معايير الخطاب الإسلامي تجاه الإساءة للنّبي (ص)


الخطاب الإسلامي هو المنتج التعبيري عمّا يجول في نفس الإنسان من مضمون؛ وهو – فيما يرتبط بموضوع الإساءة – يتضمّن أمرين:

الأوّل: الاستجابة لحدثٍ حصل في حيّزٍ زمانيّ ومكانيّ وضمن ظروفٍ محدّدة.

الثاني: كونه إسلاميًا، فهو يعبّر عن المنظومة التي ينتمي إليها المنتِجُ للخطاب، أي الإسلام. وبالدّقة يعبّر عن النظرة والممارسة اللتين يختزنهما المنتجُ للخطابِ عن الإسلام. وحديثُنا هنا عن المنظومة المعياريّة، وهي وإن مثّلت وجهة نظر كاتب هذه السّطور، ولكنّها كتبت بمنحًى معياريّ مع الأدلة والشواهد.

هذه المنظومة إذًا لا بدّ أن تعبّر عن نفسها في مستويين:

  • ‌أ. مضمون الخطاب.
  • ‌ب. أسلوب الخطاب.
  • ‌ج. غاية الخطاب، أو السبب الذي يدعو إلى إنتاج الخطاب في مواجهة الإساءة للنّبي (ص) أو لأيّ من المقدّسات أو الرموز التي تعنيه.

غاية الخطاب: التغيير

وسأبدأ بغاية الخطاب، باعتباره ينعكس على مضمون الخطاب وأسلوبه. فمن يندفع ليعبّر انطلاقًا من حالة انفعاليّة ذاتيّة بالحدث، فإنّ أثر ذلك على الخطاب، مضمونًا وأسلوبًا، سيخلفُ عمّا لو كان الحال هو إرادة التغيير انطلاقًا من التعبير.

والذي يمكن لنا أن نرصده، كإشارة من كلمةٍ للإمام عليّ (ع) يقول فيها: “فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق”[1]، حيث المطلوب ليس مجرّد التنفيس عن حالة انفعاليّة، وإنّما المطلوب أن يتحوّل التعبير إلى حالةٍ تغييريّة، سواء في تثبيت الحقّ أو في إزالة الباطل في المسألة التي يكون المؤمن بصددها.

هذه الخلفيّة لا تحصل بشكل تلقائيّ بمجرّد أن يكون الإنسان مسلمًا، بل هي مسألة تحتاج إلى تربية وتدريب ومواكبة للنفس لكي يصبح الإنسان قادرًا على التحكّم بغضبه انطلاقًا من سيطرة العقل على التوجّه والحكم والحركة. ولذلك فإنّ من السذاجة هنا الربط بين المسلمين وأقصى درجات التعقّل والرويّة لمجرّد كونهم كذلك؛ فهذا تمامًا كمن يطلبُ من مجتمعٍ ما أن يكون أفراده مواطنين صالحين لمجرّد حصولهم على الجنسيّة!

ولذلك، ومن ناحية واقعيّة، فإنّ الأغلبيّة في أي مجتمع تحتاج إلى ضوابط وكوابح للانفعال إذا ما أريد توجيه ردّات فعلها بطريقة عقلانيّة، وهذا هو دور القيادات والنخب والقوانين والإجراءات بطبيعة الحال. وهذه النقطة مهمّة، باعتبار أنّها تشكل مدخلًا أساسيًا لاستثمار انفعالات الجماهير من قبل أي جهة تخطّط لخلق توترات وفتن في أي مجتمع من المجتمعات، وبالتالي يكون عدم ملاحظتها سببًا في وضع الجماهير المسلمة المتألّمة في يد جهاتٍ أخرى.

ومن نافل القول هنا إنّ الحالة العاطفيّة للجماهير أمرٌ حيويّ، وهو يشكّل داعمًا أساسيًّا لمسار أي قضيّة؛ لأنّ التغيير لا يقوم إلّا على حركة الجماهير المتناغمة مع الخطاب واتجاهه وأهدافه، وإنّ قضيّة من دون جماهير هي قضيّة معرفيّة في أقصى درجاتها، وهي لا تتجاوز الموقف السياسي الإعلامي، الذي لا روح له ولا قوّة.

