وثاقة النصّ القرآني: نظرة في منهج المقاربة


السيد د. جعفر فضل الله

ما هي الوجهة الأكثر دقّةً في مقاربة مسألة وثاقة النصّ القرآني، سواء من حيث نسبته إلى الله تعالى، أو من حيث صونه من التّحريف والتّزوير؟ نطرح السؤال، لأنّ ثمّة مقاربة ـ للمستشرقين عمومًا ـ تلجأ إلى الاستغراق في التّفاصيل والمفردات الّتي تُذكر كإشكالاتٍ على سلامة النصّ القرآني، أو على دعوى بشريّته، أو ما إلى ذلك، حيثُ يتمّ الحديث عن أخطاء نحويَّة، أو عن وجهٍ خرافيّ لبعض المضامين، تشير إلى أنَّ “مؤلّف” القرآن لا يزيد في ثقافته عن الثّقافة الشعبيّة السّائدة المليئة بالخرافات والأساطير، أو عن تفسيراتٍ لبعض القضايا والمواقف، بما يُبعد النصّ القرآنيّ عن “إلهيّته” نحو البشريّة القابلة للخطأ والصّواب والانفعال وما إلى ذلك.

كلّ ذلك قد ينفتح بذهن الإنسان، الّذي يريد أن يدرس مسألة وثاقة النصّ القرآني وإلهيّته، على جملة من الاحتمالات، لتصل في النّهاية إلى إعلان الذّهن العجز، وبالتّالي اختيار الشكّ كنتيجة، وليس كمسارٍ منهجيّ لتشكيل القناعة، بما يعنيه ذلك الشكّ من انفتاح الباب على مصراعيه أمام القلق النفسيّ الّذي يدفع الإنسان إلى اختيار أيّ موقفٍ يراه تعويضًا عن حالة القلق.

ومن اللافت أنّ هذا الموقف الّذي يختاره الإنسان هروبًا من حالة القلق، قد يمثِّل أحيانًا تجاوزًا لكلّ المنهج العلميّ الّذي تُبرزه الشّكوك الّتي توضع أمام النصّ، فيتبنّى الشاكُّ في الطّرف المقابل رأيًا حاسمًا ضدّ الوثاقة، في الوقت الّذي قد لا ينسجم هذا الحسم مع طبيعة المنهج العلميّ الّذي لا يُبيح للإنسان أن يحسم إلا بدليلٍ، كما لا يبرّرُ له انتقاءَ تفسيرٍ لمجرّد بطلان تفسيرٍ معيَّن، في الوقت الّذي قد تكون هناك تفسيراتٌ عديدة مفترضة مقابل ذلك التّفسير.

لا نريد هنا أن نشي بأنَّ مسألة الإيمان بسلامة النصّ القرآني تفترض التّجاوز عن المعايير العلميّة، بقدر ما نريد الإشارة إلى أنَّ هناك فرقًا بين إثارة الشّكّ المنهجيّ للوصول إلى القناعة، وبين كون الشكّ تعبيرًا عن حالة من القلق النفسيّ في مرحلة سابقة عن طرحه؛ وهذا ما يفترض البحث عن العوامل الّتي تلعبُ دورًا في توجيه الحسم في بعض القضايا بخلافه في قضايا أخرى؛ وهذه مسألة مرتبطة بطبيعة الإنسان ذي الأبعاد المتنوّعة والمؤثّر والمتأثّر بعضها ببعض.

ربّما يحسن التّفكير ـ في البداية ـ في تحديد مراحل البحث في مثل هذه القضايا، حذرًا من الانزلاق نحو تفعيل المسبقات الفكريّة، وحتّى النفسيّة، في وجهة البحث وطريقة طرح الأسئلة والإشكالات.

المرحلة الأولى:

تأمين النصّ القرآني بوصفه الكلّيّ، في مجموع السور والآيات المحفوظة بين الجلدتين؛ لأنّ من الممكن ـ افتراضًا ـ أن يكون للعقل دورٌ في الوثوق بالمجموعِ كمجموعٍ، بمعزلٍ عن بعض المفردات؛ لأنّ ما يُمكن أن يقدّمه المجموع من معطياتٍ تدعم الوثوق بالنصّ، أو تدعم فرضيّة إلهيّته، قد لا تقدّمه كلّ مفردةٍ على حدةٍ.

