الرساليّون على امتداد التاريخ يواجهون في عملية التغيير تعنّت مجتمعاتهم ورفضهم، وينالون منهم الكثير من أساليب والتشهير والتسقيط الاجتماعي والعنف اللفظي، بما يؤذي مشاعرهم، ويضغط على نفوسهم، وصولًا إلى التهديد بالقتل، بل تنفيذه في كثيرٍ من الأحيان.
ولأجل ذلك، وجدنا القرآن الكريم زاخرًا بالعديد من المواقف التي تعالج هذه الحالة، وتقوم بإمداد النّبي (ص) بمجموعة من الآليّات التي تسهّل عمليّة مواجهة التحدّيات والصّعوبات التي تضغط على نفسه ومشاعره وأحاسيسه.
إنّنا عندما نكتُبُ عن النّبي (ص) هنا، لا نقصد شخصه فقط، وإنّما ننطلق من شخصيته الرسالية لنجعل من تلك الآليات جزءًا من عملية الإعداد التي يقوم بها القائد لنفسه وهو يواجه التحدّيات والصعوبات في حركته الرسالية.
وقد انطلقنا من مبدأ، وهو أنّ ما ورد في القرآن الكريم حول بعض العناصر المرتبطة بحركة الأنبياء السابقين تعني النّبي (ص)، حيث اعتبر القرآن الكريم تلك المسيرة هي مسيرة اقتداء: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)[1]، كما أكّد القرآن الكريم على أنّ النّبي (ص) يواجه ما واجه الرسل السابقين، وأنّ المبادئ التي حكمت انتصاراتهم وتجاوزهم للتحدّيات والعقبات هي التي تحكم النبيّ (ص) أيضًا.
ويمكن لنا أن نقسّم الآيات المرتبطة بهذا الجانب إلى ثلاثة محاور:
المحور الأول: ما يرتبط بالوعي، حيث إنّ طبيعة نظرة النّبي (ص) إلى دوره وإلى أهدافه وحركته تلقي بظلالها على حالته النفسية بطبيعة الحال.
المحور الثاني: ما يرتبط بالإيمان، وهو ما يتمّ فيه تفعيل عناصر الثقة بالله تعالى في وعده ولطفه ورعايته للمسيرة وفي إتمامه لكلماته.
المحور الثالث: ما يرتبط بالسلوك، أي ما الذي يمكن أن يساعد من الأفعال على التخفيف من الحالة النفسية الضاغطة التي تصيبُ الإنسان.
المحور الأوّل: الوعي
يشكّل الوعي، بما يتضمّنه من نظرة كلّية للإنسان وتركيبته، وللحياة وما يحصل فيها، وطبيعة الفعل وردّ الفعل التي تتحرّك بين طبقات المجتمع، أو عندما يكون في الأمر تهديد لمصالح جماعةٍ من النافذين، وما تتطلّبه عمليّات التغيير من وقتٍ وجهدٍ، وما تفرضه من تبدّل في الأوضاع والمواقع وفي الأشخاص ربّما.. يشكّل هذا الوعي قاعدةً أساسيّة في عمليّة التحكّم النفسي الداخلي.
إنّ الحالة النفسية للإنسان ليست مفصولةً عن الأفكار التي يحملها الإنسان في داخل عقله، والتي تحكم تصوّره لمجريات الأمور، وتوقّعاته للنتائج؛ وغالبًا ما يحصل الاستفزاز للنفس عندما يرى الإنسان صورة مختلفة، أو لا يرى النتائج تتحقّق بالطريقة التي توقّعها.
انطلاقًا من ذلك، نجد أنّ القرآن الكريم أكّد على عدّة قضايا في حركة وعي النّبي والقائد والرساليّ:
أوّلًا: التحديات ليس جديدة!
يقال إنّ أوّل تجاوز لأي مشكلة أن يعتبر الإنسان أنّها ليست بدعًا من المشاكل التي تصيب أمثاله، وأنّه ليس الوحيد الذي يتعرّض لضغطها وتحدّيها، بل هو واحدٌ من مسيرة طويلة من الناس والتحدّيات. هذه في حدّ ذاته يخفّف من الضغط النفسي عليه؛ فهو من جهة يُشعره بأنّه ليس وحده أمام مشكلته وتحدّياتها، ومن جهة أخرى يسلّحه بالأمل بالخلاص منها تبعًا للتجارب السابقة للذين وقعوا في مشاكل مماثلة وتجاوزوها.
قال تعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إنّ ربَّكَ لذو مغفرةٍ وذو عقابٍ أليم)[2]، فليست الكلمات والاتّهامات جديدة في ساحة الرساليّين، بل هي السلسلة الطويلة التي رافقت تاريخ الأنبياء من قبلك، فسمعوا ما تسمعُ، ولاقوا ما تلقى.