وبعبارة أخرى، إنّ المنطق السياسي السائد لا يقوم على الحقّ فقط، بل على  الحقّ المتبنّى من شرائح شعبيّة يمكن أن تضغط باتّجاه فرضه على الواقع؛ وهذا ما تحسبُ حسابه الدول والأحزاب والاتجاهات. حتّى القيادات التي يُحسب لها حسابٌ، إنّما هي القيادات والجماهير؛ أمّا افتراض قيادة من دون جمهور، فهي حالة فرديّة تحرّك الفكرة عند من تستهويه، لا حالة تغييريّة واقعيّة.

وبناءً على ذلك، لا ينبغي أبدًا التفريط بالانفعال والعاطفة الشعبيّين تجاه القضايا التي تستفزّ قضايا الهويّة؛ إذا فيها الكثير من الإيجابيّات، ويمكن أن تشكّل نقطة تحوّل في تجاوز الكثير من الأوضاع السلبيّة التي يمكن أن تكون تراكمت في المجتمع أو الأمّة.

ولكنَّ هذا كلّه رهنٌ بنوع الخطاب الذي يمكن أن يواكب حركة الجماهير العاطفيّة، وذلك ما نسلّط الضوء عليه ضمن المعادلة التي تضمّ الجماهير إلى جانب القيادة والنّخب.

معايير الخطاب

أمام ذلك، فإنّ من المهمّ لنا الحديث عن مستويي الخطاب، أعني المضمون والأسلوب، وذلك في الدخول مباشرة في المعايير الواجب اعتمادها في ردّات الفعل تجاه أحداث من هذا النّوع.

أوّلًا: اعتماد المعايير العلمية في إثبات الحدث وتفاصيله، وهذا ينبع من احتكام الإنسان إلى قيمة الحقّ والعلم، فقال تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)[2]، (ولا تقفُ ما ليس لك به علمٌ إنّ السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولًا)[3]. وهذا ما يفرض علينا تحرّي الدقّة في التعرّف على الحدث، في أصله الذي قد يكون مكذوبًا، أو في تفاصيله التي قد تخفى بسبب طريقة صوغ الخبر أو بسبب خلفيّات الوسائل الإعلاميّة التي تنقله.

ثانيًا: الحذر من الوقوع في التعميمات التي يسارع النّاس عمومًا إلى القيام بها، ففي مسألة الإساءة قد تكون صادرة من شخصٍ، ولو كان رئيسًا للجمهوريّة، أو من صحيفة معيّنة، فإنّ هذا الأمر يجب التعامل معه بحدوده، وذلك لا يعني بالضرورة أنّ كلّ المواطنين هم موافقون على هذا السلوك، كما لا يعني أنّ كلّ وسائل الإعلام هي كذلك.

صحيح أنّ “الرضى” الذي يمحضه النّاس لسلوكٍ ما يجعل الجميع منخرطين فيه، وهو ما أشار إليه حديثٌ عن عليّ (ع): “أيها الناس، إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا، فقال سبحانه: (فعقروها فأصبحوا نادمين)”[4]؛ مع ذلك فإنّه لا يجب النظر إلى هذا الموضوع بسذاجة؛ لأنّ الراضين أيضًا ليسوا على نسقٍ واحد من المعرفة والثقافة، وبالتالي، عندما يكون الهدف من الخطاب هو التغيير، فإنّ من الضروري التمييز بين هؤلاء؛ إذ هناك فرقٌ بين الخطاب الموجّه إلى أناس مضلّلين إعلاميًّا تجاه الإسلام والمسلمين، وإلى أناسٍ على درجة من المعرفة، وأيضًا يجب التمييز بين أناسٍ قد احتكّوا بمسلمين، وأناسٍ لم يحتكّوا؛ وبين أناس يدركون التنوّع الموجود في المسلمين وبين أناسٍ لا يدركونه..

حتّى أنّنا ملزمون هنا بتحديد التنوّعات السياسية الموجودة في بلدٍ ما، فهناك حكمٌ وهناك معارضة، وكلٌّ منهما قد يكون له موقفٌ مختلفٌ، ولو آنيًا، تجاه قضيّة الإساءة.

هذا المعيار يفرضه قول الله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداءَ بالقسطِ ولا يجرمنَّكُمْ شنآنُ قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقربُ للتقوى)[5]. ليست هذه الآية الكريمة مرتبطة فقط بالموقف، وإنّما هي تخلق ذهنيّة عند الإنسان المسلم في كيفيّة  التعامل مع المجتمعات والدّول التي نختلف معها في الدّين أو في المذهب أو في خطّ سياسي، حتّى لو كانت بمستوى العداوة؛ فإنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يحرف الإنسان عن قيمة العدل، والتي تتجلّى بعدم التعميم.

