معيار الانتماء إلى الإمام الحسين(ع)


السيد د. جعفر فضل الله

غداً نودِّع الحسين(ع)، فهل نودِّعه لكي يكون ذلك فراقاً بيننا وبينه إلى العام المقبل؟ هل إنّنا في كلّ ما عشناه في الأيّام الماضية، وفّينا قسطنا تجاه أبي عبد الله(ع)، بما يمثّل، وبما يرمز إليه؟ هل حقَّقنا الأجر من الله سبحانه وتعالى لأنّنا حضرنا مجلس سيرته، أو لأنَّنا ذرفنا بعض دموع أعيننا على مصيبته؟ هل حصلنا من ذلك على الأجر، وبالتّالي تكون المسألة بالنّسبة إلينا أنَّ الأهداف التي وضعناها قد تحقَّقت؟

هل حقَّقنا الأجر في عاشوراء؟

ربما يكون الكثيرون منَّا قد وضعوا في أهدافهم أنهم عندما يتواجدون في هذه المجالس الحسينيَّة، فإنهم سيحقِّقون الهدف، وسيحصلون على الأجر من الله سبحانه وتعالى، مع أنَّ قصَّة الأجر من الله لها حديث طويل، بحسب الميزان الذي وضعه في كتابه العزيز، بأنّ الأجر يكون بمقدار ما يحقّق الإنسان من شروط التّقوى في عمله.. فأيّ فعلٍ يفعله الإنسان، وأيّ طقسٍ يعيشه، وحتى أيّ عبادة يتعبَّد بها إلى الله سبحانه، فإنما يحصل على الأجر منها بمقدار ما يعيش التّقوى في قلبه، وبمقدار ما يعيش الاستقامة في عمله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27]. و”إنَّما” في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ}، هي للحصر.

لذلك، هذه الوجهة الَّتي يؤكِّدها الله سبحانه هي الّتي ينبغي أن ننطلق منها لما بعد العاشر من المحرَّم، فقد اختزنا الكثير من الأحداث، واستمعنا في اللّيالي الماضية إلى الكثير من المواقف ومن الأحداث ومن الأقوال والشّعارات، وتعاطفنا مع كثيرين كانوا في صفّ الحسين(ع) ممن سمعنا سيرتهم، وذرفنا بعض دموعنا على مصابهم، وأحسسنا بأنّنا ننتمي إلى ذلك المجتمع؛ إلى مجتمع الحسين(ع)، وأحسسنا بالرّفض لكلّ ذلك المجتمع اليزيديّ الذي أتى من أجل الدّنيا ومن أجل المال والشّهوات، وأحسسنا بأنّنا لا ننتمي إلى ذاك المجتمع، لكن هل هذا هو الزاد الَّذي حصلنا عليه من إحيائنا للمناسبة؟ هل تنتهي علاقتنا بهذا الزّاد بانتهاء مراسم العزاء ومجالس السّيرة الحسينيَّة، أو أنَّ الحكاية تبدأ من هنا؟

إنَّ السَّمع الّذي يسمعه الإنسان، وأيّ شيءٍ يطرق سمعه، فيتعاطف الإنسان معه قبولاً أو رفضاً، هو حجَّة من الله سبحانه عليه، يحتجّ به عليه يوم القيامة، فإذا وقفنا موقفاً في حياتنا، وفعلنا أموراً أو تركنا أشياء، سيقول الله لنا يوم القيامة: فعلتم كذا، وكان عليكم أن تفعلوا غير ذلك.. ألم تسمع الحسين(ع) يقول كذا وكذا؟ ألم يقل الله تعالى في كتابه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[الإسراء: 36]؟

سيسـأل أبصارنا عمَّا رأت، وأسماعنا عمّا وعت، وقلوبنا عمّا أدركت، سنسأل عن كلِّ ذلك يوم القيامة. لذلك، هذه المواقف الّتي اختزنّاها في عاشوراء، إنما تؤسِّس للقادم من الأيّام، فلا يمكن أن أودّع الحسين غداً، وأن تنقطع علاقتي به في حياتي، لأنَّ الحسين في كلِّ سيرته حمّلني مسؤوليَّة عندما سمعت قوله: “ألا ترون إلى الحقِّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه”، وحمّلني مسؤوليّة أن أقول الحقَّ وأن أعمل به، وأن أرفض الباطل وأنهى عنه، عندما تحدَّث عن القاعدة التي انطلق منها من أجل رفض هذا الواقع القائم: “ألا إنَّ هؤلاء قد لزموا طاعةالشّيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيَّر”.

