السيد د. جعفر فضل الله
يرتكز الحوار الدّيني عمومًا، وضمنه الحوار بين أتباع المذاهب الإسلاميّة، على الاختلافات العقدية، والتي عادةً ما تكون هي الأصل في الاختلاف المذهبي أو الديني. فالمسلمون – مثلًا – اختلفوا عن المسيحيّين في شخصيّة الإله، حيث أخذ المسيحيّون بعقيدة التّثليث والطقوس المرتبطة بها، واختلفوا عن اليهود، أو عن بعضهم في أنّهم اعتقدوا – كما نصّ القرآن الكريم – بتأليه عزير… وبدأ الخلاف بين المسلمين بعد ارتحال رسول الله عن الدّنيا: هل الخليفة عليّ بن أبي طالب كما تقول الشيعة، أم أنَّ النبي تركها شورى، فكانت خلافة أبي بكر تطبيقًا لذلك، كما يقول عموم أهل السنّة والجماعة؟
وعلى هذا الأساس، يُتوقَّع أن يكون الحوار الديني أو المذهبي حول هذه الاعتقادات الأساسيّة، وأن يعمل أتباع كلّ عقيدة على إقناع الآخرين بفكرتهم، وقد تتَّخذ حركة الإقناع حالة عامّة، بحيث تتحوَّل إلى حركة دعوة إلى الإسلام أو تبشير بالمسيحيّة، وفي الإطار المذهبيّ، تتحوَّل إلى ما يكثر الحديث عنه مؤخَّرًا، وهو وجود مشاريع لتشييع السنّة أو لتسنين الشّيعة – إذا صحَّ التّعبير-.
لن نتعرَّض في المقالة لمسألة الحوار الدّيني بين المسلمين وغير المسلمين، ولا للحوار المذهبي العقدي بين السنّة والشّيعة، بل غرضنا هنا مقاربة موضوع الحوار المذهبي الدّائر بين المسلمين في الكتابات والكتابات المضادَّة، وعلى وسائل الإعلام، وفي مواقع التّواصل الاجتماعي، والّذي غالبًا ما يتناول الشخصيّات التي تمثّل رموزًا أو أحداثًا مذهبيّة يختلف عليها الطرفان.
وبذلك، فإنَّ الحوار الذي نحن بصدده، ليس ما يجري بين النّخب العلميَّة المذهبيَّة فحسب، وإنّما بين عموم النّاس، سواء أخذ شكل حوار، أو كان عبارةً عن سلسلةٍ من المواقف وردود الأفعال الّتي قد تتمثَّل بالإقصاء والتَّهميش والازدراء والاستخفاف، مرورًا بالسبّ والشّتم واللَّعن، وصولًا إلى الاعتداء الجسديّ بالسّجن أو القتل، ممّا بات – مع كلّ أسف – جزءًا من المشهد العاديّ الّذي تحكيه وسائل الإعلام يوميًّا على امتداد مساحة الأمّة الإسلاميّة.
المذاهب وتراكم العلاقة برموزها
وكيف كان، فكلّ مجال مذهبي أنتج – على امتداد تاريخه – منظومة من الرموز، تمثّلت بشخصيّات رمزيّة قامت عليها هويّة المذهب، وكذلك بأحداثٍ كبرى شكّلت ذاكرةً جماعيّة مذهبيَّة، وقاعدةً لحركة احتفاليّة إحيائيّة يُعاد من خلالها إنتاج الجماعة المذهبيَّة، وهذه بمجموعها أصبحت تمتلك خاصّيّة التّحريك لوجدان الجماعة، وتستدعي مواقف وأفعالًا وسلوكيَّات متناسبة معها.
