عندما يتحوَّلُ التحزُّبُ شِرْكًا


السيد د. جعفر فضل الله

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[1].

تشيرُ هذه الآيات إلى أنَّ المسار العامّ للإنسان المؤمن، هو في اتّجاه تحقيق إرادة الله، بحيث تكون حركة الإنسان صدًى لإرادة الله تعالى، وذلك هو معنى إقامة الوجه لله ولدينه.

لكنَّ اللافت في هذه الآيات، أنّها نهت عن أن يكون الإنسان من المُشركين، وفسَّرت الشّرك بأنّه تفريقُ الدِّين والتوزّع شِيَعًا، أي فرقًا. فكيف نفهمُ ذلك؟ هل هذا يعني أنّ الإطار الّذي ينتمي إليه الإنسان يمثّل حالةً شِرْكيَّةً ينبغي للإنسان أن لا يلجأ إليها؟ أوليسَ الإنسانُ ـ بطبعه ـ منتميًا إلى جماعةٍ ما، أو إلى إطارٍ سياسيّ ما ينتظمُ فيه العملُ، ويُصبح نتاجُهُ أقوى وأشدّ؟ هل يعني ذلك حُرمة العمل الحزبيّ، أو الانشغال بالأطر الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة وما إلى ذلك، بحجّة أنّ الإنسان يُريد أن يكون موحِّدًا لله ولا يشرك به شيئًا؟

الأمرُ ليس كذلك؛ فإنّ الله تعالى تحدَّث في كتابه بشكل واضحٍ عن الأطُر الّتي ينتمي إليها الإنسان، بل هي تتحرّك وفق تخطيط الله تعالى للكون، لتكون مصدر غنًى وتفاعلٍ حضاريّ. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[2]؛ ولذلك، لا يُمكن أن يكون المراد أنّ الانتماء نفسه إلى أيّ إطارٍ يمثّل حالة شركيّة.

يبقى أنّ علينا أن نحلَّ الإشكاليّة الّتي تثيرها الآيات الكريمة السّابقة.

وأغلب الظنِّ، أنّ هذه الآيات تتحدّث عن سيرورةٍ يعيشها الإنسان، بحيث يتحوّل الانتماء فيها من حالة غنًى للذّات، وحضنٍ دافئٍ لتفاعلاتها الإنسانيّة، أو لتطلّعاتها الرساليّة، إلى حالةٍ صنميّة يُصبحُ فيها الإطارُ إلهًا يُعبد من دون الله.

تطرح الآية الأولى الرّجوع الدّائم إلى النصوص الأصليّة، من الكتاب والسنّة، للاحتكام فيها إلى المعايير الّتي وضعها الله؛ لأنّ معنى كوننا شيعة أو سنّة في الإطار المذهبي، أو معنى كوننا ننتمي إلى حزبٍ إسلاميّ أو إلى حركة إسلاميّة، أو ما إلى ذلك، أنّنا نتحرَّك على أساس أن يكون هذا الإطار أو ذاك هو الدّاعم والمحفّز والمعين للفرد على عبادة الله، وتجسيد الإسلام. ولذلك، فنحن معنيّون بالاشتغال فيما يريد الله منَّا، وكأنّنا نعيش في زمن الرّسالة، مع النبيِّ(ص)، حيث يتنزّل علينا القرآن؛ وهذا يفرض علينا أن نرجع دائمًا إلى ساحة ما قبل التفرّق والتّمذهب، لنحدّد معايير التّعاطي فيما بيننا كمُسلمين.

هذا الأمر يفترض أن نكون نحنُ ـ في زمننا المُعاش ـ الّذين نستنطق القرآن، من خلال ما نملكه من ثقافة وأدوات نحدّد فيها المعنى، لا أن نعتمد على ما أنتجه الماضون من أفكارٍ قد تكون وليدة ظروف أو تأثيرات قد تكون بعيدةً عن المعايير الإسلاميّة؛ فالسلفُ الصّالح والعلماء السّابقون لهمّ كُلُّ التّقدير، وعلمُهُم محترمٌ، لكنّ باب مناقشتهم مفتوح، ولن يكون بمقدورنا أن نناقشهم إلّا من خلال أن نفكّر نحن بعقولنا؛ لأنّها الحجّةُ بيننا وبين الله، لا أن نفكّر بعقولهم؛ لأنّها الحجّة بينهم هم وبين الله. إنّ علينا أن نكون نحنُ، لا أن نكون غيرَنا… ومن خلال ذلك، نحدِّد تلك القيم والمعايير، من أجل أن نطبّقها في واقعنا، وإلّا فلا يكون لانتمائنا إلى القرآن والإسلام أيٌّ معنًى عمليّ.

