ظاهرة “النقد الرقمي” للدين!


السيد د. جعفر فضل الله
تنتشر ظاهرة “النقد الرقمي”، وهي تسمية أطلقها على الكثير من الفيديوات التي يظهر فيها دعاةٌ ينتمون إلى المجال الإسلامي، ويضمّنون ظهورهم الكثير من النقاش للأحكام الدينية، أو لبعض المفاهيم، وحتّى لبعض ما اعتُبر بديهيّات لا معنى للنقاش فيها، وصولًا إلى إسقاط كتبٍ شبّ عليها الأقدمون وشابوا على مدى قرونٍ من الزمن.

والتسمية أعلاه لا تستهدفُ تقويمًا سلبيًا للظاهرة، بقدر ما تؤكّد على أنّ الرقمنة الحديثة كانت سببًا رئيسًا في بروز مجموعة من الأشخاص من خارج المؤسّسات الرسميّة وإيصال أصواتهم إلى شرائح كبيرة من النّاس، ربّما فاقت متابعاتهم أضعاف ما يحصل لمن ينتمون إلى تلك المؤسّسات أو إلى السياق التقليدي لمتخرّجي العلوم الدّينيّة.

ما يهمّنا أمام هذه الظاهرة إيراد مجموعة من الأفكار:

أوّلًا: التجديد جزءٌ من الحياة وتطوّرها، وغيابه إشارة إلى حالة من الجمود التي تسير عكس حركة الزمن ومتغيّرات الحياة التي هي قانونٌ إلهيّ.

لكنَّ هذا المبدأ لا يمنح شرعيًة لكل ما هو جديد، بل يعطي صلاحية الفكر البشريّ لإعادة النّظر في الأفكار التي أنتجها فكرٌ بشريّ آخر، سابقٍ أو معاصر، ويعطي الحقّ في الاختلاف معه انطلاقًا من استخدام منهجٍ للاستدلال يؤسَّس له في مرحلة سابقة.

وتجدر الإشارة هنا إلى المناهج قد تختلف، والأدوات قد تتبايَن، ولكنّ أحدًا لا يمكن له غضُّ النّظر عن طبيعة المنهج المعتمد من قبل هذا الفكر أو ذاك، ويجبُ أن يكون في خلفيّة أيّ نقاشٍ يمكن أن ينشأ في هذا المجال.

ثانيًا: المجال العلمي هو مجالٌ مفتوح، ولذلك ليس من الصحيح حصر قراءة النصّ الدّيني ونقده بالمؤسّسة الرسميّة؛ لأنّها في النهاية ليست معصومة، بل هي “بشرٌ ممَّنْ خلقَ”[1] كما أشار الله تعالى، وبالتالي فكلّ من امتلك أدوات المعرفة وإنتاجها حقَّ له أن يقدّم قراءته.

بل أكثر من ذلك؛ يمكن لأيّ إنسانٍ أن يسائل الأفكار المنتجة، بأن يطرح عليها إشكاليّاته، بل هي من الأهمّية بمكانٍ تستدعي من المفكّرين والباحثين استدعاءها والاطلاع عليها ورفع الموانع عن بيانها؛ لأنّها تنتمي إلى عالم التطبيق، وهو قد يطرح إشكاليّات أمام أيّ فكر نظري ويفرض عليه إعادة النظر نتيجة ما يقدّمه من معطيات جديدة ربما كانت خافية على البعيد عنها، أو الذي يملك تجربة تطبيقية لا تلحظها.

ومع ذلك، فهذا ليس مبرّرًا للخروج من الحالة النظاميّة التي يفرضها وجود المؤسّسات الرسميّة إلى الفوضى العارمة التي تغيبُ فيها المعايير تمامًا. هل يفكّر أحدٌ اليوم بإلتنكّر للمؤسّسات الجامعيّة بحجّة أنّ مقارباتها تمثّل وجهة نظر، وأنّها ليست يقينيّة، وأنّ بعض من تخرّجهم جهلة قياسًا ببعض من يملكون مستوًى ثقافيًا أعلى لكنّهم لم يدرسوا في المدارس النظاميّة!

ثالثًا: المتابع لكثيرٍ من تلك الحسابات يستطيع أن يملح اعتمادها لغة خطابيّة في عرض الأفكار، والصوت العالي المسفّه للأفكار المنتجة، ولغة التسويق والتشويق ومخاطبة ضيق الجماهير ربّما وحاجاتها وأفكارها، والتوجّه إلى انفعالاتها، قد تحسمُ في نهاية كلّ حلقة الجولة لصالح هؤلاء مقابل الخطاب الرسمي التقليدي الذي ما زال – للأسف – يفتقر إلى الكثير من تلك الآليّات.