من الممكن أن يخضع كلُّ ما تعتقده جماعةٌ مذهبيَّة للنّقد العلميّ الموضوعيّ، وقد يكون محلًّا لاختلاف وجهات النّظر، إثباتًا أو نفيًا. وقد رأينا أنَّ كثيرًا من الأحداث التّاريخيّة قد خضعت للجدل العلمي انطلاقًا من منهج دراسة التاريخ، وثمّة شخصيّات ارتفعت لدى جماعة مذهبيَّة إلى عنان السّماء، في الوقت الذي انخفضت كثيرًا عند جماعة مذهبيَّة أخرى، وكلُّ جماعةٍ تسوق أدلَّتها التي تعتبرها علميّة على قناعتها. وهذا كلُّه من طبيعة العلم، وهو أمرٌ تحتاج البشريّة إلى أن تحافظ عليه؛ لأنّ العلم لا يقبل التأطير والأدلجة، وإلّا تحوّل من حالة استكشافيّة إلى حالة تبريريّة، وأصبح خاضعًا للظروف المحيطة به، وفقد بالتالي دوره القياديّ لحركة الإنسان نحو مواقع النّور في الحياة، وهذا بالذّات ما مارسته المجتمعات والسياسات بحقِّ العلم عندما شكّل خطرًا على مصالحها.لكنّنا عندما نتحدّث عن المجتمع ومحرّكاته، فالأمر له بُعد آخر مرتبط بمدى ترسّخ تلك المعتقدات أو الأحداث أو الشخصيّات في وجدان الجماعة؛ وعند هذا البُعد، لا يهمّ هنا ما إذا كان الواقع التاريخيّ يعكس فعلًا الشخصيّة الرمزيّة بحسب ما تراه الجماعة المذهبيَّة، أو أنَّ الشخصيَّة المذهبيّة هي فعلًا أضخم من واقعها التّاريخي، بسبب ما أدخله المخيال الشَّعبي، عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ، على الصّورة الأصليّة؛ إذ بفعل عوامل الزّمن، تترسَّخ تلك الصّورة بكلّ زياداتها في ذهن الجماعة، وتتحوَّل إلى جزءٍ من هُوِيَّتها المذهبيَّة التي تجد نفسها معنيّةً باستعادتها في كلِّ مرحلة، إضافةً إلى حمايتها من كلِّ عوامل الاعتداء المعنويّ. حتّى إنَّ الجماعة المذهبيَّة – ضمن هذا البُعد – قد تجد في أيِّ حوارٍ حول تلك الشخصيَّة، مهما كان علميًّا وموضوعيًّا، نوعًا من الهجوم على ذات المذهب؛ لأنّ المسألة العلميّة تضيع في تعقيدات النخب، لتُترك السّاحة الشعبيّة للانفعالات الناتجة من تماهي هوية المذهب بصورة الشخصيّة – الرمز.
بين المقاربة العلميّة والاجتماعيّة
إنَّ وعي الفرق بين المقاربة العلميَّة والمقاربة الاجتماعيَّة لأيِّ جماعةٍ مذهبيّةٍ في أيِّ حوارٍ يُراد عقده، يلعبُ دورًا حسّاسًا وجوهريًّا في الخوض في حوارٍ منتجٍ هادفٍ، أو في تحويل الحوار نفسه إلى مادّةٍ لتأجيج المشاعر الانفعاليّة المذهبيّة، وهذا ما يفرض تحديد الهدف من إدارة الحوار المذهبي، أو من إدارة الاختلاف المذهبي بعامَّة، مقرونًا بالظروف الموضوعيَّة التي تساعد أو تناقض تحقيق ذلك الهدف، وهذا أمرٌ يختلف بين مرحلةٍ وأخرى، وبين مستوًى وآخر، ويتفاوت حسب طبيعة التحدّيات التي تواجه الكيان الإسلاميّ ككلّ.
فعندما تواجه الأمَّة تحدّيات الهيمنة الخارجيّة لمصالح استعماريّة واستكباريّة، فإنَّ ردّ الفعل تجاه تلك التحدّيات، والتي ينبغي أن تحكم أطراف الحوار في الأمَّة، هو غيرُه ردّ الفعل الّذي يحكمهم إذا كانت الأمَّة لا تواجه مثل هذه التحدّيات؛ كما أنَّ البنية الدّاخليّة التي تعبّر من خلالها الأمَّة عن ذاتها، يختلف حالها إذا كانت تعاني من ضعفٍ أو تعيش القوّة… والهدف في كلّ ذلك، هو كيفيّة المحافظة على الذات الكلّيّة، أعني الإسلام؛ لأنَّ خسران الذات الإسلاميّة لن يترك وجودًا للذّات المذهبيَّة إِلَّا وهمًا.