إذا التزمنا هذه المفردات وأضفناها إلى مفرداتنا الّتي نعبّر بها عن أمورنا وأوضاعنا، فسندرك أنَّ هؤلاء القوم ركبوا الشَّهوات والغرائز والأهواء، وسنّوا القوانين على خلاف إرادة الله سبحانه، باعتبار أنّهم كانوا في سلطة تشريعيَّة، وصادروا ثروات الأمَّة، واستأثروا بالفيء، أي بخزينة الدَّولة…

إذا أردنا أن نتحمَّل مسؤوليَّة هذه الكلمة من الإمام الحسين(ع)، لأنَّ الله سيحتجّ علينا بها يوم القيامة، فعلينا أن نفتِّش عن تطبيقاتها في أوضاعنا، ولكنَّ البعض يفتِّش عن تطبيقاتها لدى الآخرين وكأنّه غير معنيّ بها، لأنّنا ألبسنا خروج الإمام الحسين(ع) في كربلاء صبغة مذهبيَّة، فاعتبرنا أنَّ الإمام الحسين تحرّك مذهبيّاً ضدّ مذهبٍ آخر، وصرنا نفتّش عن هذه المعايير والأسس والمؤشّرات في الطرف الآخر، وكأنّه ليس عندنا أناس يستأثرون بالفيء في مذهبنا، أو ليس عندنا أناس يعطِّلون الفيء والحدود!

ولكنّ القاعدة تجري على الكل؛ على كلّ الذين استأثروا بالفيء، سواء كانوا منا أو من غيرنا، وسواء كانوا من المسلمين أو من غيرهم، فالحجَّة علينا من الله أن نبحث عن هؤلاء، فلا يمكن أن نكون مع الحسين ونحن مع الّذين يستأثرون بالفيء في واقعهم، ويصادرون ثروات النّاس، ويعطّلون الحدود، وينشرون الفوضى، ويسطّحون عقول النّاس، وهذه واحدة من المشاكل الأساسيّة في واقعنا ـ ونحن لا نستطيع أن نتناول كربلاء في كلّ جوانبها ـ فنحن نحيي عاشوراء منذ 1400 سنة تقريباً، وهناك دائماً شيء جديد، فكيف نستطيع أن نحيط بأبعاد هذه القضيَّة، فهناك بعض القضايا الّتي ربما تنفعنا أو ينفعنا التأمّل فيها في حياتنا.

ما هي المشكلة التي برزت بشكلٍ كبيرٍ في عاشوراء، والَّتي قسمت النّاس هناك إلى معسكرين؛ قلّة مع الحسين، وكثرة مع يزيد؟!

تسطيح الأمَّة هدف الطّغاة

لو دقَّقنا في واحدة من الأبعاد الَّتي يمكن أن نرصدها في عاشوراء، لوجدنا أنَّ هناك مشكلةً في ذلك الواقع، حيث يتفنَّن الطّغاة والجبابرة عندما يحكمون، والهدف من ذلك، أن يسطّحوهم من النّاحية الفكريّة، ويربطوهم بالقشور وبالشَّكل. وعندما يرتبط النّاس بالشَّكل، يسهل على الحكّام حينئذٍ أن يأخذوهم يميناً وشمالاً، ويسهل عليهم التحكّم بالسّيوف التي تتحرّك في أيدي هؤلاء الذين لا يملكون من العلم إلا قليلاً جدّاً، حتى يضربوا بسيوفهم ابن بنت نبيِّهم الّذي يؤمنون به، والّذي دخلوا في الإسلام لأنهم شهدوا أنَّه رسول الله(ص)…

إنَّ الحاكم الجائر عندما يسطّح ذهنيَّة الأمَّة، فإنّه يمنع النَّاس من أن تنقد أو تفكر بطريقة مستقلّة عن العقل الجمعيّ وعن طريقة تفكير الآباء والأجداد، إنّه يريد من الناس أن ينفّذوا ما يقوله، وأن يهتفوا معه، ويسيروا معه. ويحدِّثنا الله عن فرعون بقوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر: 29] ـ وهو ما نشهد مثيله اليوم، حيث نرى الزعيم يفكّر عن النَّاس ـ وهو لم يكتفِ بهذا، فعندما تحدَّث معهم عن العقيدة، وأخبرهم أنَّ موسى يدَّعي أنَّ هناك إلهاً آخر، هو ربّ السماوات والأرض وما إلى ذلك، قال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص: 38]، فقد اختصر الأمَّة كلّها بشخصه وبفكره.