وقال تعالى: (ولقد استهزئ برسلٍ من قبلِك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون)[3]، وقال: (ولقد استهزئ برسلٍ من قبلِك فأمليتُ للذين كفروا ثمّ أخذتهم فكيف كان عقاب)[4]، وقال: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا حتى أتاهم نصرنا)[5].
فالاستهزاء الذي تلقاهُ – يا رسولَ الله – من أبي جهلٍ وأبي لهبٍ، ومن كثيرٍ من الجاهلين الذي يستطيع هؤلاء أن يغروهم، بالمال تارة، وبتسطيح عقولهم تارة أخرى التي تجعلهم ينخرطون للدّفاع عن مصالح أسيادهم، انطلاقًا من شعورهم بفراغ الثقة بالنفس والتبعيّة العمياء… هذا الاستهزاء هو الذي حصلَ لرفقاء الدرب والرسالة من قبلك، وفي الوقت نفسه يمكن لك أن تنظر إلى الأثر الذي تركه الاستهزاء في المسيرة! لا شيء.. فقد تلاشت الكلمات في الهواء، وفقدت وجودها بعد ذهاب أصواتها.. وانمحت تمامًا عندما تحرّكت خطى الأنبياء خلاف ما يتوقّع هؤلاء المستهزئون، وأثبت المشروع الرساليّ حضوره في نفوس النّاس، وأكل المستهزئون ألسنتهم أمام الهزائم المتتالية، التي أفقدتهم امتداداتهم الشعبية شيئًا فشيئًا، وعندما يفقد المستكبرون مَن يمنحونهم أصواتهم، ويشحذون سيوفهم، ويضربون لأجل مصالحهم، تتضاءل ضخامة شخصيّاتهم، وتتعرّى نحو فردانيّتها.
إنّ الفرق بين الأنبياء وأصحاب النّفوس الكبيرة أنّهم ينظرون في الأفق الواسع، وهم يدخلون الساحة ولديهم التوقّعات الدقيقة، والصورة الصحيحة عمّا ينتظرهم، ولذلك لا يستغرقون في حجم اللحظة، مهما كانت آلامها ومصائبها وتحدّياتها، وهذا ما قد نلمحه في ما حكاه القرآن الكريم عن نوحٍ (ع): (وكلّما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون)[6]؛ ليست المسألة هنا ردّ فعل، سخريةً بسخريةٍ، بل هي المسافة بين سخرية الاستهزاء اللفظي، وبين سخرية النتائج من هؤلاء، عندما يواجهون الوقائع بالحسّ، فلا يشعرون إلّا بالسخرية من أنفسهم..
أن تدفعَ إنسانًا ليسخر من نفسه عندما يواجه نتيجة ما كان يسخر منه، يدلُّ على عمق القوّة في النفس، وثقب النّظر نحو المستقبل، وصلابة الموقف الذي يبقى محدّقًا بالهدفِ حتّى وهو يعيش الألم الجسدي، أو الضغط النفسي، الذي مهما بلغ، فإنّه سيزولُ؛ إمّا بزوال أسبابه، أو بزوال تأثيره!
وفي هذا المجال، نستطيع أن نلمح دور القصص القرآنيّ في تسلية قلب النّبي (ص)، في كونها لا ترتبط بالوعي العميق للدّور وطبيعة الحركة والتحدّيات، وإنّما في كونها تبثُّ روح الأمل، وتعكس التجارب التي استطاع من خلالها أنبياء سابقون أن يتجاوزوا البلاء، ويندفعوا في مستويات أعلى من النجاح بعد كلّ تجاوز، والتي تعرّضوا فيها للأذى المعنوي والشخصي، وحتّى كان بعض ذلك من أقرب المقرّبين إليهم، كما في قصّة إبراهيم ويوسف عليهما السّلام.
ثانيًا: ليست مسألة شخصيّة!
لعلّ من أروع الآيات تسليةً للنّبي (ص) هي إبقاء البوصلة النفسيّة في اتجاه توصيفٍ صحيح للقضيّة التي يجاهد من أجلها، ويلقى بسببها التكذيب والاستهزاء والتضييق والحصار والتهديد، هو قوله تعالى: (قد نعلم إنّه ليحزنك الذي يقولون فإنّهم لا يكذّبونك ولكنَّ الظالمين بآيات الله يجحدون)[7].
إنّ القضيّة لدى هؤلاء ليست مع محمّد بن عبد الله كشخص، وليست لكونه من أسرةٍ معيّنة أو مكانٍ محدّد، بل المشكلة لديهم أنّ نفوسهم غير قابلةٍ للقيم التي تدعوهم إليها، والنموذج الذي تمثّله، والقواعد التي تريد لحياتهم أن ترسو عليها، وأنّ أهواءهم لا تتقبّل التنازل عن مصالحهم ونفوذهم وسلطتهم، ممّا توارثوه جيلًا عن جيل، وعاشوا فيه زمنًا طويلًا، حتّى تحوّل إلى جزءٍ من حياتهم، وطابع لثقافتهم، وهويّة لوجودهم.