ولو رجعنا إلى التفكّر في حال الأمّة الإسلاميّة اليوم؛ وعلى الهامش، نحن نصرّ على إطلاق مصطلح الأمّة؛ للتأكيد على وجود الانتماء الإسلامي ومنظومة القيم المشتركة والأرض، بمعزلٍ عن الكيانات السياسيّة التي تتقاسم أعداد المسلمين وطبيعة أوضاعها؛ لو رجعنا إلى هذه الأمّة، لرأينا أنها في حالة سقوطٍ حضاريّ؛ فنحن نعيش على هامش العالم، في الوقت الّذي نمتلك المقدِّرات والثّروات الطبيعيّة، كما لا نُعدم الكفاءات البشريّة في كلِّ مجالات العلوم، وقد أثبتت العقود الماضية، أنّنا أُمَّة تعيش الثقافة الماضويّة التي تعيد إنتاج الماضي بشكل مستمرّ، وهذه الماضويّة تحوّلت إلى حالةٍ عُنفيّةٍ إقصائيّةٍ، عندما عبّرت عن نفسها كحالةٍ طهوريّة لم تتوجَّه بالاستئصال والذّبح إلى من اختلف معها من البشر فحسب، وإنّما عملت على تدمير التّاريخ وكلّ ما يمتّ إلى جذور الأمَّة بصلة.
حوار تسجيل النقاط
المشكلة الكبرى أنَّ منهجيّتنا كمسلمين ما زالت هي هي في التعاطي مع كلّ هذا الواقع المأزوم، وكلّما امتدَّ زمن الأزمة أكثر، ازدادت مكوِّنات الأمَّة انفصالًا وتباعدًا وتنافرًا، حتّى كادت الأجيال الجديدة تفقد الثّقة بإسلامها ككلّ، وتُلقي بنفسها في أحضان الاتّجاهات الإلحاديّة بالدِّين كلّه؛ وما لم نفكِّر جميعًا خارج الصّندوق الذي ورثناه عن التاريخ، لن نستطيع أن نغيّر من الواقع؛ لأنَّ النتائج المختلفة تحتاج إلى آليّاتٍ مختلفة بطبيعة الحال!
قد نكون أطلنا قليلًا في المقدِّمة، وَلَكِنْ ليس إِلَّا لكي تكون المسألة التي نحن بصدد طرحها أكثر وضوحًا للقارئ. والنقطة المركزيّة هنا، هي أنّ حواراتنا حول الشخصيّات المذهبيّة توهينيّة، بما يجعل الحوار حول المذهب نفسه توهينيًّا في ذهنيَّة المتحاورين، ولذلك تتصلَّب لغة الحوار، ويتحوَّل من حوارٍ علميّ إلى حوار تسجيل النّقاط، وحوار اللّوازم الباطلة بما لا يلتزم به حتّى المتحاورون أنفسهم. وإلّا فما معنى أن يتراشق المسلمون على شاشات الإعلام الفضائيّ ومواقع التواصل الاجتماعيّ بروايات نقص القرآن الكريم أو تحريفه؟! ينبري سُنّي ليقول إنَّ الشيعة يؤمنون بتحريف القرآن، لأنَّ في بعض كتب أحاديثهم أحاديث تدلّ على ذلك، ويردّ شيعيّ ليقول إنَّ لديكم في الصحاح أو المسانيد أحاديث كذلك… ولا السنّة ولا الشّيعة يلتزمون بتلك الأحاديث… ويضيع القرآن الكريم من بين أيدينا جميعًا؛ لأنَّ تسجيل نقطةٍ لمصلحة المذهب، أهمّ من الحفاظ على الكتاب الّذي به يُحفَظ الدّين والمذهب وكلّ الإسلام!
لا يوجد جواب ل(لو)هكذا عشنا الحوارات المذهبيّة عمليًّا عبر التّاريخ، من دون أن ننكر أنَّ الحوار العلمي أضاف إلى السّاحة المعرفيّة الكثير من النتاج المهمّ؛ ولكنّه بقي أبعد ما يكون عن صناعة أُمَّة، وهذا يشير إلى أنَّ هدف الحوار لا يرقى إلى مستوى التحدّيات!
لو ابتعدنا عن لغة العموميَّات قليلًا، ونزلنا إلى أرض الواقع المذهبيّ، ونظرنا – مثلًا – إلى تقدير المسلمين السنّة لشخصيّة عمر بن الخطّاب، نزولًا إلى الكثير من علمائهم الَّذين دخلوا في الوجدان العامّ لأتباع مذهب أهل السنّة والجماعة. وفي المقابل، نجد المسلمين الشّيعة أيضًا يجلّون شخصيّة عليّ بن أبي طالب؛ بل يعتقدون فيها العصمة عن الخطأ، نزولًا إلى الكثير من العلماء الشّيعة الّذين هم بدورهم أصبحوا جزءًا لا يتجزّأ من تاريخ المذهب ووجدانه العامّ. وأمام كلّ ذلك، بات واضحًا أنّ الشيعة لا يشاطرون السنّة نظرتهم إلى عمر، كما أنّ السنّة لا يوافقون الشيعة عقيدتهم في عصمة عليّ وكونه الخليفة بلا فصلٍ؛ والحوار العلميّ، أو غير العلمي، حول ذلك، كان وما زال إلى يومنا هذا، وهو مرشَّح للبقاء إلى ما شاء الله: {ولا يزالون مختلفين}[1].