هذا هو الواقع الذي كان في زمان تلك الحكومة الجائرة، وهذه إحدى أهمّ مشاكل الأنبياء مع الأقوام الّذين بعثوا إليهم، فلو درسنا سيرة الأنبياء من زمن آدم حتى نبيِّنا(ص)، لوجدنا أنَّ هناك صراعاً بين خطّين؛ الخطّ الأوّل هو خطّ الحاكم الجائر الطّاغية الفرعون النّمرود، وهو الّذي يستخفّ بعقول النّاس، ويريد أن يبقيهم في حالة خفّة فكريّة ثقافيّة، ويربطهم بطقوس وشعائر تسهِّل عليه أن يقودهم إلى ما يريد، والخطّ الثاني هو خطّ الأنبياء الّذين كانوا يريدون أن يرفعوا النّاس إلى مستواهم، ويريدون منهم أن يفكّروا، فقالوا لهم: {أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف: 24]. ماذا يعني ذلك؟ إنّه يعني أنَّ عليكم أن تفكِّروا، لعلَّ هناك هدى يأتيكم بغير ما كان عليه آباؤكم وأجدادكم، فمجرَّد أنّ آباءك وأجدادك أو مجتمعك يقول بهذا الأمر أو ذاك، ليس معناه أنّه الحقّ، ولو مضى عليه مئات السّنين… فالحقّ حقّ ولو كان وليد اللَّحظة، والباطل باطل حتى لو كان له مئات السّنين، لأنَّ العناصر الموضوعيَّة تقتضي أن نبحث عن الحقِّ والباطل في عناصر الشَّيء.

{قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 111]، فقد قال لهم النّبيّ: إذا أردتم أن ترفضوا شيئاً فارفضوه بدليل، وإذا أردتم أن تقبلوا شيئاً، فلا بدَّ من أن تقبلوه بدليل… فالرّفض يكون بدليل، والقبول يكون بدليل… {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ}، فهذا المجتمع ربما يأخذكم بعقله الجمعيّ، إذ قد يهتف شخص ما أن لا تسمع لهذا النّبيّ لأنَّه مجنون، فترى النَّاس يهتفون معه أنَّه مجنون.. {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[سبأ: 46].

إذاً، إنَّ رسالة الأنبياء هي أن يفكِّر النَّاس، ورسالة الزّعماء والسَّلاطين والطّغاة أن لا يفكِّر النَّاس. لذلك أين يكمن القمع؟ وماذا تصنع الدّيكتاتوريَّات بالشّعوب؟ إنها تمنع الإنسان من أن يفكّر، وإذا فكّر، فإنها تضغط عليه لكي لا يعبّر عن تفكيره، وعندما يعتاد عدم تعبيره عن أفكاره، فإنّه يعتاد أن لا يفكّر…

إذا كان الإنسان يخطِّط كثيراً، ويطالب بمطالب مختلفة، مثل الوضع الّذي نحن فيه هذه الأيّام، فإنّ هناك من يأتي ليقول له: لا يستطيع أحد أن يغيّر شيئاً، لماذا تفكِّرون من الأساس؟ هذا واحد من أهمّ الأبعاد التي تحركت في عاشوراء، وشكَّلت الأساس لحركة الإمام الحسين(ع)، من أجل أن يعيد إلى الأمّة الثّقة بأنها تستطيع أن تفكّر وتنقد، لأنَّ التَّفكير عندما يتعطَّل، يؤدِّي إلى فقد المعايير.

انقلاب المعايير!

عاشوراء مركَّبة من عاطفةٍ وفكر، والعاطفة هي الجسر الَّذي تعبر عليه الفكرة إلى عقولنا ووجداننا وأحاسيسن
ويمكن القول إنَّ واحدةً من أهمِّ المشاكل الّتي تعترضنا في إحيائنا لعاشوراء، هي أنَّه يقال لنا إنَّ عاشوراء دمعة وحزن وعاطفة، وليست فكراً، وبالتَّالي يسهل أن تتحوَّل إلى حالة من الزَّخم العاطفيّ الّذي يصادر كثيراً من القضايا الّتي تجعلنا أيضاً نقع في المشاكل والمنزلقات.

