، ما يعني ـ ببساطة أمام الاختلافات الواقعيّة بين الحركات الإسلاميّة ـ أنّه من غير الصّحيح التعامل معها جميعاً بالأسلوب نفسه، أو من خلال الخلفية الثقافيّة والفكريّة نفسها التي تنطلق منها هذه الحركة أو تلك ممّا لا ينسجم بالضّرورة مع ما تنطلق به الحركات الأخرى.
ثانياً: انطلاقاً من الفهم العميق لكلِّ جماعة أو حركة إسلاميّة، فإنَّ هذا ينبغي أن يؤدّي إلى فهمٍ أعمق لمجالات المعالجة لأيِّ مشكلةٍ قد تظهر جرّاء تصارع القوى وتنافر الخطابات الّتي تنشأ في واقع مذهبيّ محموم بدأت إرهاصاته منذ عام 2005م. وهذه النّقطة مهمّة وحسّاسة في آنٍ معاً، عندما يتّصل الأمر بعلاقة بين الحركات الإسلاميّة الّتي تتحكّم بمزاج أغلب الشّارع العربي والإسلامي.
العنوان الإسلاميّ الجامع
وتنبع أهميّة المطلَب الثاني وحساسيّته من ضرورة المحافظة على العنوان الإسلاميّ الجامع، والّذي يمثّل خلفيّة الحركات الإسلاميّة، مهما كانت القراءات له ولتجليّاته مختلفة، بل ومتباينة، في ظلّ تباين واضح، بل وصراعٍ تكفيريّ دمويّ أحياناً على أرض الواقع. والسؤال المركزيّ هنا هو: كيف يُمكن التوفيق بين مراعاة البُعد الإسلاميّ في إدارة العلاقة أو الصّراع، وبين ما يفرضه الصّراع العمليّ بين الأفكار والرّؤى وأساليب المعالجة على أرض الواقع؟
والسّؤال/المشكلة هنا، لا يتّصل فقط بالصّراع النّخبويّ الّذي قد يعرف عمق الأمور وخلفيّاتها فيما يتَّصل بقواعد الحركة السياسيّة، ولكنَّه يتّصل، من جهة، بالجماهير التي قد تلتبس عليها العناوين وتختلط عليها الأمور، فيما هي العناوين الإسلاميّة النظريّة والتّطبيق العملي على أرض الواقع، ما يسمح ـ بالتّالي ـ باللّعب على عواطف النّاس ومشاعرهم، من قبل أكثر من جهة، داخليّة وخارجيّة، لتأجيج عناصر الإثارة المذهبيّة، مذكّيةً بذلك عناصر الاختلاف على عناصر اللّقاء. ويتّصل، من جهة أخرى، بالمدى الاستراتيجي لعمليّة صون الإسلام أمام التحدّيات التي تعصف به، ولاسيّما أنّنا في مواجهة حرب عالميّة ضدّ الإسلام، وجهُها المُعلن فقط هو الحرب العسكريّة والأمنيّة، وربّما الاقتصاديّة، والأخطر هي الحروب الثقافيّة والنفسيّة والاجتماعيّة، ممّا بات مُشرّع الأبواب حتّى على مستوى التّفاصيل المذهبيّة الصغيرة!.
وهنا لا بدّ من وعي أنّ إسلاميّة أيّ حركةٍ لا تتحدّد فقط في الخطوط النظريّة الإسلاميّة؛ فعند هذا المستوى، سنجد أنّه ليس من داعٍ أصلاً لتعدّد أطر الحركة، فضلاً عن تصارعها وتنافرها؛ لأنَّ القواعد النظريّة، والأسس الإسلاميّة لها، واضحةٌ لدى الجميع، وكلّ الحركات الإسلاميّة تضمّنها بياناتها التأسيسيّة؛ فكلّها ترفض الرّكون إلى الظّالمين، وتعمل على مقاومة الاحتلال، وإعزاز الإسلام، وحماية الأمّة الإسلاميّة ومقدّراتها، وما إلى ذلك، حتَّى أنّنا لو قمنا بدراسة دقيقة للدّوافع الكامنة وراء حركات الصّراع وسفك الدّم بين الحركات الإسلاميّة أنفسها، حتّى في أشدّ حالات الدمويّة المذهبيّة، قتلاً وتفجيراً، لكان احتمال الإخلاص والنيّة الصّادقة في الدفاع عن الإسلام وارداً بقوّة، ولما كان نفي هذه الفرضيّة صحيحاً من النّاحية العلميّة في دراسة الأمور؛ فما ينبغي أن نتوجّه إليه، هو تجسيد تلك القواعد الإسلاميّة النّظريّة على أرض الواقع لدى كلّ حركة إسلاميّة في مواقفها وأساليبها وحركتها العمليَّة.
