تأمّلات حول التّقارب الإيراني الأمريكي


السيد د. جعفر فضل الله

فوجئ الكثيرون بالتّقارب السّريع بين الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة والولايات المتّحدة الأمريكية، على هامش مؤتمر الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة مؤخّراً، مع أنّه من الواضح أنّ هذا الأمر أتى نتيجة تراكم جملة من الأحداث لسنا بصددها هنا.

إلّا أنّ من الضروريّ التوقّف لتحليل هذا الموقف؛ لا من ناحية الظروف السياسيّة التي أحاطت به أو فرضته، بل من ناحية الموقف المبدئي الّذي ما فتئت الجمهوريّة الإسلاميّة تعلنه منذ انتصار ثورتها، وعلى لسان الإمام الخميني، مفجّر الثّورة، نفسه، أنّ “أمريكا هي الشيطان الأكبر”! وحتّى الآن، ما زالت جماهير الدولة تُطلق شعار “الموت لأمريكا”؛ بل إنّنا نجد أنّ مسألة العداء للولايات المتحدة الأمريكيّة مسألة مبدئيّة لدى الحركات الإسلاميّة بعامّة، سواء أكانت حركات مقاومة، أم حركات تكفيريّة، أم غير ذلك.

والسّؤال الّذي نطرحه هنا، بمعزل عن المنطلقات الّتي تتحرّك من خلالها الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة في موقف التّقارب ذاك: هل ثمّة في الفقه الإسلاميّ ما يغطّي هذه المسألة؟ وما هي القواعد النظريّة التي لا بدّ من ملاحظتها في مقاربتها؟ وهل مسألة العلاقة السلبيّة مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة هي ـ في الأصل ـ مسألة ثابتة أم متحرّكة؟

والسّؤال الّذي يطرح نفسه تالياً: هل يُمكن أن يؤمّن ذلك غطاءً لليونةٍ تجاه العدوّ الصّهيوني أيضاً، أو للقبول بالأمر الواقع الاحتلالي لفلسطين، نظراً إلى كون احتضان “إسرائيل” يمثّل ثابتاً من ثوابت الاستراتيجيّة الأمريكيّة تجاه المنطقة العربيّة والإسلاميّة؛ الأمر الّذي يعني أنّ التقارب معها لا بدّ من أن يكون له صلةٌ بهذا الثابت؟

ثبات قضيّة فلسطين إسلاميّاً

ربّما يحسُن البدء من حيثُ انتهى السؤال الأخير، لنقرّر بما لا يقبلُ الشكّ، أنّ الرفض لشرعيّة الكيان الصهيوني هي مسألة مرتبطة بالمبادئ الثابتة، والتي هي مبادئ تتّصل بالموقف من أصل وجود هذا الكيان؛ لأنّه كيانٌ قائمٌ على الغصب للأرض، والغاصبُ مُطالبٌ في الفقه الإسلامي بأن يردّ ما اغتصبَه مهما تقادم الزّمن.

كما أنّ المسألة مرتبطةٌ بعنوان أرض فلسطين نفسها؛ لأنّها ملك المُسلمين، ولا يملك الفلسطينيّون أمر التصرّف بها بما يخرجها من تحت السلطان الإسلامي العامّ؛ بل يكاد القرآن الكريم يثبّت استراتيجيّة إسلاميّة في تحرير بيت المقدس، وذلك قوله تعالى: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً}[1].

ولعلّ من نافلِ القول هنا، أنّ العناوين الثانويّة تحتّم ثبات هذا الرّفض، بمعنى أنّه لا يُمكن إخضاعُ المسألة ـ تحت ظلّ التخاذل النفسي والجهادي ـ لفقه الضّرورات؛ لكون الكيان الصهيوني قائماً على عقيدةٍ استعلائيّة تبيح قتل من عداه؛ لكونهم “حشرات وأفاعي”، مضافاً إلى أنّه كيانٌ توسّعي، بمعنى أنّه يقف على النقيض التامّ من الوجود الإسلاميّ؛ ما يعني أنّ القبول بشرعيّته هو أشبهُ ما يكون بالقول بشرعيّة ضرب الإسلام والكيان الإسلاميّ!