والبحث ينبغي أن يتركّز هنا على جمع العناصر والأبعاد؛ وهو ما نشير إليه ـ سريعًا ـ في نقاط:

  1. إنّ النصّ القرآنيّ نزل متفرّقًا على فترة 23 عاماً، أي أنّ “تأليف” هذا الكتاب افترض هذه المدّة، بكلّ ظروفها وتقلّباتها العامّة والخاصّة، فهذا البُعد التاريخيّ لطريقة النزول نأخذه بالحسبان.
  2. إلى جانب ذلك، هناك البُعد المرتبط بالحديث عن المغيّبات عن الحسّ والإدراك البشريّ، ولا نقصد هنا أحاديث المستقبل فحسب، بل المغيّبات العلميّة الّتي لم يكتشفها العلمُ إلا بعد قرون، أو مغيّبات مرتبطة بالجغرافيا، كما في قضيّة “أدنى الأرض” في هزيمة الرّوم.
  3. إضافةً إلى ذلك، هناك لحن الكلام الّذي يعبّر عن تلك الظواهر العلميّة، والّتي تعطي فكرة عن شخصيّة المتكلّم وطريقة انفعاله مع الظّاهرة الكونيّة أو الواقعيّة؛ لأنّ كلّ كلامٍ يدلّ دلالةً غير مباشرة على طبيعة المتكلّم… وبالتّالي، يُمكن للحن الكلام أن يشير إلى أنّ “المؤلّف” بشريٌّ أو غيره.
  4. وهناك الجانب البلاغيّ الّذي يمثّل الغلاف الجماليّ للمعنى المتعدّد الجوانب.
  5. أضف إلى ذلك، ما اكتشفه بعض المحقّقين من تناسبات عدديّة حسابيّة للكلمات أو الحروف أو حتّى الحركات.
  6. يُمكن أن نلمح هنا أيضاً، بُعدًا اجتماعيًّا مرتبطًا بالعلاقة مع أهل الكتاب الأوّل، حيث كان لحنُ الكلام يوحي بالهيمنة المعرفيّة على أهل الكتاب، بما دفعهم إلى اتّخاذ مواقع هجوميّة لا تخلو من ضعفٍ، نتيجة الشعور بأنّ الجوّ الجديد يسرقُ منهم امتيازاتهم ومواقعهم الدينيّة، وهكذا كان.
  7. إلى غير ذلك من نقاط وأبعاد وأوجه، كأمّيّة النبيّ، وفقدان التّأثير النوعيّ للحملات المناهضة في مدى تاريخ الرّسالة الإسلاميّة، ولا سيّما في مرحلة المواجهة الّتي تفترض تكريس القوى المضادّة كلّ جهودها لاكتشاف ثغرة أو فجوة تنفذ منها إلى نزع الشرعيّة عن الدّعوة الجديدة، إضافةً إلى ملاحظة الآيات الّتي حاكم فيها القرآن النبيَّ نفسَه بطريقة عنيفة وقاسية، ولكنّها منسجمة مع النّسق الّذي كانت تتحرّك به الرّسالة في خروجها من الذاتيّة نحو الرساليّة…

ولكلّ واحدة من النقاط السّابقة، تفاصيل وجهاتٌ لن نخوضَ فيها، حذرًا من الخروج عن هدف البحث هنا.

إلى هنا، يُمكن أن نطرح هذه العوامل أو الأبعاد أو الأوجه في حال اجتماعها أمام العقل، ليحدّد لنا أيّ فرضيّة هي الّتي يُمكن أن يقتنع بها في تحديد هويّة “مؤلّف” القرآن.

إنّ الفرضيّات المطروحة في هذا المجال هي التّالية:

1- المؤلّف هو النبيُّ محمّد(ص).

2- المؤلّف هو أهلُ الكتاب أو شخصٌ معاصر تعلّم منه النبيُّ محمّد.