مشكلة هؤلاء مع آياتِ الله، وطريق الله، وإرادة الله، ومشروع الله الذي أراد للإنسان أن يجسّده في حياته الفرديّة أو الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية وما إلى ذلك.
وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي على النّبي والقائد والرساليّ إلى الله أن يعرف التعقيدات التي تواجه عمليّة تغيير هؤلاء من داخلهم، لتحلّ الروح الإلهيّة مكان النفس الأمّارة بالسّوء، وهذا يتطلّب أمرين أساسيّين:
الأوّل، أن يدرس الرساليّون العوامل التي تتطلّبها عمليّة التغيير تلك. وهذه العوامل تختلفُ من شخصٍ لآخر، ومن حالة لأخرى، بحيث يُصبحُ كلُّ إنسانٍ حالةً ينبغي أن تُدرس بعينها.
فقد يكون مفتاح البعضِ عاطفيًا، وبالتالي لا بدّ من تحفيز العناصر العاطفية لكي يقتربَ من الرسالة، وقد تمارسُ عاطفيّة هؤلاء دورًا سلبيًا، وذلك عندما يكون هناك من يجذبهم عاطفيًا إلى الخطّ المضادّ للرسالة، وبالتالي ينبغي العملُ على إزالة تأثير مثل ذلك، حتّى يُفتح الطّريق أمام العقل للاقتناع بالآيات الواضحة، والبراهين البيّنة.
وقد يكون مفتاح البعض أن تُزالَ من أمامه بعض العقبات الاقتصادية؛ لأنّ انتقاله إلى الإيمان يفقده ربّما قوتَ عيشه الذي يتحكّم به آخرون، وهو لا يمكنه تحمّل ذلك بحسب تنشئته، فإذا ما أحسَّ بالأمن من ذلك قويت نفسه على اتخاذ القرار الذي يمليه عليه عقله وفكره من دون عقباتٍ أو عوائق.
وهكذا تتنوّع العوامل التي تلعبُ أدوارًا سلبيًة أو إيجابية، وهي تفترض أن يدركها الرساليّ لكي يعمل عليها، كجزءٍ من الخطّة التي يرسمها لاكتساب مؤمنين إلى الخطّ الذي يدعو إليه، والفكر الذي يبشّر به.
الثاني، أنْ يتوكّل على الله فيما خفي عليه، وأن يثقَ به من خلال اللطف الذي يمنحه للرساليّين في حركة الدّعوة إليه. ولذلك كانت التجارب التي عاشها الرساليّون ملأى بهذا اللون من اللطف، الذي يهيّئ الله تعالى فيه المخرج من حيث لا يحتسبون، أو يجعل الخير الكثير فيما يصيبهم من أضرار، وهكذا تتهيّأ الأمور لهم لأنّهم إنّما يتحرّكون لأجل الله وفي سبيله، لا يريدون من ذلك “جزاءً ولا شكورًا”، سوى أن يرضى الله عنهم ويتقبّل منهم ويشملهم برحمته ويدخلهم في عباده الصّالحين.
ومن الطبيعي أنّ الرساليّين عندما يعيشون هذا الأفق، فإنّهم يعرفون بأنّ أيّام الله أوسع ممّا يعدّون، فقد يستأخرون النتائج ويراها الله قريبةً؛ لأنّه يرى ما لا يرون، ويعرف ما يجهلون، ولذلك قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثلُ الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضَّراء وزلزلوا حتّى يقول الرَّسول والذين آمنوا معه متى نصرُ الله آلا أنّ نصرَ الله قريبً)[8].
إنّ مشكلة كثيرٍ من الدّعوات التي ينطلق بها قادةٌ تتهيأ لهم الكثير من الظروف والأدوات من حولهم، هي أنّهم يحوّلون التحدّيات التي تواجههم، والضغوط التي يتعرّضون لها، إلى مسألة شخصيّة، تستفزّ مشاعر ذواتهم، وتستثير أحاسيسهم الخاصّة، ويفتحون باب أنفسهم على تفسير الأمور بطريقة جزئيّة، وانطلاقًا من مشاكل شخصيّة لدى هذا أو ذاك، فإذا ما رفضَ امرؤ ما أن يتعاون فهو حاقد، وإذا لم يشارك في دفع السوء فهو حاسد، وإذا وقفَ موقفًا مغايرًا فهو إنسانٌ مصلحيّ، إلى غير ذلك من التفسيرات التي تستغرقُ في الأنا والذات، فتجعلها محورًا تدورُ حولها ردّات فعل الآخرين.
وبذلك يفقد الإنسان البوصلة الصّحيحة لقراءة ما حوله، ولا يعود يهمّه أن يقوّم الموقفَ والظروف بأبعد من دائرة ما يشعر وما يحسُّ على المستوى الشخصي، وتتقزّم عند ذلك الرسالة لتصبح شأنًا من شؤون الشّخص، ويصبحُ الجهد كلُّه في تقريب من تهواه النّفس وإبعاد من تنفرُ منه.