وقد يكون بالإمكان هنا أن نتوقّف عند عدّة أمورٍ نحسب أنّها تمثّل قضايا حيويّة في المرحلة الرّاهنة، لا بدّ للحركة الإسلاميّة، مهما كان مذهبها وجغرافيّتها، أن تأخذها بعين الاعتبار:
تعتمد القوى المتسلّطة سياسة “التّسطيح” الثقافيّ الّذي يُبقي الشّعوب تحت نير النعرات الفئويّة، والإثارات التقسيميّة الّتي تعزّز عصب الخصوصيّة عبر التوحّد ضدّ “العدوّ” المفترض…
التّعرّف إلى الآخر
أوّلاً: ثمّة جهل بالآخر، عفويّ ومتعمّد؛ لأنّ الغالب أنّنا متديّنون ـ من الناحية الثقافيّة ـ من خلال ما نتوارثه كجماعات دينيّة ومذهبيّة، ومن جملة ذلك، ما تحمله كلّ طائفة أو مذهبٍ أو جماعة من صورةٍ عن الطائفة الأخرى أو المذهب الآخر وما إلى ذلك، ولا يملك الواحد منّا التخصّص أو الوقت الكافي للتّدقيق فيما ورثه عن مذهبه أو جماعته، فضلاً عن التّدقيق فيما ينسب إلى الآخرين؛ ولذلك، “يرتّب” كلّ واحدٍ منّا أموره من خلال هذا الموروث، وينشدُّ غالباً إلى ما يؤكّد النظرات السلبيّة عن الآخر، ولا سيّما عندما يكون جزءٌ من البناء الثقافي أو العقيدي لدى أيّ جماعة أو مذهب أو طائفة، هو الضدّية مع الآخر في كلّ ذلك؛ وهذا واضحٌ في مراجعة بسيطة لمواضيع علم الكلام وحركته الاستدلاليَّة. هذا هو الجهل العفويّ.
أمّا الجهل المتعمّد، فهو ما تلعبه سياسة التّجهيل بالآخر، التي تمارسها غالباً القوى المتسلّطة، ولا سيّما في تاريخ الأنظمة التسلّطية التي لا ترتاح إلى ارتفاع أيّ مستوى للوعي في الأمّة أو المجتمع، ولذلك تعتمد سياسة “التسطيح” الثقافي الّذي يُبقي الشعوب تحت نير النعرات الفئويّة، والإثارات التقسيميّة الّتي تعزّز عصب الخصوصيّة عبر التوحّد ضدّ “العدوّ” المفترض؛ لأنّ ذلك أسهل ـ عادةً ـ من الانغماس في تعزيز عناصر القوّة الذاتيّة القائمة على الفكر الأصيل والمتين في تشكّل الوعي الثقافيّ العام للجماعة الطائفيّة أو المذهبيّة أو ما إلى ذلك.
والأشدّ خطورةً اليوم، أنّه قد جرى ضخّ كلّ “الداتا” (المعطيات المكتوبة خصوصاً) المتعلّقة بتاريخ كبير من الصّراع المذهبيّ، بكلّ ما فيه ممّا يُلتزم به وما لا يُلتزم به، وما لا يقبل النّقاش عادةً وما يستدعيه، وما كان مبرّراً في ظرفه التّاريخيّ المؤثّر في عمليّة التفكير، وما ليس مبرّراً، وما إلى ذلك ممّا لا يستوعبه المفكّرون والمثقّفون في طبيعة انشغالهم النّقديّ، فكيفَ بعقول النّاس البسطاء الّذين بالكاد يضبطون عقيدتهم الأوّلية، والأحكام المتعلّقة بعباداتهم اليوميّة، فكيف بالقدرة على فرز ذلك الرّكام الهائل؟!.