3- المؤلّف مخلوقٌ آخر غير بشريّ.

4- المؤلّف هو الله تعالى.

وإذا كانت الفرضيّتان الثّانية والثّالثة قد طرحهما القرآن نفسه، ولم يعترض أحدٌ على نفي القرآن للفرضيَّة الثَّانية، مع أنّه لو كان المؤلّف شخصيّا من أهل الكتاب أو معلِّمًا مُفترَضًا للنبيِّ (ص) لكان بيانُ حققة الأمر كافياً للقضاء على الدّعوة الإسلاميّة في مهدها؛ وهذا ما لم يحصل؛ بل بقيت الدعوة على الرغم من التحدّيات.

والفرضيَّة الثّالثة لا تعود محتملةً إذا قلنا إنَّها الشّياطين؛ لأنَّ للشَّيطان مفهومًا يتغاير نوعيًّا مع طبيعة القرآن وأهدافه، كما أنَّ هذه الفرضيّة لو كانت حقيقةً، لكان يُمكن للشياطين، الذين يطرحُ القرآن الكريم محاربتَهُم ويتحدّاهم بالإتيان بمثله، أن يمكّنوا أحداً آخر من مضاهاة القرآن والإتيان بمثله، إلى غير ذلك من مضامين مناقضة لطبيعة مفهومنا عن الشّيطان.

كما أنّ مفهوم الملائكة، كقُوى خيّرة، قد جاءنا به الدينُ نفسُه، وأنّها تتحرّك آليًّا بأوامر الله؛ الأمرُ الذي يجعل تلك الفرضيّة تلتقي مع الفرضيّة الرّابعة…

وعلى هذا، يبقى عندنا فرضيّتان، هما الأولى، وهي أنّ النبيّ محمّدًا يكذبُ، أو يتوهّم أنّ ما يؤلّفه إنّما هو من الله تعالى. وهنا نلجأ إلى حساب الاحتمالات، أو مبدأ probability في الرّياضيات. وهنا نقول:

إنّ اجتماع كلّ تلك العناصر الّتي أسلفنا الحديث عنها، مقرونةً بمستوىً عالٍ من الثّقافة والعلم، ومع انشغال الإنسان، بل مجموعةٍ كبيرةٍ من النّاسِ، لسنوات كثيرة قد تزيد عن العمر المفترض للإنسان العاديّ، قد تساوي صفرًا بمنطق تضاؤل الاحتمالات كلّما تعدّدت فرضيّات تشابك العناصر.

كيف؟ والمؤلّف ـ بناءً على هذه الفرضيّة ـ أمّيٌّ لا يقرأ ولا يكتُبُ، ولم يحتكّ بثقافة متميّزة، ولا يمتلك أدوات تكفل تحقيق هذا التّناسب البلاغيّ والعدديّ والغيبيّ والعلميّ والنفسيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والتّاريخيّ وما إلى ذلك، وفي ظروفٍ مجتمعيّة ونفسيّة متفاوتة احتوت نزول آيةٍ أو عدّة آياتٍ أو سورة؛ الأمر الّذي يجعل إطلاق التحدّي القرآنيّ بعدم القدرة على الإتيان بمثله[i] مسألةً واقعيّةً جدّاً، وهي ـ في نظري القاصر ـ قد لا تقتصر على بُعدٍ واحدٍ مع استبعاد الأبعاد أو العناصر الأخرى، بل يُمكن التحدّي يُطرح على أساس اجتماع الأبعاد والعناصر وافتراض القيمة الاحتماليّة حينئذٍ، وذلك هو الّذي يجعل التحدّي القرآنيّ حيًّا في مدى الزّمن.

واستنادًا إلى ذلك، إذا وصل العقل إلى نفي الفرضيّات الأخرى، تعيَّن عليه الإذعان للفرضيَّة الباقية، مع عدم وجود فرضيَّات أخرى معقولة غيرها؛ وهذا على أقلّ التّقادير.