في الواقع، ثمّة علاقة عكسيّة بين الرساليّة وبين الحالة الشخصيّة، فكلّما زادت الرساليّة لدى إنسانٍ، خفتت حسابات الذات والأنا؛ وكلّما زادت حسابات الذات، كشف ذلك عن غياب الروح الرساليّة، ليكون لدينا حينئذٍ مشكلة حقيقيّة في عناصر القيادة، والتي تغيّرها أحد الشروط الأساسيّة في عمليّة تغيير النتائج.
ثالثًا: مسؤوليّتك المقدّمات لا النتائج!
تصويبُ الجهد نحو الموقع الذي يمثّل المسؤوليّة والمستطاع للرساليّين هو واحدٌ من الأمور التي ينبغي وعيُها بدقّة، لئلّا يحمّل الرساليّ نفسه ما هو أكبر من طاقتها، وبالتالي تنوء تحت ضغطٍ نفسيّ كبير، يُفقدها راحة الحركة.
انطلاقًا من ذلك، تأتي بعض الآيات لتحدّد نطاق مسؤوليّة النّبي (ص)، ومن ورائه كلّ قائد ورساليّ وداعية. يقول تعالى: (وإن مّا نرينَّكَ بعضَ الّذي نعدُهم أو نتوفَّينَّك فإنّما عليكَ البلاغُ وعلينا الحسابُ)[9]؛ فليست مسؤوليّتك أن تحقّق النتائج، بل مسؤوليّتك أن تؤمّن كلّ الوسائل التي توصل البلاغ والدّعوة وصوت الرسالة للنّاس، وأمّا النتائج فقد تشاهد بعضَها في حياتك، وقد لا تكون أنت موجودًا لتشاهدها أو لتشاهد بعضها الآخر.
إنّ موجبات الهمّ لأي صاحب مشروع أن يضع أمامه صورة النتائج التي يريدها أن تتحقّق، وعلى أثر ذلك يشعر بطول المسافة عندما يرى نسبة ما يقوم به إلى تلك النتائج، ويبقى قلقًا أن لا تتحقّق..
لنتخيّل موقفَ النّبي (ص) النّفسي وهو يرصُدُ أن يعمّ الإسلام العالَم، فقد أرسله الله تعالى للعالمين بشيرًا ونذيرًا، وهو لم يستطع أن يربح في مكّة سوى أعداد قليلة، وهو يواجه الحرب تلو الحرب في المدينة..
ولنتخيّل موقفَهُ النّفسي عندما كان يرى أن هناك بين المسلمين منافقين، وأنّ هناك من يتربّص بهم الدّوائر، ويتحيّن الفرص ليعيد النّاس جاهليةً بعد إسلام.. فكيف سيكون وقعُ إحساسه بالخطر من هؤلاء مع النتائج الكبيرة التي عمل للحصول عليها.
إنّه بلا شكّ سيشعر بأنّ مشروعه في معرض التلاشي، وأنّ حياته أقصر من أن تحقّق جزءًا صغيرًا من أمانيه، وأنّ كثيرًا من الأمور التي يرى خطورتها لم يستطع أن يحمي الواقع منها، وأنّ الذين اندسّوا في المجتمع لم تسعفه الأيّام أن يقوم بعزل مخاطرهم..
هذا كلُّه سيجعل الحياة صعبةً على الرساليّ؛ بل قد تصيبه بشيء من اليأس، أنّه مهما فعلَ فإنّ جهده سيكون لا شيء أمام النتائج..
إذًا المفتاح للهمّ والغمّ هو التفكير الدّائم بالنتائج، والمفتاح للراحة في العمل هو التحديق دائمًا باللحظة، لتكون اللذّة في عيشها، فكرًا يلقيه على النّاس، أو حركة يزيد أثرها خطوةً في حياتهم، أو شعورًا ينشر عبقه بين قلوبهم.. بحيث يلتذُّ بخطوات الطريق، خطوةً خطوة، ونفَسًا نفَسًا، وعندئذٍ لن يهمّ كثيرًا إن رأى أمامه النتائج أو بعضها، أو لم يرَها..
إنّ الفكرة الأساسيّة هنا، أنّ المشروع لله، وإذا كان لله فالله يتكفّل به، وإنّما وظيفتنا في الحياة أن نحسن القيام بما بين أيدينا من وسائل، وأن نبذل كلّ جهدٍ ممكن في سبيل تحقيق النتائج. أمّا النتائج فهي بيد الله، فقد يعجّل بها وقد يؤخّرها.
هنا قد يثور سؤال: كيف يمكن للإنسان أن يقصر اهتمامه على العمل دون النتائج؟! هل يمكن أصلًا أن يحدّد طبيعة العمل الصحيح دون النظر إلى النتائج التي يتوخّاها؟! كما أنّنا نعرفُ من واقع الحياة أنّه كلّما كان الإنسان أكثر اهتمامًا بالنتائج التي يريدها، فإنّ عمله قد يسهّل عليه تحقيقها ورؤيتها في حياته؛ فكيف ينسجم ذلك مع ما تحدّثنا عنه؟!