وعندما نقول “المسفّه للأفكار المنتجة” نقصد أنّ كثيرًا من المقاربات تلك تتوجّه إلى النتائج لترفضها، ولا تفردُ مساحةً احتماليّة لها، وإنّما تنسفها بالكامل، في مقابل “اليقينيّة” والحسم الذي تمنحه لأفكار منتجة أيضًا، قائمة أيضًا على حسم المنهج الذي تعتمده.

لكنَّ المتابع لها بعيدًا عن التأثير النفسي الذي تثيره، قد يلاحظ افتقارها إلى المنهج في النقد، وأنّها تنطلق من مسلّمات تحسبها بديهيّة عند الجمهور والحال أنّ ما هو بديهي لا يوصل إلى النتيجة لو تمّ الالتفات إليها.

على سبيل المثال، تطرح بعض الفيديوات فكرة الصلاة اليومية، وأنّ المسلمين مخطئون في صلواتهم الخمس، بناءً على حشد مجموعة من الأمور كلّها أو جلّها قابل للنقاش بل للإبطال؛ من قبيل أنّ القرآن لم يذكر بالنصّ سوى صلاتي الفجر والعشاء، وبالتالي لا ظهر ولا عصر ولا مغرب! ويستشهد لذلك بأنّ النهار هو للسياحة في الأرض والاسترزاق، وأنّ وقوف المسلم للصلاة في وقت “السياحة” هو سببٌ في تخلّف المسلمين! وأنّ الصلاة ليس عبارة عن ركعات لأنّ القرآن لم يذكر في آيةٍ أيّ حديثٍ عن ذلك!

تخيّلوا حجم القضايا التي يطرحها مثلُ هذا الخطاب، والتي تمّ تجاوزها في مخاطبة الإنسان العادي، اعتمادًا على عدم تخصّصيّته! من علاقة القرآن بالحديث والتاريخ، وعلاقة النصّ بالواقع، وطبيعة البيان القرآني للأحكام، وافتراض أنّ البيان لا بدّ أن يكون على طريقة نص القوانين والإجراءات، وربط تخلّف المسلمين بعشر دقائق للصَّلاة، وأنّ إرادة “المعاش” في النهار يعني نفي أيّ جهدٍ آخر، وكأنّ إرادة “السبات” في الليل لا ينفي ذلك!! إلى غير ذلك من الملازمات التي يتمّ حشدها أمام الذهن من دون أن يملك أدوات تفنيدها، ولا الوقت الكافي لمناقشتها، مقرونًا بضغط الواقع والرغبة في التحرّر من القيود التي تفرضها النماذج الأخرى المسيطرة بفعل السياسة والاقتصاد والتقانة وما إلى ذلك.

رابعًا: قد تخفي كثيرٌ من تلك العروضات الرقميّة وراءها حالة من التماهي مع متطلّبات التطوّر قائمة على افتراض أنّ ذلك التطوّر رهنٌ بما وصل إليها النموذج الغربي أو غيره، بفعل التطوّر التقني والاقتصادي والسياسي وما إلى ذلك، وفي مقابل ذلك يشي هذا الأمر بذهنيّة لا تثقُ بذاتها، وهذا الأمر يدفع – ولو في شكلٍ غير واعٍ – في اتّجاه ممارسة إسقاطات على الفكر الدّيني لأجل تحقيق المواءمة كيفما كان.

نحن لا نعيش عقدة المخالفة للنموذج الغربي ولكنّنا لا نقدّسه، كما لا نعيش عقدة تقديس النموذج التقليدي للفكر الديني ولكنّنا لا نعيش أيضًا عقدة التجديد؛ بل ننطلق على أساس أنّ لكل فكرٍ مُنتَجٍ قاعدته الفلسفية ورؤيته الوجوديّة التي قد نختلفُ معها، أو مع تأثيراتها على واقع التشريع والأفكار، وعندما نُريد أن نحاكم تطوّرنا أو تخلّفنا فإنّ ذلك لا بدّ أن يتمّ وفق الفلسفة والرؤية التي نتبنّاها، ووفق اجتهادنا في المفردات.