المرحلة الثّانية:

بعد تحديد المؤلّف، تأتي المرحلة الثّانية الّتي تنزل إلى المفردات، لتختار المنهج الّذي تقاربها من خلاله؛ لأنَّ المنهج لا بدَّ من أن يتوافق مع طبيعة الفرضيَّة الّتي وصلنا إلى القناعة بها، مع أنّنا لا ننفي ـ في الوقت نفسه ـ إمكانيَّة أن نقوم بحركة تراجعيَّة، وبمنطق العقل نفسه، عندما تضغط تلك المفردات على العقل، لتعيد الاعتبار إلى القيمة الاحتماليَّة للفرضيَّات الأخرى؛ ولكنّ هذا يتطلّب نوعًا من التّكافؤ بين القدرة التشكيكيّة للمفردات، والقيمة الاحتماليّة لأيّ فرضيّة من الفرضيّات الأخرى.

على أنّه يحسُن هنا أن نشير إلى أنّ التّقسيم المرحليّ للبحث، والّذي تفرضه طبيعة الموضوع ووسائل الإثبات، وليس الخيال والاعتبار المحض، يجعل الموقف العلميّ على مسافة واحدة من المفردات الّتي قد تميل إلى مصلحة فرضيّة، والمفردات الّتي قد تميل إلى مصلحة فرضيّة أخرى، حذرًا من الانتقائيّة الّتي تحشد ما تريد من أدوات المواجهة والتّشكيك، مستبعدةً أيّ إمدادات أخرى مقابلة، بما يحسم المعركة الفكريّة مسبقًا لمصلحة جانبٍ دون آخر، بلا مبرّر علميّ أو منطقيّ.

فعلى سبيل المثال، يُمكن لنا أن نقول إنَّ ورود بعض المفردات الّتي تشير إلى عقيدة أسطوريّة موجودة لدى المجتمع المحيط، أو إلى فكرة ساذجة عن بعض الظّواهر الكونيّة، أو غير ذلك ممّا قد يثبت العلمُ خرافيّته مع تقدّم العلوم والمعارف والاكتشافات، كما في قوله تعالى عن ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}[ii]، حيث ثمّة احتمالٌ أن تكون هذه الآية منسجمة مع الذهنيّة الشعبيّة الجاهلة الّتي ترى الشمس قرصًا قابلًا لكي يغطس في الماء… كلّ هذا ينسجم مع فرضيّة بشريّة المؤلّف، بل وجهله أيضاً!

ولكنْ لا يصحّ لنا هنا أن نستبعد المعنى المجازيّ للأمر، حتّى وإن فُرض أنّ المحاكاة كانت لعقيدة جاهلة، بحيث ينتبه الذّهن إلى مجازية المعنى المقصود بعد انفتاح أفق العلم في المستقبل، في حين لم يكن المطلوب الدّخول في جدلٍ لا حاجة إليه في مرحلة نزول النّصّ، إضافةً إلى إمكانيّة أن يكون في الآية إشارة إلى جانبٍ علميّ قد يُكتشف بعد حين…

كما أنّ علينا هنا أن نقارن بين أن تكون هذه الآية مؤكّدةً لفرضيّة بشريّة مؤلّف القرآن، وبين المفردات الّتي تنفي هذه الفرضيّة، والّتي تبلغُ من الدقَّةِ العلميَّة ما لم يبلغْه عقلٌ إلا بعدَ مئاتِ السّنين من الأبحاثِ والتّجارب، ممّا أشرنا إليه سابقاً.

إنّ ما نروم تأكيده هنا، هو أنّ المنطق العلميّ يفترض أن لا نخلط بين المرحلتين؛ لأنّ ما يؤمّنه مجموع العناصر من إدراك عقليّ، لا يمكن أن يؤمّنه المفردات، ما يجعل الخلط بين المرحلتين أمرًا غير علميّ، كما أنّ الاستغراق في احتمالٍ واحدٍ في فرضيّات المفردة، لا يصحّ مع صحّة فرضيّات أخرى.