ولذلك، فإنّ الأسهل أمام المسلمين جميعاً، هو التعرّف إلى الآخر المعاصِر، من خلال ما يلتزمه من فكر ومفاهيم وعقائد، لا التعرّف إليه من خلال ما أنتجه سلفٌ قد يناقشهم ولا يلتزم كلّ ما أنتجوه. ويحضُرني في هذا المجال مقولةٌ للمرجع الرّاحل السيّد محمد حسين فضل الله(ره)، الّذي كان يؤكّد أنّ من غير الصّحيح إدارة الحوار بين أتباع المذاهب الإسلاميّة عن طريق التّراشُق بنتاج التّاريخ لدى هذا المذهب أو ذاك؛ لأنّ الفكر يتطوّر، والظّروف التاريخيّة الضّاغطة على الفكر المُنتِج والمُنتَج تختلف؛ فالأجدى هو الانشغال بالتعرّف إلى الآخر الّذي نعيش معه، لا الآخر الّذي عاش وأنتج ورحل عن الدّنيا متحمّلاً مسؤوليّة ما أنتج أمام الله، وأمام التّاريخ الّذي قد يحمل مبضع نقده للأفكار الّتي لا تحمل في ذاتها أيّ قداسةٍ بعيداً عن الأدلّة والبراهين، على هدى قول الله تعالى: ?قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ?[البقرة: 111]. وليس معنى ذلك أن نقطع مع التّاريخ كلّياً، بل معناه أن نقرأ التّاريخ قراءةً نقديّة، وأن نستعيد منه ما يمثّل قناعاتنا والنّفع لنا في حاضرنا بكلّ تداعياته وتحدّياته المعاصرة.
إنّ الأسهل أمام المسلمين جميعاً، هو التعرّف إلى الآخر المعاصِر، من خلال ما يلتزمه من فكرٍ ومفاهيم وعقائد، لا التعرّف إليه من خلال ما أنتجه سلفٌ قد يناقشهم ولا يلتزم كلّ ما أنتجوه…
تجنّب المحمّلات الموروثة
ثانياً: كلُّ ما تقدَّم يتطلَّب تنظيم الحوارات واللّقاءات للتعرّف إلى الآخر المذهبيّ عن قرب، ومن دون محمَّلاتٍ ثقافيّة موروثةٍ قد تجانب الواقع المعاصر، على مستوى القيادات والجماهير؛ لأنّ الهدف إذا كان تصحيح الصّورة عن الآخر، فإنّ ذلك لا ينبغي أن يقتصر على القيادات الفكريّة والثقافيّة، فضلاً عن القيادات السياسيّة، بل لا بدَّ من أن ينزل إلى القاعدة في خطاب الدّعاة للجماهير، الّذين يمثّلون الحلقة الوسطى الّتي يقع على عاتقها جلّ المسؤوليّة في هذا المجال.
وأظنّ أنّ الجامعيّين من مختلف المذاهب الّذين يجتمعون على مقاعد الدّراسة، يُمكن أن يلعبوا دوراً مهمّاً من خلال الذهنيّة العلميّة الّتي يتربّون عليها، بشرط أن يستثمروا خبراتهم العلميّة في حواراتهم المذهبيّة، بعيداً عن الاصطفافات السياسية والإثارات الغرائزيّة.
مخاطر الاستغراق المذهبيّ
ثالثاً: ممّا لا شكّ فيه أنّ شعور الإسلاميّين بالغبن، أو بالقهر، في أكثر من بلدٍ عربيّ، جرّاء السلطات القمعيّة، سواء أكانوا من السنّة أم من الشّيعة، لا ينبغي أن يدفع إلى الاستغراق في الخصوصيّة المذهبيّة لكلّ فريق، بحيث ينطلق أيّ تحرّك متاح، سواء كان استلام سلطة أو حركة معارضة أو ما إلى ذلك، محمَّلاً بالنّقمة على كلّ الواقع القائم، من خلال الخصوصيّة المذهبيّة لمن يعتبرهم السّبب في قهره أو غبنه التاريخيّ، ممّا قد نجد فيه أنّه قد أصبح بالإمكان:
1- أن يُبرّر هذا الفريق لنفسه أو ذاك أن يتحرَّك القتل المذهبي من قبل جماعات تكفيريّة بحجّة أنّه يطال أتباع المذهب الآخر، ولا يُمكن للإنسان أن يسجّل موقفاً اعتراضيّاً على المتسمّين باسم مذهبه في ظلّ أتون الحمّى المذهبيَّة! وهنا ضياع الحقّ والعدل حتَّى فيما خصّ انسجام الإنسان والحركة مع القيم الّتي يناديان بها.