والجواب على ذلك، إنّ هنا فرقًا بين التخطيط للعمل وبين العمل نفسه؛ وفي عالم التخطيط علينا أن نضع النتائج التي نريدها أمام أعيننا، وأن نرصد كلّ الأهداف القريبة الأمد والبعيدة وكلّ الوسائل والأدوات لتحقيقها، وأن نطوّر من هذه الأهداف كلّما رأينا الحاجة إلى تحقيق المزيد ممّا نصبو إليه.
ولكن، بعد انتهاء التخطيط، لا بدّ أن يبدأ العمل الفعلي على تنفيذ الخطط الموضوعة، وهنا لا بدّ أن يتوقّف التحديق بالنتائج، بل يتمّ التركيز على خطوات العمل؛ لأنّ التركيز على النتائج حين العمل – كما أسلفنا – سيلقي بثقله على العمل نفسه، وسيحرم الإنسانَ من لذّة كلّ خطوةٍ، ويُشعر العاملين بأنّ جهدهم لا شيء.. وذلك خصوصًا عندما تكون النتائج كبيرةً، قياسًا بما هو الممكن في اللحظة الحالية. كثيرون هنا دفعهم ذلك إلى اليأس قبل إكمال الخطوات الأولى، فخسروا هم وخسرت مشاريعهم معهم!
ولذلك تواردت الآيات بألسنةٍ متعدّدة أن يخفّف النّبي (ص) عن نفسه، فقال له المولى عزّ وجلّ: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إنّ الله عليمٌ بما يصنعون)[10]، (فلعلّك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا)[11]، وذلك بأن لا يعيش النّبيُّ (ص) الضغط النفسي بسبب عدم تحقّق النتيجة التي يتوخّاها، بل أن يقوم بما عليه من البلاغ؛ فهذا دوره ومسؤوليّته، والباقي بعين الله، وهو يسمعُ ويرى وله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.
ولعلّ كثيرًا من الآيات التي تحدّثت عن أنّ الهداية من الله تعالى، وليست من مسؤوليّة النّبي (ص) تشير إلى أن يضع عن كاهله هذا الثقل. قال تعالى: (ليس عليكَ هداهُم ولكنَّ الله يهدي من يشاء)[12]؛ والله تعالى أعلم وأحكم.
المحور الثاني: الإيمان
قدّمنا الحديث عن أنّ جزءًا من تجاوز الضغوط النفسية يقوم على التوكّل والثقة بالله تعالى، وهذا يعني أنّ عمليّة التحكّم النفسي ترتكز إلى القوّة الروحيّة والإيمانيّة.
إنّ الإيمان هنا ليس هو القناعة الفكريّة فحسب، بل هو الروح التي تمتزج فيها المعرفة بالمشاعر والأحاسيس، بحيث تتحوّل الفكرة إلى حالة شعوريّة حيّة ومحرّكة. الثقة بالله هنا ليست فكرة، بل هي شعور حقيقيّ، هي ثقةٌ حقيقيّة تواجه بها النّفس كلّ العوامل المضادّة التي تورث الوهن والضّعف، وهذا أهمّ عاملٍ للانهزام حتّى قبل الدّخول في المعركة.
كثيرةٌ هي الآيات التي تحدّثت عن وصول الأمور إلى أشدّها لدى الأنبياء، في الوقت الذي تؤكّد فيه على أنّ تلك اللحظات هي لحظات الفرج. قال تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرُنا فنُجّيَ من نشاءُ ولا يُردُّ بأسُنا عن القوم المجرمين)[13]، وفي آيةٍ أخرى قال عزّ وجلّ: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثلُ الذين خلَوْا من قبلِكُم مسَّتْهُم البأساء والضَّراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصرَ اللهِ قريب)[14].
بل ثمّة وعدٌ إلهيّ قاطعٌ بالغلبة لله ورسله، بمعنى غلبة المشروع الرسالي لهم على الأرض، وبذلك فإنّ جهودهم محفوظة، وهي جزءٌ من مسار تحقيق المشروع الإلهيّ، في استخلاف الثلّة الصالحة. قال تعالى: (كتبَ اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي إنّ الله قويّ عزيز)[15]، (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنّهم لهم المنصورون، وإنّ جندنا لهم الغالبون)[16]، وقال تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعدِ الذِّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون)[17].
وبذلك يتّسع المشروع اتّساع الحياة، وهذا ما يجعل أفق عمل الرساليّين يتجاوز أزمنتهم التي حدَّت أعمارهم، لتتّصل بأعمار الجيل الآتي من الرساليّين، ويتجاوز جهودهم المحصورة بحدود طاقاتهم، لترفلَها جهود الآتين من حملة الراية، ويتجاوز أشخاصهم لينبثّوا في كلّ مؤمن برساليته التي يحمل مسؤوليّتها في حياته. وفي نهاية المطاف تُصبح حياة الطريق فيها كلُّ الروح والسكينة واللذّة، سواء حصل الوصولُ إلى الغاية الكبرى أو لم يحصل.