تذييل وخاتمة

يُلفت في هذا المجال، إلى أنّ القرآن الكريم نفسه قد استخدم هذا الأسلوب، فتحدَّث عن فرضيّة تلقّي القرآن من بشر، فجاء في القرآن بقوله: {ولقَدْ نعلَمُ أنَّهُمْ يقولونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لسانُ الّذي يُلحِدونَ إليْهِ أعْجَمِيٌّ وهذا لِسانٌ عَرَبيّ مُبينٌ}[iii].

وتحدّث عن الاقتباس عن أهل الأديان الأخرى: {وقالَ الّذينَ كَفَروا إنْ هذا إلّا إفْكٌ افْتَراهُ وأعانَهُ عليهِ قومٌ آخرونَ فقَدْ جاؤوا ظُلمًا وزوراً * وقالوا أساطيرُ الأوَّلينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عليْهِ بُكْرَةً وأصيلاً * قُلْ أنزَلَهُ الّذي يعْلَمُ السرَّ في السماواتِ والأرضِ إنَّهُ كانَ غفورًا رحيماً}[iv]، {وإذا تُتْلى عليهِ آياتُنا قالوا قَدْ سمِعْنا لوْ نشاءُ لقُلْنا مثلَ هذا إنْ هذا إلّا أساطيرُ الأوَّلينَ}[v].

وتحدّث عن إلقاء الشّياطين له: {هل أنَبِّئُكُمْ على مَنْ تَنَزَّلُ الشّياطينُ، تنزّلُ على كُلِّ أفّاكٍ أثيمٍ}[vi]؛ بل إنّ القرآن كلَّهُ يمثّل تأكيدًا لجانبِ الصّدقِ وصراطِ الحقّ والارتباط بهما، بما يمثّل نقضًا لمنهجِ الإفكِ الّذي تتحرّكُ به الشياطينُ.

وورد أيضاً، بعد إشارته إلى الفرضيّات المضادّة: {أمْ يقولونَ افْتراهُ قُلْ فأتوا بعشْرِ سوَرٍ مثْلِهِ مُفتَرَياتٍ وادْعوا مَن اسْتَطَعْتُمْ من دونِ اللهِ إنْ كُنتُمْ صادِقينَ، فإنْ لَمْ يَسْتَجيبوا لَكُمْ فاعْلَموا أنّما أنزل بعلم الله}[vii].

وتحدّث عن اتهام النبيّ بالجنون والتوهّم والتخرّص: {قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أنْ تَقوموا للهِ مَثْنى وفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّروا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إنْ هُوَ إلّا نَذيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ}[viii]، إلى غير ذلك من الآيات.

التّفريق بين الشكّ المنهجيّ والوسوسة

ثمّة خواطر تخطر في بال الإنسان على شكل أفكارٍ جزئيّة متسارعة الحركة مصحوبة بحالة من الخوف، وهذه الخواطر تقفز من نقطة إلى نقطة، فما إن تُعالج خاطرًا حتَّى يأتيك الذّهنُ بآخر.

وفي ظنّي، إنّ هذه آليّة من آليّات، أو نتيجة من نتائج الحركة العقليّة والذهنّية الّتي لا تهدأ ولا تستكين، ولكنّها تعبّر عن حالة مرضيّة، أو قل عن فكرٍ مصحوبٍ بنوع من الفيروسات ـ حسب المصطلح الحديث ـ الّذي يفضي إلى شلّ حركة اليقين لدى الإنسان.

وهذا ما توصّل إليه علم النّفس الحديث في حديثه عن الوسواس القهري، حيث اعتبره مرضًا ينبغي علاجه. وربّما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في سورة النّاس: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}، وفي سورة النّحل: {إنّهُ لَيْسَ لهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذينَ آمَنوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلونَ}[ix].

وربَّما يكون من وسائل علاج هذه الحالة، البحث عن المفردات المحسوسة الّتي تقرِّب الفكرة الّتي تخضع للقلق، وليس الدخول في دوّامة مفرغة من الاستدلال، المفترض أنّه حصلَ سابقًا بما لا مزيد عليه. أي ـ بتعبير آخر ـ يُفترض أن يتمَّ البناء العقديّ من خلال الاستدلال، مُترافقًا مع الاحتكاك بوسائل إيضاح محسوسة تقرّب الفكرة إلى النّفس، وتجعل الاستدلال العقليّ يمرّ من عالم الفكر إلى عالم الاطمئنان، وربّما هذا ما أشار إليه الله تعالى في حديثه عن إبراهيم(ع): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[x]؛ فتأمّل.