2- أن يتساهل هذا الفريق أو ذاك في تمرير بعض خطوط السياسة الدوليّة أو الإقليميّة اللاعبة دوماً على الوتر المذهبيّ، إذا ما رأى أنَّ ذلك يخدم الإسلام الّذي يراه في مذهبه دون الآخرين، أو في حزبه دون الأحزاب الأخرى، على قاعدة أنّ “الغاية تبرّر الوسيلة”.
3- أن تسمح هذه الحركة أو تلك، بعقد صفقات سياسيّة سلطويّة ارتكازاً على اعتبارات مذهبيّة تضعها في مواجهة حركات إسلاميّة أخرى تختلف معها في المذهب، من دون أن تكون تلك الحركات المختلفة ـ في العمق ـ مناقضةً لها في حركتها الإسلاميّة السياسيّة، ولا سيّما تجاه القضايا الكُبرى.
نحن لا نريد أن نكون مثاليّين في حركة السياسة الإسلاميَّة؛ لأنّ الواقع متحرّك، وظروفه تختلف من واقعٍ إلى آخر، كما أنّ أدوات التّغيير ليست دائماً بمتناول اليد، كما أنّ حركة السياسات الدّوليّة قد تفرض حالةً من التّزاحم بين المهمّ والأهمّ، وما إلى ذلك ممّا تفرضه الواقعيّة السياسيّة.
ولكن، مع التّأكيد أنّ السياسة الإسلاميّة ليست مثاليّة، إلا أنّ واقعيّتها ينبغي أن تخضع لميزان دقيق في تحديد الأولويّات المستندة إلى قاعدة الكتاب والسنّة، والتمايز بين خطوط التكتيك وخطوط الاستراتيجيا، وبين المحافظة على الإسلام والمحافظة على عصبيّة المذهب، وما إلى ذلك ممّا تتشابك فيه الخطوط الواقعيّة، والمواقف والخطابات، كما أنّ التأسيس النّظريّ لحركيّة السياسة الإسلاميّة، ينبغي أن يطال ذلك كلّه، وأن ينزل ذلك إلى ثقافة القاعدة والجماهير، لتكون على وعيٍ في المنطلقات الّتي تُبقي للحركة إسلاميّتها، وتفهم حدود الموقف الظّرفيّ، حتّى لا تختلّ لديها الموازين الشّرعيّة، ولا تتشوّه عندها المفاهيم الإسلاميَّة، وحتّى تحافظ القواعد والجماهير ـ بالتّالي ـ على موقعيّتها في تصويب مسار القيادة لو انحرفت عن الخطّ في نظرها.
الحوار الثّقافيّ مع الآخر
رابعاً: لا بدَّ من التّمييز الدّائم في نظرة الحركات الإسلاميّة بعضها إلى بعض، بين البُعد الفكريّ والعقيديّ، والبُعد العمليّ والحركيّ؛ لأنّ الخلط بين الأمرين قد يفوّت الفرصة للاستفادة من حركة التنوّع بين الحركات الإسلاميَّة، مهما تطرّف بعضُها في الخطاب أو في الحركة أو في الإلغائيَّة والتَّكفير؛ لأنّ الخطأ في القواعد الفكريَّة لدى الحركات الّتي يُصطلح عليها بالمتطرّفة، والانحراف في الأساليب نتيجةً لذلك، لا يعني انعدام الإخلاص في النّوايا بطبيعة الحال، خصوصاً لدى النّاس العاديّين، ما يعني ضرورة توخّي الدقّة في الخطاب، بل وفي انتقاء المفردات، وفي أساليب المعالجة، عندما يحتدم الصّراع المذهبي، عبر الخطاب الدّينيّ أو الإعلاميّ أو السياسيّ أو ما إلى ذلك؛ لأنّ هذه الفئات الّتي تفتقد آليّات الانفتاح على الآخر، تفتقد ـ سلفاً ـ آليّات الانفتاح الفكريّ، ما يدفعها عادةً إلى قراءة أحاديّة لكلّ ما يجري على أرض الواقع من قِبَل الآخر، فضلاً عن نهائيّة الصّور الموروثة عن ذلك الآخر؛ لأنَّ هذه الفئات هي الأكثر عرضةً للاستغلال من أجهزة القوى السياسيّة المتصارعة، عن طريق اللّعب على شفافيّة النّوايا، بعيداً عن عمق الخبرة والتّجربة الحياتيّة الّتي تسمح بتعدّد القراءات.