ولكنَّ ذلك كلّه لا يحصل للرساليّين إلا عندما يتعمّق الإيمان في نفوسهم، ويتحرّكون من موقع اليقين بوعد الله، الذي هو أصدق القائلين، وإرادته هي الماضية فوق رقاب العباد، ولذلك كان الوعدُ ثابتًا في كلّ مسيرة التكذيب التي واجهت الأنبياء، قال تعالى: (ولقد كذّبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كُذّبوا وأوذوا حتّى أتاهم نصرُنا ولا مبدِّلَ لكلمات الله ولقد جاءكَ من نبأ المرسلين)[18]
عندما يحدّث الله نبيّه (ص) عن موسى وهارون (ع) عندما قال الله لهما: (لا تخافا إنّني معكما أسمعُ وأرى)[19]، وعندما ينزل عليه الوحي مخاطبًا: (واصبِر لحُكم ربّك فإنَّكَ بأعيُننا)[20]، سيتلاشى عنده لسعُ الكلمات، وتتبخّر أصوات السخريات، وينزل كلّ ذلك بردًا وسلامًا على قلبه؛ لأنّه بمرأى ومسمع من اللطيف الخبير الحنّان المنّان الرحيم الرحمن!
ترى، هل يمكن لإنسانٍ يعاني أن يشعر بهذه السكينة في مواجهة كلّ أسباب الألم، إذا كان في شكٍّ من أنّ الله مطّلعٌ عليه؟!
وكيف حاله إذا كان على يقين من أنّ عينَه الحانية تراقبُ قلبه نبضةً نبضةً، ولطفه الخفيّ يهدهد آلامه، وروحه تنزل عليه سكينته والقلق يطبق على كلّ حجرٍ وبشرٍ.
هذا اليقين في أشدّ حالات التحدّي هو الذي يستدعي السّكينة من الله على عباده، وهو ما نلمحه في قوله تعالى: (إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا)[21].
استنادًا إلى كلّ ذلك، فإنّ على الرساليّين أن يبقوا في حالة تزوّد إيمانيّ، لا في حالات الألم والقلق والشدّة والتحدّي فقط، وإنّما في كلّ لحظةٍ من لحظات الحياة؛ إذ هذا الإيمان بمقدار ما يكون قويًا، يمنح صاحبه الصَّلابة والمنعة من تأثير كلّ ذلك.
المحور الثالث: الفعل
هنا نصلُ إلى المحور الثالث من الآيات التي تكمل معها عناصر التسلية، وهي الأمور التي يجب على النّبي، وكلّ رساليّ، القيام بها، لتكون بذلك عاملًا للتخفيف عن الضغوط النفسيّة التي يعيشونها بسبب التكذيب والجحود ومحاولات الإذلال والتهديد.
وفي ما يلي نشير إلى عدّة أمور:
أوّلًا: التسبيح والسجود والعبادة
يلخّص قوله تعالى عددًا من الأمور الهامّة لتجاوز الرساليّ أذى الآخرين: (ولقد نعلَمُ أنَّكَ يضيقُ صدرُك بما يقولون، فسبّح بحمد ربّك وكن من الساجدين، واعبُد ربَّك حتّى يأتيك اليقين)[22]، وقد يلتقي هذا مع قوله تعالى الذي يتحدّث بصورة عامّة: (واصبر لحكم ربّك فإنّك بأعيننا وسبح بحمد ربّك حين تقوم، ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم)[23]. وهذه الأمور هي كالتالي:
أ. التسبيح بحمد الله، وهو الانفعال الحقيقي بعظمة الله ومواقعها في حياته، والتعبير عنه باللفظ؛ فليس هو مجرّد اللفظ وإن كان من الذكر. فإذا أحسَّ الإنسان بعظمة الله في نفسه، صغرَت أمام ذلك كلُّ الحياة، وهانت دون رضاه الآلام، وتذلّلت في طريقه الصّعوبات.
ب. السجود، وهو أن يعيش السّاجد الانسحاق التامّ جسدًا وروحًا أمام الله تعالى. ومن ميزة السّجود أن وضعيّته الجسديّة تساعد الإنسان على الانغماس بعيدًا عمّا حول الإنسان، من كلّ مجريات الحياة.
ج. العبادة التي تُبقي الإنسان في شعورٍ دائمٍ بالعبوديّة لله، وبذلك يظلّ ارتباط الإنسان بأفق أوسع من آفاق هذا العالم، ويتّصل بالينبوع المتجدّد الذي يفيض على الإنسان بالطاقة المتجدّدة كلّما ضغطته الحياة بسلبيّات أوضاعها.