علينا أن نركِّز على نقطةٍ أساسيَّة، وهي أنَّ عاشوراء مركَّبة من أمرين: من عاطفةٍ ومن فكر، والعاطفة هي الجسر الَّذي تعبر عليه الفكرة إلى عقولنا ووجداننا وأحاسيسنا، فإذا كانت الفكرة غير موجودة، فلن يكون للجسر أهميّة، ولن نستطيع أن نعبر إلى تلك النّقطة حتى نحصل على الزّاد الّذي نريده.. فإذا كان الهدف أن نحصل على الطّعام الفكريّ والطّعام الروحيّ من عاشوراء، فالعاطفة هي الجسر الَّذي يصل هذا الزاد من خلاله إلى عقولنا ومشاعرنا وأحاسيسنا…

إنَّنا بحاجةٍ إلى فكرٍ وعاطفة، والفكر هو الهدف، والعاطفة هي الوسيلة الضَّروريَّة لتحقيق مستوى معيَّن من الهدف، لكن عندما يراد لنا باسم الولاء للإمام الحسين(ع) أن نقلب المعايير، فنحوِّل الوسيلة إلى هدف، والهدف إلى أمرٍ هامشيٍّ ثانويّ، فكيف سيصبح الواقع الَّذي نعيشه؟ هكذا صرنا نرى أنَّ النَّاس تحكم على الَّذي يحضر الكثير من مجالس السِّيرة الحسينيَّة بأنَّه يحبُّ أهل البيت(ع) ويواليهم أكثر من غيره، والإنسان الَّذي ينطلق بأساليب عنوانها مواساة الحسين، ويضرب الرّأس بالسّيف، والظّهور بالسّلاسل، ويمشي على الجمر وما إلى ذلك، أكثر ولاءً من الآخرين، لأنَّ المعيار عند هؤلاء عاطفيّ وحماسيّ، فهو يضرب نفسه باسم الإمام الحسين(ع)، لأنه يريد أن يبكيه بدل الدّموع دماً، فأين هو المعيار في ذلك؟!

عندما تنقلب المعايير عندنا، يصبح التَّقييم على الشَّكل والأسلوب، ولا يعود التَّقييم على المضمون، لذلك، صار الأكثر ولاءً هو الأكثر حضوراً للمجالس! ولكن إذا كان الفرد منَّا عاملاً ولا يستطيع حضور سوى مجلسٍ واحدٍ على الأقلّ، هل يكون أقلَّ ولاءً، رغم أنَّه في عمله يسير على نهج الحسين(ع)، ولا يرتشي، ولا يخون، ولا يسرق، ولا يحاول أن يتلاعب بالقوانين؟! ألا يسير هذا الشَّخص في خطِّ الحسين؟ أليس من الممكن أن يعيش الإمام الحسين في عقله وقلبه لحظةً بلحظة، لكنَّ ظروفه قد لا تسمح له بحضور أكثر من مجلس واحد؟!

إنَّ كثرة الحضور في المجالس لا تؤدِّي إلى أن يكون الإنسان أكثر ولاءً، ولا كثرة البكاء… فربما هناك من يتفاعل ما استطاع، وهناك من يبكي أكثر، فهل يكون المعيار هو البكاء، وربما يكون الَّذي يبكي أكثر من أوَّل الدَّاخلين في بعض في مواقع الخيانة لمجتمع المؤمنين… ألم نشاهد هذه النّماذج؟ ألم نفاجأ بأنَّ بعض النّاس الذين كنّا نعتبر أنهم الأكثر ولاءً، أصبحوا في موقع خيانة لمجتمع المؤمنين؟!

عندما تحدَّث الله تعالى عن المعايير، وعندما تحدَّث أهل البيت(ع) عن معايير تقييم النّاس، قالوا لنا: لا تنظروا إلى كثرة صلاة النّاس وصومهم وكثرة حجّهم… ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة.

ونحن نرى أنّه عندما أصبح المعيار لدينا فقط هو الجانب العاطفيّ في عاشوراء، أصبحنا ننساق وراء بعض الأنماط المتطرّفة في واقعنا الإسلاميّ وفي واقعنا المذهبيّ، وربما ننساق إلى بعض الفضائيّات التي يعدّ شغلها الشَّاغل نشر الفتنة بين المؤمنين، وهي تعرض مجالس عزاء مميَّزة من ناحية الأصوات… ما هو المعيار في ذلك؟ هل ندخل في فتنٍ بين المسلمين تحت عنوان ولاء هؤلاء للحسين؟ من قال ذلك؟

إنَّ المسألة لا تقاس بالشَّكل، فالأحاديث تقول: لا تنظروا إلى طول ركوعهم وسجودهم، فالعبادة لله سبحانه وتعالى، ولكن لا تنظروا إليها، فهي ليست المعيار الوحيد، فإذا اكتشفتم أنَّ شخصاً ليس عابداً لله، وليس موحِّداً لله، وليس مستقيماً، فاعرفوا أن لا قيمة لصلاته، فربَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه، وربَّ قائم ليس له من قيامه إلا التَّعب والسَّهر، وربما صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً.