نعم، نعتبر أيضًا أنّ أيّ نموذجٍ آخر، سواء أكان غربيًا أم شرقيًا، قد يثيرُ أمامنا إشكاليّات، ويطرح أسئلة أمام بعض ما أنتجناه وننتجه من أفكار وأحكام ونظريّات ونأخذ به من أساليب، وهذا ما يفترض علينا التفكير فيها وإيجاد أجوبة لها، ولا يمنع من أن تكون حافزًا لإعادة النظر في كلّ ذلك، ولكنْ عندما نُعيد النظر فلا نعيده إلّا على أساس قواعدنا الفكريّة التي نتبنّاها، وإذا تبيّن لنا مخالفة تلك القواعد لمرجعيّاتنا الفكريّة، فلا ضيرَ من تجديدها، لكن أيضًا وفق منظورنا واجتهادنا، وليس لأجل السقوط تحت سلطة الآخرين، المعرفيّة وغيرها.

خامسًا: بمعزلٍ عن كلّ ما تقدّم، يطرح التأثير الذي ينعم به أفراد هذه الظاهرة إشكاليّة ابتعاد المؤسّسات الدينية الرسميّة، أو المتخرّجون من النمط التقليدي للدراسة الدينية، عن الناس وهمومهم وأسئلتهم.

وقد يكون السبب في ذلك هو ظاهرة التعبّد والتقديس للفتاوى المنتَجة، والذي تمّ فيه نقل القداسة من النصّ إلى فهمها، ومن المعصوم إلى المجتهد، وهذا الأمر غير صحّي؛ لأنّ رأي المجتهد يبقى رأيًا بشريًا، واجتهاده قد يصيبُ وقد يخطئ، ولكنَّه حجّة على المتعلّم أو غير المختصّ..

طبعًا هذه نقطة مهمّة؛ لأنّنا عندما نقول هو “حجّة” فهذا لا يعني جواز مخالفته؛ في حين نجد أنّ الفكرة التي ينطلق منها كثيرٌ من المخالفين للفتاوى التي تصدرها الجهات الرسميّة أنّها “غير يقينيّة”، وهذه إحدى المنزلقات التي يتمّ فرضها على أذهان عامّة الناس نتيجة الخلط بين الحجّية واللايقينية، والحال أنّ واحدة من أهمّ مسائل أصول الفقه هو الاستدلال على الحجّية بالرغم من عدم القطع بالنتيجة، ولا نريد الخوض في هذه المسألة التخصّصية هنا، فيراجِع من أراد.

نعم، هذا الأمر لا يمنع من هم في موقع “رجال الدّين” أن يستمعوا إلى من يشكّك في مستندٍ ما، أو يثير إشكاليّة أمام حكمٍ ما، ولو كان ذلك من إنسانٍ عاديّ.

يذكر السيّد الوالد (ره) أنَّ شخصًا أتاه يومًا متسائلًا عن أنّه كيفيّة الجمع منطقيًا من قبل الفقيه بين القول بجواز الزواج من المرأة الكتابيّة وبين القول بنجاسة الكافرين المادّية! وكان هذا الشخص عاملًا بسيطًا، ولم يدرس في أيّ معهدٍ دينيّ أو يتابع ذاتيًا هذا النوع من القضايا..

يعلّق السيد فضل الله (ره) على ذلك بأنّ هذا الإشكال التي أثاره فلان، هو ذاتُهُ الفكرة التي خطرت في بالِ السيّد محسن الحكيم (ت 1970م) فبدَّلَ رأيَهُ على أساسها من النجاسة إلى الطهارة.

هذه الحادثة لا تعني أنّ ذلك الإنسان أصبح مختصًا، ولا ينبغي أن تسوّل له نفسُهُ الاستغناء عن الرجوع إلى أهل الخبرة من العلماء، ولا تعني أنّه يسوغُ له أن يخالفَ فتاواهم، وإنّما تعني أنّ الإنسان – أيًا كان مستواه وموقعه – قد يلتفت إلى بعض الأسئلة والإشكاليّات التي قد تغيّر من نتائج الفكر، ولكنَّها لكي تكون كذلك لا بدّ أن تدخُل إلى المجال العلمي بطريقة علميّة، ويتمّ فيها قبول الإشكاليّة والسؤال من الناحية العلمية التي تدفع في اتجاه التفكير في المعطيات ضمن المنهج المعتمَد، وبالتالي التوصّل إلى نتيجة أخرى، أو ربّما تثبيت النتيجة الأوّليّة. كثيرٌ ممّا يحصل اليوم على هذا الصعيد يُشبه حالة الانتفاخ التي قد يعيشها إنسانٌ ما التفتَ إلى فكرةٍ فحسب نفسَه عالمًا في كلّ شيء، فقط لأنّ عالِمًا ما قد التفتَ إلى الفكرة ذاتها واستطاع أن يبني عليها فكرةً جديدة؛ والله من وراء القصد.

بيروت في 28 ربيع الثاني 1443هـ

الموافق لـ 3 كانون الأوّل 2021م