ويقول تعالى أيضًا: (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أخرى)[6]؛ فإنّه لا يحقّ للإنسان أن يحمّل مسؤوليّة لغير المرتكبين للإساءة، ممّن قد يحملون مشاعر السلام للمسلمين، وقد لا يكونون حتّى موافقين على هذا السّلوك، بل ربّما يكونون رافضين لكلّ السياسة التي يرتكز إليها من يترأسهم أو يقودهم.

ثالثًا: عدم التبرير لأيّ جريمة يمكن أن تصدرَ من قبل من ينتمون إلى ديننا، وذلك بسبب الانفعال النّفسي بالإساءة، تمامًا كمن يطلبُ “شفاء غيظِ” نفسه بأيّ طريقةٍ، ولو أودت بحياة أبرياء. الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)[7].

إنّ الإنسان المسلم – بمقتضى هذه الآية – هو الذي يبني ذهنيّته على الاحتكام للمعايير الإسلاميّة للحكم بالعدل، حتّى لو كان ذلك ضدّ نفسه أو أقرب المقرّبين إليه. وبالتالي لا يغيّر من أيّ جريمة أن يكون مرتكبها مسلمًا، حتّى لو أتت كردّة فعل انفعاليّة ضدّ إساءة مسّت مقدّسًا من المقدّسات.

وهنا نقول: إنّ الموقف التبريري الذي قد ينزلق إليه المسلمون يجعلهم مشاركين بالرضا، كما أسلفنا الحديث عنه، وهذا الرضا يخلق أرضيّة لتكرار الفعل من قبل الشخص نفسه أو آخرين، كما أنّ الرفض لأيّ جريمة أو فعلٍ مخالفٍ للمعايير هو بمثابة تأكيد على القيم التي يجب أن تحكم سلوك المنتمين إلى المجتمع الإسلامي، وهذا جزءٌ من عمليّة التربية والتوجيه غير المباشرة التي يخضع لها الأفراد في أيّ مجتمع.

إنّ كون الفعل قد أتى كردّ فعلٍ انفعاليّ، يجعلنا نميّز في الخطاب بين أمرين:

الأوّل، في توصيف الجريمة أو ردّ الفعل نفسها، وهذه لا بدّ أن تكون واضحة ضمن المعايير التي نركن إليها. والثاني، هو في تحليل العلاقة التي تربط النتائج بالأسباب، وما هي المسؤوليّات المترتّبة على ذلك من قبل الجهات التي لم تراعِ الجانب العاطفي عند النّاس، وكذلك المسؤوليّات المترتّبة على المجتمع الإسلامي نفسه في العمل على رفع مستوى الجماهير بشكل دائمٍ ومستمرٍّ، وتفعيل آليّات الضبط، رحمةً بالعباد والبلاد؛ وهذا – بطبيعة الحال – جزءٌ من العملية المستمرّة للجهات المعنيّة بتوجيه المجتمع الإسلامي.

إنّ الله تعالى يقول عندما تحدّث عن القتال قال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونَكُم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبُّ المعتدين)[8]، وإذا كان هذا في حال القتال، فكيف الأمر ضمن المجتمعات المسالمة؟! هنا قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين، إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدّين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون)[9].

إذا وقفنا وقفة تحليليّة أمام الآية الثانية، فإنّه حتى في حالة عداء السياسة لدولةٍ ما، فإنّ النهي ورد فيها عن الموالاة، ولم يبَحْ للإنسان أن يقاتل أبناء الشّعب الذين انتخبوا هذا الرئيس أو ذاك.

رابعًا: لقد أشرنا فيما سبق إلى أنّ الحالة الانفعاليّة التي تطبع الجماهير، في أي مجتمع لا في مجتمعات المسلمين فحسب، تتطلّب إجراءات تربويّة وقانونيّة رادعة، والمراجع للنظام التشريعي الإسلامي يجدُ أنّ العمل لا يتمّ فقط على الانضباط الذاتي، أو الالتزام الإيماني للإنسان، بل يحاط بمجموعة من العناصر المساعدة على الالتزام، والمعيقة للانحراف.