فهذا هو المعيار؛ إنّه بحاجةٍ إلى عمقٍ فكريٍّ كان يسعى أهل البيت(ع) إلى تحقيقه، وكانوا يريدون من أتباعهم أن يتَّخذوهم القدوة، وأن يفكِّروا، وأن ينقدوا، وأن يكون كلّ واحد قائداً يستطيع أن يعرف خطّ سيره، حتّى ولو لم يكن إمامه معه.

عندما نتحدَّث عن عليّ الأكبر، عندما كان في الطّريق، وعلم بهاتف للحسين: “إنَّ القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم”، ماذا قال؟ كان يمتلك المعيار الّذي يصوِّب له سلامة المسيرة، قال: “يا أبت، أولسنا على الحقّ؟”، قال له الإمام: “بلى”، فقال: “إذاً لا نبالي أن نموت محقّين”.

وعندما أتى الشِّمر إلى العبَّاس وأخوته، وقال لهم: إنَّ لكم أماناً من ابن زياد فانجوا بأنفسكم، لأنَّ بينهم قرابة من جهة الأمّ، ماذا قال له العبَّاس؟ لقد قال له: ما قيمة النَّسب إذا كان النّسب لا يجعلني أقف مع الحقّ وفي صفِّ العدل، وذلك لأنَّ العباس على بصيرة من دينه، ويملك فكراً، ويملك معياراً.

إنَّ الله تعالى يقول عن يوم القيامة: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ}[المؤمنون: 101]، فقيمة النَّسب هي بمقدار ما تجعل شخصيَّة الإنسان وفكره وروحه تمتلئ بالقيم والحقّ، لذلك قال له: “لعنك الله ولعن أمانك”.

إذا أردنا أن نخرج من عاشوراء بزاد، فلا بدَّ من أن نبدأ رحلة تجسيد كلِّ الأبعاد…
حتّى نكون من أصحاب الحسين(ع)

إنَّ المعيار واضح، وإذا أردنا أن نخرج من عاشوراء بزاد، فلا بدَّ من أن نبدأ رحلة تجسيد كلّ الأبعاد؛ إننا بحاجة إلى خطّة عمل على المستوى الفكريّ، فما هو المطلوب لكي نكون من أصحاب الحسين(ع)؟ كما أنّنا بحاجة إلى خطّة على المستوى الروحيّ، فالإمام الحسين كان في أعلى مستوى العشق مع الله سبحانه وتعالى، ولو لم يكن الإمام الحسين(ع) في هذا المستوى من القرب من الله والعشق له، هل كان يستطيع قلبه أن يتحمَّل كل تلك الآلام والمشاهد الفظيعة؟

هذه الأمور بحاجة إلى إيمانٍ قويّ، ويقينٍ راسخ بالله سبحانه وتعالى، فأين نحن من إيمان أبي عبد الله الحسين(ع)؟ صحيح أنَّ الإمام معصوم، ولكنَّه أعطانا النَّموذج: “هوَّن ما نزل بي أنَّه بعين الله”، وترك لنا أدعيته في يوم عاشوراء: “اللَّهمَّ أنت ثقتي في كلِّ كرب، ورجائي في كلِّ شدَّة، وأنت لي في كلِّ أمرٍ نزل بي…”.

علينا أن نتفكَّر في كلّ ما سمعناه، وفي كلّ ما عايشناه، وفي كلِّ ما تفاعلنا معه، كيف يمكن أن نحافظ عليه في قادم الأيَّام، حتى نلتقي مع الحسين مجدَّداً في ذكرى عاشوراء المقبلة، وقد تغيّر فينا شيء كثير، واقتربنا من الحسين أكثر، اقتربنا منه روحاً وعملاً وفكراً.

كلمة ألقاها سماحته في اللَّيلة العاشرة من عاشوراء، في مسجد الإمامين الحسنين(ع).