وبمعزلٍ عن ذلك، فإنّ من شأن التحزّب أن يحوّل الانتماء إلى عصبيّة. وأكبر دليل على ذلك، ما يعيشه المسلمون اليوم، سنّة وشيعة، حيثُ يتعصّب بعضُنا لسنّيّته، وآخرون لشيعيّتهم، ليكون أيُّ منتمٍ إلينا أفضل من المنتمي إليهم، حتّى لو كان فاسقًا فاجرًا… وهذه ليست إلا العصبيّة الّتي تحوّل الحزب أو الحركة أو المذهب أو أيّ عنوان للانتماء، إلى إلهٍ يُعبد من دون الله؛ لأنّ المعايير الّتي على أساسها نحدِّد القيمة، لا تعود هي الّتي أمرَ بها الله وأرادنا أن نسير عليها، فليس كون الواحد منسجمًا مع الحقّ، أو مع العدل، أو أنّه يمارس عبادته كما أمره الله، أو يتعامل مع الآخرين كما أمره الله، هو الّذي يحدّد القيمة، وإنّما مجاله الاجتماعي الّذي يعيش فيه: عشيرتُه، عائلته، حزبه، تيّاره، مذهبه، أيّ شيء آخر… كما يقول الإمامُ عليٌّ(ع): “اجتمع القوم على الفرقة، وافترقوا على الجماعة، كأنَّهم أئمَّة الكتاب وليس الكتاب إمامَهم”.

صحيح أنّنا عندما نُقدمُ على الانتماء، فإنّنا نحدّد أنّ انتماءنا على أساس أنّنا نرى الحقّ متجسّداً في الإطار الّذي ننتمي إليه، ولكنْ مع ذلك، فالإطار ليس معصومًا، والمنتمون إليه ليسوا معصومين، ويُمكن أن يحيد الإطار عن الخطّ المستقيم من خلال الظّروف والتّأثيرات والتحدّيات المتنوّعة الّتي قد تضغط على الإنسان ليحسب أنّه على حقٍّ، ولكنّه على باطلٍ، والشّيطان شُغْلُهُ التّزيين.

إنّ الإنسان ـ بطبيعته ـ سينتمي إلى عائلة أو إلى حزبٍ أو تيّار، أو يقلّد مرجعًا أو ما إلى ذلك، ولكنّ الأساس أن تبقى العينُ على (الدّين حنيفًا)، فإذا رأينا أنّ الحزب أو العائلة أو العشيرة مالت عنه، فإنَّنا نقوم بدورنا في بيان ذلك؛ فإذا لم ينفع، كان لدينا تحفّظنا عن هذا السلوك أو ذاك، حتّى لا نكون مع الباطل، أو مع الّذين يُشركون بعبادة ربّهم عشيرتهم أو حزبهم أو تيّارهم أو قوميّتهم أو ما إلى ذلك…

إنّ قيمة الانتماء إلى خطّ، أيًّا كان عنوانه، هو بمقدار ما يكون حافزًا للإنسان لكي يقترب من الله ومن الخير، ويفقد الانتماء قيمته عندما يكون أساسًا للعصبيّة، أو قاعدةً للحقد والبغضاء، أو أرضًا يتحرّك عليها الباطل باسم الحقِّ.

بذلك قد نفهم هذا التسلسل الّذي تحدّده الآيات الكريمة؛ أنّ الأساس الّذي لا بدّ من أن نبقى عليه، هو أن نعبد الله ولا نُشرك به شيئاً، وأن يكون تشيّعنا أو تسنّنا، في الخطّ المذهبي، أو انتماؤنا العشائري أو العائليّ في الخطّ الاجتماعي، أو تحزّبنا في الخطّ السياسي، أو انتماؤنا القومي في الواقع الحضاري، وسيلةً من وسائل التواصي بالحقّ والصّبر والمرحمة؛ بحيث يزيدنا الانتماء قُربًا من الله، ومعرفةً للحقّ، تمسّكًا بالسير عليه، لا أن يتحوّل الانتماء إلى صنمٍ نعبُده من دون الله، عندما نفرّغه من القيم الّتي نطق بها الكتاب، وتحرّكت عليها السُّنَّةُ، فنكون من المشركين {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، وبذلك نفهم الآية الأخرى الّتي تقول: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[3]؛ لأنّ النبيَّ مشروعُهُ التّوحيد، وهؤلاء جعلوا انتماءاتهم أسماءً سمّوها هم وآباؤهم {مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ}[4]؛ والله من وراء القصد.

[1][الروم: 30-32].

[2][الحجرات: 13].

[3] [الأنعام: 159].

[4] [الأعراف: 71].