ولكنَّنا لو نظرنا إلى البُعد الاجتماعيّ الحركيّ – إذا صحَّ التَّعبير – الّذي أشرنا إليه سابقًا، فإنَّ كلّ شخصيّة من الشخصيّتين تحمل في الوجدان والاعتقاد العامّ لأتباع المذهب المعني بها، سلسلةً من القيم والمواقف والأحداث والسلوكيّات الّتي تشكِّل مصدر استلهامٍ لهم، فلو أخذنا قيمة العدالة في الحكم مثلًا، لوجدنا أنَّ لدى المسلمين السنّة روايات تعكس مواقف في عدالة عمر بن الخطّاب مثلًا، وإذا كان لحضور عمر في وجدان المسلم السنّيّ تأثير في تمثّل قيمة العدالة في سلوكه في حياته، فالمطلوب هو الاستفادة من ذلك الزّخم لحضور الشخصيّة في نفسه، لتفعيل العدالة في سلوكه الاجتماعي أو السياسي… وإذا كان ثمّة مواقف ينقلها التراث عن تحرّز الخليفة الثاني من المساس ببيت المال ولو بمقدار قطرة زيت أو كسرة خبز، فالإخلاص لقيمة الأمانة يقتضي إقامة الحجّة على المسلم السنّي على أساس الأفعال والمواقف الصادرة عن رمزه المذهبي، في السلوك الاقتصاديّ والأمانة عن مقدّرات الأمّة وثرواتها.
هب أنَّ النقد العلميَّ المستند إلى معايير قبول الرّوايات ورفضها يمكن أن يناقش في صحَّة هذا النَّقل التّاريخيّ أو ذاك مما يتبنّاه الآخر المذهبي، فإنَّ ذلك يمكن أن يغطّي المساحة العلميَّة، ولكنَّه لا يقدِّم ولا يؤخّر في المساحة الاجتماعية الحركيّة للمسلم السنّي، ولعلَّ من شأن ذلك أن يحوِّل موقف الآخر المذهبي إلى حالة دفاعٍ عن ذات الرّمز المذهبي الذي يتبنّاه، عندما لا يكون ذلك الآخر المذهبي مهيَّأً أو مستعدًّا للدخول في حوار علمي موضوعي، أو كان الجوّ خاضعًا لجوّ الإثارة المذهبيّة التي تُبعد أيّ حوارٍ علميّ عن هدفه وهدوئه، وذلك قد يؤدّي إلى تفويت أخذ العبرة من المواقف التي يعتقدها ذلك الآخر في رمزه المذهبيّ؛ والّذي سيخسر في نهاية المطاف، هو المجتمع في واقعه المعاصرة وتحدّياته الآنيّة، والّذي ستغيب عنه العدالة باسم الدفاع عن رموزها، والأمانة عبر الانتصار لمؤدّيها في التّاريخ!