وهذا الأمر، يسمح أيضًا لصناعة ما يشبه المسرح، حيث يُدفعُ أشخاصٌ إلى أدوار مهيّأة لهم من حيث لا يدركون، وتكون النتيجة هي الحصول على نتائج تتطلّب انخراط مجموعة من الفاعلين بطريقة يرسمها السيناريو نفسه، ولا بدّ أن يدخل فيها هؤلاء الفاعلون حقيقةً، ولذلك يكون المسرح هو الحياة العامّة. كثيرٌ من الفتن والمؤامرات صيغت بهذه الطريقة، وتمّ استثمار سذاجة الجماهير تجاه القضايا المثارة، وبعضها أدّى إلى نتائج كارثيّة.

هنا تقع المسؤوليّة على الأنظمة السياسية الغربيّة، في مدى كونها تساهم، سواء في قوانينها أو في إدارة الحياة السياسية، في خلق أجواء سلميّة أو متوتّرة بين الجماعات. هنا أيضًا يكمن دورٌ للتفاعل بين الجهات الإسلاميّة وبين الأنظمة الغربية من أجل تهيئة الأرضيّة لهذا اللون من السلم الأهلي والمجتمعي.

إنّ المطلوب من المسلمين اليوم التعاطي مع ما يجري في الغرب انطلاقًا من النُّظم والقوانين، واعتبار ذلك حافزًا للنضال انطلاقًا من منطق النظام نفسه، وهذا لا بدّ أن يرتكز إلى النظر إلى الإسلام على أنّه جزءٌ من المجتمع وليس لاجئًا أو غريبًا، ونظر المسلمين إلى أنفسهم على أنّهم جزءٌ من الدول التي يعيشون فيها، وأنّ على الدّولة أن تحمي وجودهم، وتساهم في تطوّره. وهذا هو الذي يفرض على رؤساء الدّول أن يحذروا من أن يضبطوا متلبّسين بخطابٍ عنصري، أو أنّ يخلّوا بالسِّلم الأهلي بسبب نظرة تمييزيّة بين المواطنين على أساس ديني.

لا يمكن – بطبيعة الحال – أن يتمّ التغاضي عن الأنماط المتطرّفة من القراءة للإسلام لعقود، ويمعن النظام في تنميط صورة المسلمين تبعًا لأداء المنتمين لهذه الأنماط، ثمّ نطلبُ نتيجة مغايرة لما قد نجده اليوم.

كما أنّ هنا نقطة مهمّة، وهي أنّ من ضمن مسؤوليّة رفع مستوى الوعي لدى الجماهير المسلمة هو التأكيد على الطابع العميق في الارتبط بالنّبي (ص)، فليس الارتباط به مجرّد ارتباط عاطفي شخصيّ، بل هو ارتباط عاطفيّ يرتكز إلى طبيعة شخصيّته؛ فالنّبي (ص) له صفته الرساليّة، فهو صاحبُ رسالة ومشروع للعالَم، وهذه الرسالة والمشروع يتمظهران في مجالات متنوّعة، ومستويات عديدة، بحيث لا يتفاوت سلوك المسلمين بين الإساءة لشخص النّبي وبين الإساءة لمشروعه؛ لأنّ هذا يشي بنوع من السطحية التي يعانيها المجال الإسلامي، وهي ذاتُها السطحية التي يمكن أن ترتكز عليها جهاتٌ تحمل اسم الإسلام ومشروعَ ضدِّه، أن تستثمر عاطفة الجماهير، لتدخلها في حالة من الحماس ضدّ جهات تسيء إلى شخص النّبي، وتُشغلُ عن جهاتٍ تسيءُ إساءات أكبر إلى مشروعه.

إنّ من غير الطبيعي أن يكون لدينا دول إسلاميّة تمارسُ التطبيع مع العدوّ، وتضيّق على الحركات الإسلاميّة المقاوِمة للاحتلال، وتغضُّ النّظر عن آلام الشعب الفلسطيني ومآسيه والمجازر المستمرّة بأجياله، وفي الوقت نفسه تحمّس المسلمين لمواجهة إساءات غربيّة، لكي تشغلها عن مشاريع التطبيع التي تنوي الذهاب بها قُدُمًا.

إنّ من الممكن أن يقوم المسلمون بمرحلة الردّ، بحيث يغضُّ النظر عن بعض الإساءات لمصلحة إدارة المواجهة، فيتمّ التركيز على جبهة دون أخرى، لكنْ هذا شيء، والسطحية في النظر إلى القضايا شيء آخر.