وقد يتساءلُ قائلٌ: أين تضعون التفاهمات الميدانيّة السياسيّة الّتي حصلت سابقاً، بين المقاومة في لبنان وفلسطين وبين العدوّ الصهيوني، كما حصل في تفاهمات 1993 و1996 في لبنان، و2008 و2012 في غزّة – فلسطين، وغيرها؟ أليس هذا نوعاً من الاعتراف بالأمر الواقع الاحتلالي؟

ولكنَّ المسألة هنا مختلفة تماماً، ولا يُمكن قراءتها بمعزل عن الظّروف الّتي كانت قبل التفاهمات وبعدَها؛ لأنّ التفاهم لا يمثّل اعترافاً بالشرعيّة، وبالتّالي اصطداماً بالمبدأ، وإنّما هو محطّة من محطّات الصّراع تقتضيها المعطيات القائمة وموازين القوى الإقليميّة والدوليّة، ليُعمل على تثبيت الأرضيّة التي تتحرّك عليها الخطّة المتكاملة للتحرير الكبير.

المبدأ الثابت والآليّات المتحرّكة

وهنا نستطيع أن نُطلق قاعدةً للسياسة الإسلاميّة، وهي أنّ الإسلاميّين لا يملكون التنازل عن المبدأ، ولكنّهم ـ في الوقت نفسه ـ ليسوا مثاليّين أو خياليّين، بحيث يتحرّكون بطريقة متعالية عن كلّ ظروف الواقع وضغوطاته، بما قد يؤدّي ـ في نهاية المطاف ـ لا إلى ضرب المبدأ فحسب، وإنّما إلى ضرب من يحملون لواءه وشعارَه.

وهذا ما يُمكن استيحاؤه من الآية القرآنيّة: {يا أيّها الذين آمَنوا إذا لقيتُمُ الذينَ كَفَروا زَحْفاً فَلا تُوَلّوهُمُ الأدْبارَ * ومَنْ يُوَلِّهِمْ يومَئذٍ دُبُرَهُ إلا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أو مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فقد باءَ بغَضَبٍ من اللهِ ومأواهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصيرُ}[2].

إنّ المبدأ هو المواجهة المباشرة ضمن صراع القوى؛ لأنّ حالة الوهن والفرار من الزّحفِ، تؤدّي إلى ضرب المبدأ الّذي يُراد تثبيته من خلال الوجود الإسلاميّ، ويؤيّد ذلك ما روي عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا(ع)، حيث يقول: “وحرّم الله الفرار من الزّحفِ؛ لما فيه من الوهن في الدّين، والاستخفاف بالرّسل والأئمّة العادلة، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة لهم على إنكار ما دُعوا إليه من الإقرار بالربوبيّة، وإظهار العدل، وترك الجور، وإماتة الفساد؛ لما في ذلك من جرأة العدوّ على المسلمين، وما يكون في ذلك من السّبي والقتل وإبطال دين الله ـ عزّ وجلّ ـ وغيره من الفساد”[3].

أمّا عندما تحتاجُ الظّروف إلى حركة التفافيّة، أو الانتقالِ إلى موقعٍ آخر، يستهدف تحقيق النصر، ضمن خطّة مدروسة الخطوات والنّتائج، فإنّ هذا أمرٌ جائزٌ، بل مطلوبٌ؛ انطلاقاً من الواقعيّة الإسلاميّة الّتي لا تغامر ولا تجازفُ بالمبدأ لحساب الشّعارات الكبيرة، بل تتحرّك وفق ما يخدم خطّتها للنّصر والنّجاح ضمن الظّروف الممكنة واقعيّاً، وتعمل ـ في الوقت نفسه ـ على تغيير الظّروف، عبر تجميع القوى وإعادة الانتشار، وما إلى ذلك من تكتيكات معروفة في عالم القتال والمواجهة.

وإذا كانت هذه الآية واردةً في سياق الحديث عن حركة القتال العسكري، فإنّ المبدأ الذي تستند إليه لا يقتصر على هذا الجانب، بل يُمكن أن ينسحب ذلك على كلّ ألوان الجهاد، سواء كان سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو أمنيّاً أو ما إلى ذلك. فإذا كانت الأهداف السياسيّة الإسلاميّة الكُبرى تتطلّب حركة التفافيّة، أو تجميداً لمواجهة في جانبٍ، لأجل إعادة حشد القوّة مقدّمةً لإضعاف العدوّ من جانبٍ آخر، كان ذلك من ضمن آليّات الحركة المبرّرة شرعاً، بشرط أن تبقى مرتبطةً بالمبدأ الأساس؛ وهكذا في سائر المجالات.