في المقابل، وبالمنهجيّة نفسها، نستطيع أن نتحدّث عن علاقة الشيعة برموزهم،. فبدلًا من أن يُعمل على تعزيز عناصر القيمة في سلوك المسلم الشّيعيّ في ما خصّ سلوكه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني وما إلى ذلك، يتمّ الدّخول في تخطئته على تَبنِّيه هذه الرّواية أو تلك، أو يُعمل على الحطّ من قدر أهل البيت.. وبعد ذلك، أين هي عناصر العبرة لديه؟ هل سيُرجعه السنّي إلى رموزه؟ وهل هي قابلة للتحريك لديه؟
وكمثال واضح، يثور الجدل المذهبي كلَّ عاشوراء حول الثورة الحسينيّة ومبرّر إحيائها في كلّ عام، وأنّ من الضروري أن يتوقّف الشيعة عن البكاء، ويرضوا بقضاء الله وقدره، وما إلى ذلك! وبمعزلٍ عن ضرورة التنقية المستمرّة للسيرة والتاريخ كفعلٍ مستمرّ لمسؤوليَّة العلم؛ إِلَّا أنّ أصل القضيّة ذات دلالات رمزيّة فائقة الحيويّة؛ وهبْ أنَّ الشيعيَّ أصبح بسبب النقاش غير مبالٍ بإحيائها، فما الّذي سيكون محفّزًا لمنظومة القيم لديه بما كانت تحرّكه فيه عاشوراء؟
إذا كان الشيعة يعتقدون العصمة في الحسين بن عليّ، وكان السنَّة لا يعتقدون ذلك، فالحوار الكلامي في ذلك له مجاله؛ ولكنّ الموقف الاجتماعي الحركي المبني على عاشوراء في تعزيز قيم المواجهة للحاكم الجائر والإصلاح في أُمَّة رسول الله، هو مسألة عمليَّة لا تتوقَّف على ذلك الجدل الكلامي؛ وإنّما يمكن البناء عليها بمعزلٍ عن المعتقد هنا وهناك، لإصلاح نظمنا السياسيّة، وإشاعة المعروف في مجتمعاتنا، وتمكين الأمَّة من الاستفادة من ثرواتها من أجل نهضتها الحضاريّة..
لنفرض أنَّ الشيعة والسنّة يختلفون حول المهديّ؛ فبأيِّ منطقٍ يتمّ تحويل عقيدة الشّيعة بالمهديّ إلى مثار سخريةٍ وتندّر، أو رمي المسلمين السنَّة بالجهل لأنّهم لا يعتقدون بولادة المهدي كما يعتقد الشّيعة؛ في الوقت الّذي يمكننا أن نحوِّل عقيدتنا بالمهدي إلى معايير للخليفة الّذي يقيم العدل، والتي نقبل على أساسها الخليفة أو نرفضه؛ بدلًا من حالة انعدام المعايير التي نشهد تداعياتها على أرض الواقع!
لا بدَّ من أن نكون جميعًا واقعيّين: إنّ العناصر الرمزيّة التي تتفاعل معها الشخصيّة أو الجماعة لا تحتمل الفراغ؛ فإذا لم يُملأ برمزٍ فسيُملأ بغيره! ولو هُدمت رمزيّةٌ لدى جماعةٍ ما، فهي تحتاج إلى وقتٍ طويلٍ ريثما تبني رمزيّةً أخرى تدخل كعنصر محرّك لوجدان الجماعة.. هذا الأمر في ميزان المجتمعات لا يحصل بين ليلةٍ وضحاها!
ألم نجد أنَّ كثيرًا من أبنائنا عندما فقدوا الإحساس الوجداني ببعض رموزهم في الإسلام، لجأوا إلى اتّجاهات أخرى، دينية أو غير دينية، ليملأوا ذلك الفراغ الّذي تحتاجه النفس؟ بَعْضُهُمْ لجأ إلى ملء الفراغ الروحي باتجاهات روحيّة صنميّة، وبعضهم رأى في شخصيّات مناضلة قيمة ثوريّة لم يعد يراها في عليّ والحسين في المجال الشيعي، ولم يعد يراها في عمر وخالد في المجال السنّي.
ولقد عرفَ أرباب السياسة اللاعبون على مصالح الناس السرّ في كلّ ذلك؛ ولذلك عمّقوا تلك الوجهة في الحوار العقدي بعيدًا عن الحوار العملي الذي يجعل القيمة أكبر من الأشخاص؛ لأنّ القيم منبعها الله تعالى وصفاته، ولذلك استغرق المسلمون بضرب رموز بعضهم البعض عبر السبّ والسبّ المضادّ، واللّعن المتبادل، والتّوهين من كلّ التراكم الرمزي تاريخيًّا، حتّى ابتعدت الهويّة الإسلاميّة عن الحضور في ميدان العمل السياسي، والعلاقات الاجتماعيّة، والسلوك الأخلاقي، فلم يعد الشيعي ينظر إلى القيم التي تجسِّدها رموزه كقيمٍ على أنّها مصدر لقاءٍ بينه وبين أخيه المسلم السنّي؛ لمجرّد أنَّ السنّي يراها متجسّدةً في رموز وشخصيات أخرى لا يراهم الشيعي رموزًا، والعكس صحيح أيضًا…
ولذلك وجدنا أنّ الوجدان الشعبي العامّ، لدى السنّة والشيعة، في كثيرٍ من المواقع، قبل بأشخاصٍ لا يملكون أدنى قيم رموز السنّة والشيعة؛ فقبل السنّة بحكّام جائرين لمجرّد انتمائهم المذهبيّ، مع أنّهم لا يمتّون بصلة إلى عدالة عمر التي يعتقدون، وقبل الشّيعة حكّامًا فسقةً لمجرّد انتمائهم المذهبيّ، مع أنّهم لا يتّصلون بسبب بتقوى عليّ التي يعتقدون؛ وبين هؤلاء الحكَّام وأولئك ضاع الإسلام وضاع المسلمون!