نلمح التوجيه الإسلامي الرائع في قضيّة سقاية الحاجّ وقضايا الإسلامي الحيّة: ( أجعلتُم سقايةَ الحاجِّ وعمارَةَ المسجد الحرامِ كمَنْ آمنَ باللهِ واليومِ الآخر وجاهدَ في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين)[10]؛ وبهذا تتوازن النظرة الإسلاميّة وتتّسع لتكون أكثر شموليّة وعمقًا.

خامسًا: تتطلّب مقاربة مثل هذه المواضيع البحث عن العوامل المؤدّية إلى ردّات الفعل، وعدم اجتزاء التفسير بعاملٍ واحدٍ، غالبًا ما يتمّ إلصاقه بالإسلام أو ببعض التشريعات أو ببعض الفتاوى، أو ما إلى ذلك.. وهذا ما يصنعه – للأسف – بعض المسلمين الذين – بسبب السقوط الحضاري – يمعنون في جلد الذات، وتحميل أنفسهم أغلبَ الأعمال المتطرّفة التي يقوم بها منتمون إلى جماعتهم، في الوقت الذي يفيد منطق الأمور عدم التفسير المجتزأ؛ لأنّ الفكر المتطرّف نفسه لا بدّ له من عوامل متعدّدة حتى يتحوّل إلى سلوكٍ عدوانيّ تجاه الآخر، وليس الفكر هو العامل الوحيد.

عندما يمارسُ بعض المسلمين جلد الذّات، فإنّهم بذلك يبرّرون ما تصنعُهُ أي جهات تعيش التعصُّبَ ضدّ الإسلام، أو لديها مخطّط مرتبط بمنع هجرة المسلمين إلى الدول الغربيّة، وهي تمارسُ أيضًا دورًا في تنميط المسلمين جميعًا بالنمط المتطرّف. كما أنّ ذلك يبرّر الإساءة والإمعان فيها، كما يبرّر سياسات الكيل بمكياليْن التي تقوم بها القوانين تجاه المسلمين وغيرهم.

إنّ هناك فرقًا بين أن تحمل مسؤوليّة جزئيّة، وبين أن تبرّر عدم تحمّل الآخرين لمسؤوليّاتهم التي قد تفوق بدرجات مسؤوليّتك في الحدث وتداعياته.

سادسًا: في وصيّة للإمام عليّ (ع) لولديه الحسنين (ع) ولكلّ من بلغه كتابه: “أوصيكما… بتقوى الله ونظمِ أمركم”[11]، وبالتالي لا يمكن للوجود الإسلامي الغربي أن يبقى مشرذمًا، وأن لا يكون له مشروعٌ سوى إدارة شؤون المعيشة على نحوٍ فرديّ.

إنّ غياب أي مشروع سياسي للمسلمين في الغرب يؤدّي إلى بقائهم مستهلكين لسياسات الآخرين، وهذا لا يمكن وضعه بطبيعة الحال في أيدي الجماهير المسلمة، بل هذا الأمر تضطلع به القيادات الإسلامية التي تملك التأثير والتوجيه على حركة المسلمين.

لا يعني ذلك العمل على قلب الأنظمة، وخلق التوتّرات المجتمعيّة في داخل كلّ دولة، بل المسؤولية الدعوية النورانيّة، التي يمكن من خلالها أن يضيف المسلمون للتجربة الغربية ما يصوّب مساراتها. فإذا كانت بعض الصحف تسيء إلى صورة السيّد المسيح (ع)، فإنّ هذا يعني المسلم، باعتبار أنّه ممارسة خاطئة لحرّية التعبير، وهو يفرض أن يقوم المسلمون بإيصال القيمة التي يرتكزون إليها لغير المسلمين، بهدف تغيير نظرتهم، وهذا جزء من حركة الإسلاميين الإيجابية في التغيير المجتمعي.

إنّ التعامل مع الجزئيّات والمفردات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وما إلى ذلك، يمكن لها أن تشكّل غنًى في التجربة الإسلامية التي يقودها المسلمون في الغرب، ولكنّ هذا رهنٌ بعامليْن: الأوّل وجود المشروع والتنظيم، والثاني هو العامل النفسي الذي يعيش المسلمون من خلاله تقدير الذّات لديهم.