وهذا يتطلّب أن يكون الإسلاميّون على درجة عالية من معرفة الواقع والظروف، وكيفيّة استثمار الإمكانيّات وتوظيفها ضمن الخطّة الموضوعة سلفاً للحركة نحو النّصر وتثبيت عناصر القوّة؛ لأنّك لا تستطيع أن تكون واقعيّاً وتحافظ على ثبات المبدأ من خلال ارتجال المواقف؛ لأنّ المسألة حينئذٍ هي أنّ الظّروف هي الّتي تتحكّم بالحركة، وليست الحركة نفسها هي الّتي تستثمر الظروف لمصلحتها في تحقيق أهدافها وتثبيت مبادئها.

ونحن في هذا المجال نقول، إنّ عدم الاعتراف بشرعيّة كيان العدوّ الصهيوني ثابتٌ إسلاميّ لا يقبل المساومة، واستعادة الأرض المحتلّة ثابتٌ كذلك، وتثبيت مبدأ العزّة الإسلاميّة ثابتٌ أيضاً، ولكنَّ الموقف الآني الّذي يحتّم ـ مثلاً ـ فتح الجبهة العسكريّة مع العدوّ أو عدمها، هي مسألة خاضعة لطبيعة الظروف، ومدى توفيرها الأرضيّة الملائمة لخدمة تلك المبادئ والأهداف.

وانطلاقاً من هذه النقطة وممّا تقدّم، يتأكّد الرفض التامّ للصلح مع هذا العدوّ. أمّا الحديث عن تهدئة ميدانيّة على جبهات القتال مع العدوّ الصّهيونيّ، تحت حجّة أنّ النبيّ(ص) صالح المُشركين في الحديبية، أو غير ذلك من قياسات تحاكي الشكل في القضيّة، فلا يُمكن قبوله، إلا إذا كان ذلك في سياق خطّة استراتيجيّة لقهر العدوّ، تماماً كما فعل الرّسول(ص)؛ لينسجم بذلك الشكل مع المضمون. أمّا الهدنة التي تثبّت موازين القوى، وتسمح للعدوّ بإعادة إنتاج قوّته وهيمنته على الواقع، بعد سلسلة الهزائم الّتي مني بها في لبنان وفلسطين، مقروناً ذلك بتغيّرات دوليّة على أكثر من صعيد، وتمنعنا ـ أيضاً ـ من تعبئة الشّعب، وحشد الإمكانات، ورفع منسوب القوّة، وتهيئة الظّروف لتغيير الواقع الرّاهن لمصلحة التّحرير الكامل، فهي بمثابة تسليم السكّين إلى يد العدوّ ليحزّ رقابنا.

ويُمكن هنا أن نطلق الموقف الإسلاميّ الثابت لنقول، إنّ أيّ حركة إسلاميّة، سواء كانت حزباً أو حركة أو دولةً أو ما إلى ذلك من أطرٍ، تتنازل عن قضيّة فلسطين تحت أيّ ذريعة، إنّما تفقد مشروعيّتها الإسلاميّة؛ لأنّها ستتحوّل إلى إطارٍ إسلاميّ فارغ من التّرجمة العمليّة للخطوط الإسلاميّة النظريّة على أرض الواقع…

تقارب الإسلاميّين مع أمريكا

وعوداً على بدء، وفي ما يخصّ مسألة التّقارب الإسلامي الأمريكي، فإنّه لا يُمكننا الإجابة عن الأسئلة الآنفة الذّكر ما لم نفكّك المشهد العام، ليتّضح من خلال ذلك الموقف الإسلاميّ على ضوء القاعدة الّتي قدّمنا الحديث عنها.

أوّلاً: فلسطين بوصلة التّقارب

لا بدَّ أوّلاً من قياس مسألة التّقارب الإسلامي الأمريكي مع قضيّة المبادئ والثّوابت؛ وهنا تقف أمامنا القضيّة الكُبرى، فلسطين، لنجد أنّنا لا نستطيع أن نقترب من الولايات المتحدة الأمريكيّة على نحو يضربُ هذا المبدأ؛ فإمّا أن تتنازل الولايات المتحدة الأمريكية عن تبنّيها المطلق لإسرائيل وتناصر قضايانا، وهذا وهمٌ في وهمٍ، وإمّا أن نفترض أنّ التّقارب ـ بما لا يصطدم بذاك المبدأ ـ يخدم الهدف الكبير في إضعاف كيان العدوّ، وإضعاف جبهته العالميّة المستفيدة من استمرار استعداء كثير من مواقع القوّة الّتي تقفُ معه على طرفي نقيض وجهاد وصراع وجود.