وكما ذكرنا سابقًا، نحن لا نهوّن أبدًا من أهمّية الحوار العلميّ الموضوعي؛ لأنّ هذا شأن المجتمعات التي تجدّد نفسها باستمرار، حتّى في ما يخصّ معارفها السابقة، ولكنَّ هذا الأمر ينبغي أن تتحدَّد له أطرُه المؤسّسية التي تجعله منتجًا؛ والأهمّ من ذلك، أن تحدِّد له نسبَهُ؛ فلا يصحّ أن يستحوذ الحوار المذهبي، بكلِّ آثاره، على النّسبة العليا من الانشغال المذهبي بين المسلمين، في الوقت الّذي يضيع حاضرهم، وتطبق الغيوم السّوداء على مستقبلهم، وتتفتَّت بلدانهم، وتتشتّت أوضاعهم لكلّ ناهبٍ أو عابث!
إنَّ الأمّة التي تحترم نفسها هي الّتي يحترم أفرادها وجماعاتهم بعضهم بعضًا، على ما هُم عليه، والبناء على هذا الاحترام المتبادل في تفعيل القيم والقواعد المشتركة لإصلاح الواقع ووضع القواعد لبناء المستقبل…
من الذي يبني؟اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، نحتاج إلى ذلك الصوت الذي كان يوجِّه فيه الشهيد السيد محمد باقر الصدر خطابه إلى مكوّن أساس من شعب العراق بقوله: “يا أبناء عليّ والحسين، يا أبناء أبي بكر وعمر، إنَّ المعركة ليست بين الشيعة والحكم السنّي. إنّ الحكم السنّي الذي مثّله الخلفاء الراشدون، والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل عليٌّ السيف للدّفاع عنه؛ إذ حارب جنديًّا في حروب الردّة تحت لواء الخليفة الأوّل أبي بكر، وكلّنا نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي…”[2]، ليبني مع المسلمين السنّة حركة مواجهة للحاكم الجائر في العراق، والّذي لا يهمّه من المذهبيَّة إلا ما يحقّق له قاعدة “فرّق تسُد”، ونحتاج إلى فتاوى تضمّ الشّيعة إلى صفوف المسلمين، كما صنع شيخ الأزهر محمود شلتوت؛ ليكون السنّة والشيعة جناحين يخفق بهما طائر الإسلام عاليًا في الآفاق، ويدين تصنعان القوّة في مواجهة الغاصبين والمحتلّين والظلمة.. وإنّ عمليّة بناء الأمّة بعد كلّ ما أصابها من هدمٍ، ولا سيّما في السنوات القليلة الماضية، تحتاج إلى العمل بواقعيّة، فهناك من الأمور ما يحتاج إلى مسارات موازية؛ لأنّها تتحرّك بهدوءٍ وعلى امتداد مساحة الزمن، وربّما لن تصل إلى خاتمة في حركة البشرية العامَّة، وهذه الأمور هي الحوارات ذات الطابع العلمي، وفي مقابل ذلك، هناك أمورٌ حارّة، تحتاج إلى استثمار كلّ الأدوات المتوفّرة في الواقع، من أجل عمليّة البناء ومواجهة التحدّيات، ولن يكون مفيدًا عندها الجدل حول من الّذي أتى بها، ومن يملك الأدوات المفيدة أكثر؛ فعواصف الشتاء عندما تقتحم على المتنازعين بيتًا بلا سقفٍ، أو ساحةً بلا جدران؛ فإنّها لن تبقي أحدًا مِنْهُم واقفًا على قدميه! والله من وراء القصد.
[1] سورة هود، الآية 118.
[2] نداء في 14-19/7/ 1979؛ منشور على موقع اليوتيوب على الرابط:
https://m.youtube.com/watch?list=PLwV77xATDp8djuiy3z0JkOUnQJRdC9zTf&v=fYUdQ18SeXo