المتابعة العلميّة

وربّما نحتاج هنا إلى أن نؤكّد نقطة، وهي أنَّ القرآن الكريم بوصفه كتاب هداية، وعندما نفترض أنَّ الهداية مرعيَّة من قبل الخالق العليم بالإنسان وأسراره، وأنّ كثيرًا من ظواهر الحياة هي ظواهر دينيَّة من حيث انتسابها إلى الخالق والمنعم، وأنّ الإنسان إنَّما يعيش حياته الدّنيا والدينيّة مع كلّ مظاهر الحياة الّتي يتأثّر بها وتؤثّر فيه… كلّ ذلك يجعلنا نرصد ما يمكن أن تفضي إليه آيات القرآن الكريم، بمعنى أنَّها قد تكون إشارات، إذا تمّت متابعتها بالبحث والتَّجربة، فإنّها قد تفتح للإنسان آفاقًا من المعرفة، وتقوده تلقائيًّا إلى تطوير العلوم والمعارف الّتي تحتاجها عمليّة بناء الحضارة، أيّ حضارة.

وقد اعتاد الدّارسون لمثل هذه الوجهة في استنطاق آيات القرآن الكريم، أن يركّزوا على الآيات المرتبطة بالظّواهر الكونيّة، في الوقت الّذي قد تكون هناك آياتٌ مرتبطة بالعمق النفسيّ للإنسان، في ذاتيّات فطرته المتأصّلة، وفي عقده النفسيّة ومنشئها وطريقة معالجتها، وقد ترتبط بسنن اجتماعيّة تاريخيّة، أو بقواعد لبناء الاقتصاد وما إلى ذلك.

إنّنا لا نريد أن نعتبر القرآن الكريم كتابًا في علومٍ شتّى، وإنّما نريد إثارة التّفكير في فكرة جوهريّة، وهي أنّ فرضيّة كون “المؤلّف” هو الله تعالى، الخالق والمدبّر، لن يعدمنا في الآيات القرآنيّة من إشارات جوهريّة، لا سطحيّة، ناشئة من عمق النظرة الإلهيّة إلى الإنسان، لما يعتمل فيه، وإلى الحياة وقواعد حركتها، وإلى الكون وسننه الجارية.

ولعلّنا هنا نستطيع أن نفترض أنّ جزءًا من تحديد هويّة “المؤلّف”، سيتمّ من خلال لحن (rythme) التّعبير عن الفكرة العلميّة الّتي لم تُكتشف إلا بعد مئات السنين، في حين لم يكن بإمكان المجتمع الجاهليّ ولا غيره أن يلامسها حضورًا ذهنيّاً، وهذا ما كفل للمسلمين الحصول على نتائج العلم الحديث وتوجيهاته، بكلّ عفويّة، من دون أن يعرفوا أنّهم يلامسون عمق قواعد بناء الحضارة، فأنتجوها، وإن عادوا ومارسوا قطعًا مع هذا المنهج، فلم يتابعوا البحث، واستغرقوا في أمورٍ لا تنفع مع علمها ولا تضرّ من جهلها، فسبقهم الآخرون إلى حيث كانوا سابقين ولو من حيثُ لا يشعرون؛ والله من وراء القصد.

[i] وذلك في قوله تعالى: (قُلْ لَئِنْ اِجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)/الإسراء: 88.

[ii] سورة الكهف، 86.

[iii] سورة النّحل، 103.

[iv] سورة الفرقان، 4-6.

[v] سورة الأنفال، 31.

[vi] سورة الشّعراء، 221-222.

[vii] سورة هود، 13-14.

[viii] سورة سبأ، 46.

[ix] سورة النحل، الآية 99.

[x] سورة البقرة، الآية 260.