من الطبيعي أنّنا لا نفترض هنا أن تقبل الدّول المستكبرة بقوى المقاومة للعدوّ الصهيوني، ولا أن تقبل بأن يستكمل المسلمون عمليّة بناء القوّة الذاتيّة بما يجعلهم في موازاة الفعل الحضاريّ لفعل الغرب، بل إنّنا نفترض هنا أنّ ثمّة تغيّرات واقعيّة فرضت على الغرب المستكبر التواضع قليلاً، والتراجع نسبيّاً، إمّا لإيجاد مخارج لأزمات متراكمة، أو للتعامل مع الواقع تجنّباً لنتائج سلبيّة مضاعفة؛ وهو ما قد يؤمّن الظرفَ الملائم لتثبيت موقع إسلاميّ متقدّم في سياق التعامل مع الواقع الدّولي الضّاغط بطبيعة الحال.

وبتعبير آخر، فإنّ القوى الغربيّة إذا كانت فشلت في إخضاع الواقع الإسلاميّ وقوى المقاومة، ووجدت نفسها أمام ضرورة إعادة الانتشار في سبيل تجاوز ظروف ضاغطة عليها في مواقعها، بهدف تقطيع الوقت؛ فإنّ هذا ينبغي أن يكون كافياً، بالنّسبة إلى الإسلاميّين، لكي يستثمروا ذلك في عمليّة تثبيت موقع القوّة، في استنادٍ إلى الاعتراف الدّولي بالدّور والموقع، بما يسمح بنقل الإسلاميّين من موقع النزاع على الوجود، إلى تثبيت الحضور والاستمرار في عمليّة مراكمة القوّى الذاتيّة.

وربّما يكون لزاماً علينا، كإسلاميّين، أن ندرك أنّ شيئاً ما قد تغيّر في حركة السياسة الدوليّة وصراع الإرادات على ذلك المستوى، وفي الوقت نفسه، نعترف بأنّنا لم نتحوّل بعدُ إلى قوّة عظمى تستطيع أن تفرض إرادتها على واقعٍ يرفض أن يذعن للضّعف، أو أن ينزل عن الشّجرة الّتي ما عادت تقوى على حمله، لئلّا يسقط على من تحتها من الأبرياء..

إنّ المسألة اليوم قد تشبه هذا المثال؛ إذ إنّ عدم الاعتراف بالضّعف من قبل الإدارات الغربيّة ودولها، ولا سيّما بعد الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، وبعد الهزائم المتتالية للمشاريع الاستعماريّة العسكريّة تجاه المنطقة، في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها، يُمكن أن يدفع في اتّجاه حفلة جنون تفتح النّار العالميّة على مصراعيها، وقد لا يكون هذا في مصلحة الإسلاميّين، ولا في مقدرتهم السيطرة على مفاعيله وهم في طور النموّ..

وعلى هذا الأساس، يتحدّد المبرّر الإسلامي الحركي، لتقاربٍ إسلاميّ مع الدّول الكبرى، وفي مقدمّها الولايات المتحدة الأمريكيّة، على أساس تثبيت الوجود الإسلامي العزيز والفاعل، والتّهيئة لحضورٍ فاعلٍ في المنطقة والعالم؛ لأنَّ النظام العالمي، حتّى في حالة الحروب، لا يحتمل الفراغ، وخصوصاً أنّ المناخ العالميّ الجديد، قد يؤدّي إلى احتواء أو عقلنة حركات جنونيّة على مستوى الحركة والنظريّة والآليّات، والّتي وإن كانت محسوبة على الإسلام، فإنّها تهدّد المبدأ الإسلاميّ في إشراقته ونصاعته، فضلاً عن وجوده.

إلى هنا، يُمكن أن نحدّد بوضوح، أنّ هذا التقارب لا يتمّ على قاعدة التنازل عن المبادئ العامة لحركة السياسة الإسلاميّة، بل هو حاصلٌ على قاعدة اقتراب الآخرين من تلك المبادئ؛ لأنّه لا يُمكن لك أن تحقّق ربحاً على ضوء خسائر قد تمسّ أصل وجودك وعنوانك الّذي تتحرّك من خلاله.