ثانيًا: البرنامج العبادي
يقول تعالى في سورة المزمّل: (يا أيّها المزمّلُ، قمِ الليلَ إلّا قليلًا، نصفَهُ أو انْقُصْ منهُ قليلًا، أو زِد عليه ورتّلِ القرآنَ ترتيلًا، إنّا سنلقي عليكَ قولًا ثقيلًا، إنّ ناشئة الليلِ هي أشدُّ وطءًا وأقومُ قيلًا، إنّ لك في النّهار سبحًا طويلًا، واذكر اسمَ ربِّكَ وتبتَّلْ إليهِ تبتيلًا)[24].
إنّ هذه الآيات تؤكّد على تلازمٍ مطّردٍ بين الحالة الروحيّة وبين العبادة، ولا سيّما العبادة في الليل، تلك التي يقاومُ فيها الإنسان لذّة النّوم، ويعيشُ الإنسان فيها العبادة لذاتها، بعيدًا عن الرياء الذي يحفّزه الضَّوء.
ولذلك فإنّ البرنامج العباديّ للرساليّ يجبُ أن يتناسبَ مع حجم الضغوط والتحدّيات التي يواجهها، والتي يمكن أن تضعف النفس أمامها. لا يمكن بطبيعة الحال مواجهة السخريّة من دون ثقة بالنفس ممتلئة بالثقة بالله، ومن الممكن أن تقهر الكلماتُ الحادّة أمام الملأ، كتلك التي كان يلاحقُ بها أبو لهبٍ ابنَ أخيه النّبي (ص): “إنّه مجنون، أن تقهر تلك الكلمات تماسك نفسه، وصلابة موقفه، ليبقى يحدّق في أهدافه ومشروعه، ولا يفقده الضّغط التوازن في حركته.
وإنّ واحدةً من الأخطاء التي يقع فيها الرساليّون، أنّهم لا يكيّفون برنامجهم العبادي مع تطوّر التحدّيات التي تواجههم؛ فإنّنا نعرفُ أنّه كلّما ارتقى الإنسان في سلّم المسؤوليّة، واجهته تحدّيات أكبر، وبالتالي احتاج إلى قوّة روحيّة أعلى ليواجه الاغراءات تارة، أو الترهيب أخرى.
ومع الأسف، فكثيرون قد ينخفضُ مستوى برنامجهم العبادي مع ازدياد مسؤوليّاتهم الاجتماعية أو السياسية، أو مع زيادة كسبهم المالي، ولذلك قد يفقد كثيرٌ منهم توازنه أمام صفقةٍ هنا أو ضغط سياسي، أو حملة تشهير إعلاميّة، أو ما إلى ذلك ممّا يواجه الرساليّين في ساحة العمل؛ مع أنّ الأمر بالعكس تمامًا.
ثالثًا: القرب من النفوس الإيجابيّة.
وهنا نلمح قوله تعالى مخاطبًا نبيَّه (ص): (واصبر نفسَكَ مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشيِّ يُريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدُّنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فُرُطًا)[25]. لا شكّ في أنّ النّبي مسؤوليّته أن يعمل على هداية جميع النّاس، ولا سيّما أولئك الذين يملكون تأثيرًا على مجاميع من النّاس، فإذا دخلوا في الإيمان أثّروا على ناسهم فدخلوا تبعًا لهم، ما يجعل الاهتمام بهؤلاء ذا فائدة عظيمة.
ولكنَّ هناك فرقًا بين أن يكون هؤلاء جزءًا من مسؤوليّة الرساليّ، وبين أن يجعلهم شُغله النّفسي، وهمّه اليومي، وفي الوقت الذي لن يكفَّ هؤلاء عن أذيّته النّفسية نتيجة أسلوبهم في الدّفاع عن امتيازاتهم ومصالحهم المهدّدة بالرسالة، فإنّ إبقاء الإنسان نفسه مهتمّةً بهم سيمثّل أذيّة إضافيّة؛ لأنّه سيجعل نفسه تعيش تأثير سلبيّات نفوس هؤلاء.
ما يحتاجه الرساليّ أن يكون انغماسُهُ في مجتمعه، وأولئك هم أصحابُ النّفوس الإيجابيّة التي يتزوّد منها الرساليّ طاقةً كلّما تعرَّضَ لأذًى، أو جهل عليه الجاهلون.. في قلوب أولئك كلُّ الحبّ، وفي أعينهم دموع الإخلاص، وفي كلماتهم كلُّ الصدق.. كلُّ ذلك هو الطاقة التي يحتاجها الرساليّ، في مقابل النفوس السلبية التي تسرق من الإنسان كلّ إيجابيّته بمجرّد أن يتعرّض لها أو يهتمَّ بها.