إنّ الحوار مع القوى السّلفيّة، حتّى التكفيريّة منها، أمرٌ مفروغٌ منه على المستوى الثّقافيّ، بهدف التَّخفيف من حدَّة الجهل بالآخر الّذي يدفع نحو التَّكفير…
هذا كلّه يعني، وخصوصاً بملاحظة القواعد الشّعبيّة، أنّ الحوار مع القوى السلفيّة، حتّى التكفيريّة منها، أمرٌ مفروغٌ منه على المستوى الثّقافيّ، بهدف التّخفيف من حدّة الجهل بالآخر الّذي يدفع نحو التّكفير؛ وعلى المستوى السياسيّ، في محاولة توجيه جهود الحركات الإسلاميّة جمعاء نحو العدوّ الاستراتيجي للأمّة، وتأكيد القضايا الكُبرى الأساسيّة، وفي مقدّمها فلسطين، وتأجيل كلّ ما يمكن تأجيله ضمن برنامج الأولويّات الّتي تتحدّد وفق حجم الخطر الدّاهم على الجميع.
كما يعني ضرورة انضباط الخطاب السياسيّ للحركات الإسلاميّة ضمن الأدبيّات الإسلاميّة الّتي تسمح للآخر بأن يختبر الموقف الإسلاميّ على ضوء منطلقاته الإسلاميّة، بما قد يؤسِّس لفهم أعمق للدوافع في عالمٍ شديد التغيّر والحساسيّة. وهذا يعني ضرورة أن يرافق الخطاب السياسيّ خطابٌ ثقافيّ تنظيريّ، يحدّد القواعد النّظريّة للحركة السياسيّة، حتّى وهي تأخذ بفقه الضّرورات، أو ما يُعرف بالعناوين الثانويّة الّتي تبيح ارتكاب المحظور، أو ترك الواجب، ضمن تراتبيَّة الأولويّات الّتي ينبغي أن تتحرّك بوصلتها في اتّجاه حماية الإسلام.
ويبدو من نافل القول هنا، ضرورة أن تترافق الحركة السياسيَّة لأيِّ تيّارٍ أو حزبٍ أو حركةٍ إسلاميَّة مع خطابٍ تنظيريّ، تثقيفيّ، يأخذ بعين الاعتبار القاعدة الإسلاميّة للحركة؛ وهو المنهج الّذي اتّبعه القرآن الكريم في توجيه المسلمين، من أجل إعطاء الموقف قاعدته الشّرعيّة، أو نظريّته الفكريّة، وكذلك كان يفعل النبيّ(ص). وهو ما نلمحه في طريقة الإمام عليّ(ع) في تثقيف الجماهير بالقاعدة لكي لا تضلّ أمام ضغط الواقع، فنجده يحدّد قاعدته للمعارضة بقوله: “لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّة”، وقاعدته في الحرب في قوله: “ما دفعتُ الحرب يوماً إلا وأنا أرجو أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها”، وما إلى ذلك ممّا يمثّل لنا نموذجاً في تفاعل القيادة مع الجماهير في الحركة السياسيّة وفي الخطاب التّثقيفيّ في آنٍ معاً.