أخيرًا: العقلانيّة هي التي يجب أن تحكم إنتاج الخطاب، وذلك بمعزلٍ عن مدى الإساءة. حتّى عندما يُراد تجييش الجماهير واستثمار غضبها، فلا بدّ أن يكون ذلك نتيجة حالة عاقلة من التخطيط والدراسة، لا حالة متفلّتة من إطار العقل والحكمة؛ وذلك لأنّ الساحة مفتوحة على لاعبين كُثُر، ومن الممكن أن يبدأ الإنسانُ بردّ فعلٍ ما، ولكنّه لا يستطيع التحكّم بتداعيات ذلك أو بنتائج ذلك في نهاية المطاف، بسبب كثيرٍ من التعقيدات التي قد تفرض نفسها على الساحة.

وانطلاقًا ممّا تقدّم، يمكن لنا أن نشير إلى بعض تجليّات العقلانيّة:

ما هي الرسالة التي نريد إيصالها عبر الخطاب المنتج؟ سواء كنّا نتحدّث عن خطابٍ كلاميّ أو غيره؟

ما هي نوعيّة المخاطَبين الذين نتحدّث معهم؟ أو نوجّه خطابنا إليهم؟ هل هم على درجة واحدة من استيعاب الرسالة؛ أم هم متفاوتون؟ وإذا كانوا متفاوتين، فهل سيؤدّي توجيه الرسالة بطريقة معيّنة إلى جعلهم يفهمونها بطريقة خاطئة؟  هل سيعزز ذلك الصورة النمطية للمسلمين ويوسّع دارة انتشارها؛ أو أنّه سيضيّقها؟

هل المنتَج هو الخطابُ المعبّر عن الحالة النفسية الرافضة فقط؛ أم أنّ هناك خطابًا آخر يواكبُ تحقيق التغيير على المدى البعيد؟ هذا الأمر يفرض حركة من داخل النظام، بما يمتلكه المسلمون من وسائل من أجل فرض تغيير قوانين، واحترام الآخر لهم من موقع احترامهم لذاتهم، والسير في جعل أنفسهم حاجةً للآخرين من خلال تحوّلهم من فئات مستهلكة إلى فئات منتجة.

ما هي الخيارات المتاحة أمام الخطاب؟ الكلام؟ السكوت؟ الإعراض عن الجاهلين؛ على قاعدة (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا)[12]؟ أو الانتصار، على قاعدة (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)[13]، أو على قاعدة توزّع الأدوار في الإعراض والانتصار؛ على قاعدة (عرَّفَ بعضَهُ وأعرضَ عن بعضٍ)[14].. وهنا تكمن أهمية مراعاة ردّ الفعل الشعبي والنخبوي على حدّ سواء؛ من دون التفلّت من التوازن الذي قد تقع فيه الجماهير، بما لا يمنح القيادات فرصة لتحريك الموقف بعقلانيّة؛ وفي الوقت نفسه دون أن تتحوّل الحالة العقلانيّة إلى حالة من البرودة المطلقة التي لا تؤثّر شيئًا في حركة الواقع..

هل يمكن النظر إلى أنّ الظلم الذي يتعرَّضُ له المسلمون هو فرصةٌ يجب استثمارها في رفعِ ظلمٍ أكبر؟

هذا كلّه يتطلّب أعلى درجات العقلانيّة في دراسة الأمور، وأقصى مستويات التنظيم في إدارة ردّ الفعل، والمحافظة الدائمة على القدرة على التحكّم بمسارات الأمور، وتهيئة الخطط الأساسية والبديلة؛ لأنّنا في عالمٍ معقّد ومتشابك، ولا يمكن الحصول فيه على النتائج الإيجابيّة بالارتجال!

_______________________________

كلمة ألقي ملخّصها في ندورة عقدها المعهد الشرعي الإسلامي ببيروت، في ذكرى المولد النبوي الشريف، تحت عنوان: “الخطاب العنصري ضدّ الإسلام وردود الأفعال: قراءة اجتماعية ودينية”؛ بتاريخ 19- ربيع الأول – 1442هـ؛ الموافق لـ 5-11-2020م

[1] نهج البلاغة، ج3، ص127، الكلمة رقم 66.

[2] سورة البقرة: 111.

[3] سورة الإسراء: 36.

[4] نهج البلاغة، الخطبة 201.

[5] سورة المائدة: 8.

[6] سورة فاطر: 18.

[7] سورة النساء: 135.

[8] سورة البقرة: 190.

[9] سورة الممتحنة: 8-9.

[10] سورة التوبة: 19.

[11] نهج البلاغة، ج3، الكلمة رقم 47.

[12] سورة الفرقان: 63.

[13] سورة الشورى: 39.

[14] سورة التحريم: 3