رابعًا: الصبر والتقوى
يقول تعالى: (لتُبلوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذًى كثيرًا، وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور)[26]، وفي آيةٍ أخرى: (وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرُّكم كيدُهُم شيئًا)[27]، وفي آيةٍ ثالثة يربط تعالى بين الصَّبر والصَّلاة: (واستعينوا بالصَّبر والصَّلاة وإنّها لكبيرةٌ إلّا على الخاشعين)[28]، وفي آيةٍ رابعة يعيد الله تعالى الربط بين الصبر والتسبيح في الليل والنهار: (واصبر لحكم ربّك فإنّك بأعيننا وسبح بحمد ربّك حين تقوم، ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم)[29].
إنّ الصَّبر هو ملكة التوازن أمام الضغوط النفسية، سواء كانت نابعة من الدّاخل، كالصبر على فوران الغريزة والشهوة في دفع الإنسان إلى ما لا يرضي الله، أو لا يصبُّ في مصلحة الإنسان؛ أو كانت بسبب المثيرات المتنوّعة للغضب والألم والضعف، وكذلك الفرح والقوّة وما إلى ذلك؛ فيبقى الإنسان أمام كلِّ ذلك متوازنًا صلبًا، يحدّد ببرودة أعصاب ما الذي يجبُ عليه القيام به، وكيف يجب أن تكون ردّة فعله.
وهذا الأمر يحتاج إلى وعيٍ وعمل؛ أمّا الوعي فهو يقوم على الإيمان من جهة، وعلى وعي طبيعة الحياة، ممّا أثرناه مفصَّلًا فيما سبق. وأمّا العمل، فقد تكون التقوى أساسًا في ذلك؛ لأنّها الاستقامة والالتزام بما يريد الله تعالى، وهذا ما يجعل الإنسان دائمًا مشدودًا إلى ما هو فوق ذاته، باحثًا عمّا هو أوسع ممّا يلاقيه ويتعرّض له، من لسع الكلمات، وأذى القهقهات، وسخرية الإشارات، وما إلى ذلك.
خاتمة:
إنّ من المهمّ لنا في نهاية المطاف أن نُشير إلى أنّ التقنيّات الحديثة قد أدخلت وسائل الإعلام المتنوّعة، ولا سيّما وسائل التواصل الاجتماعي، كوسائل هامّة في التأثير النفسي، وذلك عبر التضخيم الذي كان يحصل سابقًا في صوغ الأخبار، ولكنّه اليوم يقوم على الخوارزميّات التي تكثّف التواصل الاجتماعي، سواء بهويّات حقيقية أو مزيّفة، فيتمّ إيجاد حالة من الضغط في اتجاه ضرب شخصية معيّنة، أو فكرة محدّدة، أو اتجاه من الاتجاهات، أو قضيّة من القضايا، فيتمّ حشد الكثير من المشاركات والتعليقات والسخرية، وذلك على طريقة إدارة الحروب العسكريّة، حيث يتمّ الهجوم الكاسح بمجموعات كبيرة ممّا بات يُعرفُ بالذباب الإلكتروني، وذلك بهدف إفقاد الخصم توازنه النفسي، وبالتالي سحب فكرته، أو انسحابه من المعركة، أو جعله يخافُ من التعرّض لقضيّة ما أو التعبير عن رأيٍ معيّن.
ولأجل ذلك، فإنّ كلَّ ما تقدّم، إضافة إلى وعي طبيعة ما تعكسه هذه الوسائل من العالم الحقيقي، يمكن له أن يمثّل للإنسان شبكة أمانٍ وسكينة، تجعله في شيءٍ من المناعة ضدّ كلّ هذه الأساليب؛ فلا يسقط موقفه شيءٌ من ذلك.
نعم، من المهمّ هنا للإنسان أن يجد المساحة التي ينصرفُ فيها لنفسه؛ فإنّ مثل وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي منها، تقوم على فكرة تشتيت الوعي، وزيادة منسوب التوتّر النفسي، وهذان عاملان مهمّان يسهّلان إخضاع الإنسان للضغط النفسي المباشر، وبالتالي إمكانية تعطيل فاعليّته وحركته تجاه الأهداف التي يسعى إليها.
السيد د. جعفر فضل الله
بيروت – 29 ربيع الأول 1442هـ الموافق لـ: 15-11-2020م
[1] الانعام: 90.
[2] فصّلت: 43.
[3] الأنبياء: 41.
[4] الرعد: 32
[5] الأنعام: 34.
[6] هود: 38.
[7] الأنعام: 33.
[8] البقرة: 214.
[9] الرعد: 40.
[10] فاطر: 8.
[11] الكهف: 6.
[12] البقرة: 272.
[13] يوسف: 110.
[14] البقرة: 214.
[15] المجادلة: 21.
[16] الصافات: 171-173.
[17] الأنبياء: 105.
[18] الأنعام: 34.
[19] طه: 46.
[20] الطور: 48.
[21] التوبة: 40.
[22] الحجر: 97-99.
[23] الطور: 48-49.
[24] المزمّل: 1-8.
[25] الكهف: 28.
[26] آل عمران: 186.
[27] آل عمران: 120.
[28] البقرة: 45.
[29] الطور: 48-49.