ثانياً: الوحدة الإسلاميّة

إنّ تثبيت ما يتمّ فرضه من حضورٍ إسلاميّ، عبر الاعتراف الغربيّ بالحقوق المشروعة لأيّ دولة أو جهة إسلاميّة، إنّما يتحقّق عبر السّعي إلى تمتين الروابط الإسلاميّة، بين الدول والأحزاب والجهات المتنوّعة؛ لأنّنا إذا كنّا نتحدّث عن خطّة استراتيجّية لتحقيق العزّة والاستقلال والتحرير على مستوى قضايا العالم الإسلاميّ، فلا يُمكن أن يكون التّقارب عنصراً من عناصر تمكين الدولة المستكبرة من تحقيق عمليّة التفافٍ تزيد من حدّة الانقسامات بين دول المنطقة الّتي تعمل عليها كاستراتيجية لتحقيق أهدافها فيها.

ولذلك، فإنّ وجهة اعتراف الدّول الكبرى بحقوق إيران المشروعة، ينبغي أن تصبَّ اعترافاً بحقوق المُسلمين، ككيان ودول وجهات، بأن يمارسوا حقوقهم بكلّ حرّية واستقلاليّة. وهنا ينبغي أن يتحرّك جهدٌ فكريّ وسياسيّ وثقافيّ وإعلاميّ، بهدف إظهار أنّ ما يتمّ إنجازه، إنّما يخدم المصلحة الإسلاميّة العليا، وليس على حساب المكوّنات الأخرى للأمّة، ولا سيّما في ظلّ السّعار المذهبيّ الذي يستهدف إعطاء النّهوض الإسلاميّ في إيران، والتّقارب الحاصل الآن، عنواناً مذهبيّاً يوضع في خانة استعداء المذاهب الأخرى التي جعلت عناوين لدولٍ وحركات إسلاميّة أخرى في المنطقة؛ لأنّ هذا الأمر قد يؤدّي إلى إسقاط كلّ مواقع القوى مستقبلاً، إذا ما تغلّبت الدّول الكبرى على نقاط الضّعف التي اضطرّتها للتّراجع نسبيّاً.

وعلى هذا الأساس، فإنّ الوحدة الإسلاميّة التي رفعها الإمام الخميني كشعار استراتيجي، ينبغي أن يتأكّد العمل عليه في الشّكل والمضمون والآليّات؛ لأنّ ذلك هو الّذي يمتّن الخطّة الإسلاميّة الكبرى في تحقيق الاستقلال، ويفوّت الفرصة على المستكبرين إذا ما أرادوا الالتفاف وإسقاط الواقع من جديد.

ثالثاً: النّهوض والتّكامل الاقتصاديّ

في موازاة ذلك، ثمّة حاجة فعليّة لاعتماد برنامج للنّهوض والتكامل الاقتصادي بين دول العالم العربي والإسلامي؛ لفرض اعترافٍ عالميّ بحقّ شعوبنا في التّطوير العلمي والتقني وامتلاك الطاقة البديلة، والتخفيض من تكاليف الإنتاج، وتأمين فرص ومناخات لاحتضان الموارد البشريّة في بلدانها، بدلاً من دفعها نحو الهجرة؛ الأمر الّذي يُمكن أن يقلب دفّة القيادة الحضاريّة من الغرب إلى الشّرق.

أخيراً: إنّنا لا نريد أن نرسم صورةً مثاليّة أو خياليّة عمّا يمكن أن يتحقّق للإسلام والمسلمين في ظلّ الظّروف الدّوليّة الراهنة؛ لأنّ المسألة سابقة لأوانها قبل استقرار مآلات الأمور، بقدر ما نريد الإشارة إلى ضرورة النّظر إلى عمق المشهد الشّرعيّ والواقعيّ على حدّ سواء؛ لئلا تختلط الأمور على الحركيّين الإسلاميّين، فضلاً عن الآخرين؛ وليكون ذلك فرصةً لإثارة التّفكير في هذا النّوع من القضايا، في عالم متغيّر بسرعةٍ قياسيّة؛ والله من وراء القصد.

[1] سورة الإسراء، الآية 7.

[2] سورة الأنفال، الآيتان 15-16.

[3] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا(ع)، ج2، ص99.