تحديد العدوّ للأمَّة
وهنا ينبغي الحذر بشدّة أمام القفزات المريبة لبعض الحركات الإسلاميّة، في انفتاحها على العدوّ الصّهيوني، أو إرسال التَّطمينات غير المبرّرة تجاه بعض الاتّفاقيّات المعقودة؛ لأنّه ليس من حقّ أيّ حركة إسلاميّة، تتّخذ الإسلام قاعدةً لها في الرّؤية والحركة، أن تنجرف بعيداً عن قاعدتها في أيّ موقفٍ قد يذهب بالواقع كلّه، وبكيان الأمّة كلّها، إلى منزلقات خطيرة.
إنّ المسؤوليّة تقع على عاتق كلّ الحركات الإسلاميّة، لصوغ خطاب واحد وواضح، يحدّد العدوّ الاستراتيجيّ للأمّة، بهدف إزالة بعض الالتباس الّذي برز مع صعود نجم الإسلاميّين إلى السّلطة…
أخيراً: ما من شكٍّ في أنَّ استعار أتون المذهبيَّة وخطابها المتشنِّج، وانفعالاتها المتوتّرة، تبرز في كلّ مرحلةٍ يبدو فيها الخطر محدقاً بالسياسات الاستكباريَّة، أو بعروش الطّغاة والظّالمين والجبابرة، في منطقتنا وبلادنا العربيّة والإسلاميَّة، وهو الأمر الّذي ينبغي أن لا يعفينا من تأكيد أنَّه خلال أربعة عشر قرناً، كانت هذه الثَّغرة هي الأهمّ والأخطر على الأمَّة في عزّتها وقوّتها ومنعتها أمام هجوم الخارج وتكالبه على ثرواتها ومقدّراتها والتحكّم بمستقبلها. وإذا لم يكن بالإمكان، في ظلِّ حالات الجنون المذهبيّ والطّائفيّ، مترافقةً مع هجوم الخارج علينا، التوقّف لسدّ تلك الثغرة الكُبرى، فإنّ المسؤوليّة تقع على عاتق كلّ الحركات الإسلاميّة بلا استثناء، لصوغ خطاب واحد وواضح، يحدّد العدوّ الاستراتيجيّ للأمّة، انطلاقاً من القواعد والمفاهيم القرآنيّة والسنّتية، بهدف إزالة بعض الالتباس الّذي برز مع صعود نجم الإسلاميّين إلى السّلطة في أكثر من بلدٍ عربيّ، والّذي صُوّرت فيه الأمور، وكأنّها صفقةٌ بين هذه الحركة أو تلك مع الاستكبار العالميّ واحتلالاته، كما شهدنا سابقاً في تصوير الحركات الإسلاميّة الشيعيّة كعميلةٍ للاحتلال على حساب الأمّة، وكما يُراد لنا أن نصدّق بالنّسبة إلى الحركات الإسلاميّة السنّية الصّاعدة في مصر وتونس وغيرهما؛ فإنّه في الوقت الّذي قد يرى المرء جزءاً من السياسة الاستكباريّة لإفقاد الساحة الإسلاميّة ثقتها بعضها ببعض، ليتيسّر له النّفاذ إلى الساحة من خلال ذلك، فإنَّ ذلك لا يعفي الإسلاميّين من ضرورة توضيح خطابهم في ما خصّ القضايا الكُبرى، ولاسيَّما فلسطين، الثّابت الأكبر في السياسة الاستكباريّة ضدّنا. ثمّ العمل على توحيد الجهود العمليّة في سبيل ذلك.
كما أنّ علينا أن نبقى نحدّق بالشّعوب في تحديد مواقفنا، وإنتاج خطاباتنا، وانتقاء مفرداتنا؛ لأنّ الشّعوب لا تزال بوصلتها على القضيّة المركزيّة، فلسطين، وعلى رفض الاحتلال والتعامل معه، وتخطئ أيّة حركة إسلاميّة تعتقد أنّها قادرة على تحويل بوصلة الشعوب عن تلك القضيّة؛ اللّهمّ إلا إذا كانت تلك الحركات ـ لا سمح الله ـ غطاءً لحركة فتنة مذهبيّة تُدخل الواقع كلّه في جنون مذهبيّة دمويّ، لا يبقى معه إسلامٌ ولا من يُسلمون؛ والله من وراء القصد.
مجلّة الوحدة الإسلاميّة