الرَّحمة نظامُ حياة وحضارة


السيد د. جعفر فضل الله

يمثِّل مفهوم الرّحمة أحد المفاهيم الرئيسة الّتي يدور حولها الجدلُ في السّاحة الفكريّة الإنسانيّة، ولا سيَّما في البُعد الحقوقي والقانوني، الّذي يأخذ بمبدأ المقارنة بين النُّظم والتّشريعات قياسًا بمبدأ الرَّحمة، الذي يشير – من دون أدنى شكٍّ – إلى البُعد الإنساني لدى الإنسان، ويعتبر أساسًا للتفاضل بين الناس، ومن دونه يفقد الإنسان معنى إنسانيّته، ويتحوّل الدِّين إلى حركة قسوةٍ وضغط وتعقيد لحياة الناس، بدلًا من أن تكون حلًّا لمشاكلهم، وتنفيسًا عن همومهم.

ولعلّنا في ما واجهناه من أحداثٍ قلقة، واهتزازاتٍ عنيفة في عالمنا العربي والإسلامي، بما انعكس قلقًا على مستوى المفاهيم الأساسيّة لدى المسلمين في نظرتهم إلى إسلامهم، فضلًا عن غيرهم، نحتاج إلى أن نتناول مفردة الرَّحمة، ولو من خلال إثاراتٍ يمكن أن تحدِّد لنا المسار العامّ في تحديد مفهومها وتجلّياتها.

تعريف الرَّحمة

الرَّحمة في اللّغة الرقّة والتعطّف، والمرحمة كذلك، وقد رحمتُه وترحَّمتُ عليه. وتراحمَ القوم: رحمَ بعضُهم بعضًا”[1]. والرّحمة هي الإحساس الإنسانيّ بالتّعاطُف مع ما حوله من النّاس أو من المخلوقات، بما يدفع نحو مراعاة الآخر في حاجاته المادّية أو النفسيّة أو الاجتماعيّة، أو في أيّ نوعٍ من أنواع الحاجة.

والحاجة تشير إلى وجود النَّقص لدى ذلك الآخر، والرّحمة تجعل الإنسان يتَّجه إلى ذلك النقص ليتمّمه، وإلى تلك الحاجة ليقضيها، بما يحوّل الرّحمة إلى سلوكٍ عمليّ في نتائجها، ولا يقتصر بها على الجانب العاطفي.

ولعلَّه من هذه الجهة، استخدم مفهوم الرَّحمة في القرآن الكريم، فكان القرآن نفسه رحمةً، وذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[2]. ويمكن لنا ملاحظة ورود الرّحمة في معانٍ عديدةٍ، لعلَّ من أبرزها:

  1. الرَّحمة كصفةٍ لله تعالى، ففضلًا عن وصف نفسه بالرّحمن الرّحيم، وسعت رحمة الله كلّ شيءٍ، فقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[3]، وكانت تلك الرّحمة هي المانع من إنزال العذاب الذي يستحقّه النّاس بأفعالهم، فقال تعالى: {وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}[4].
  2. الرّحمة بمعنى الجنَّة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[5].
  3. الرَّحمة بمعنى النبوَّة، ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}[6].
  4. الرَّحمة بمعنى الحياة النّاتجة من الغيث والمطر، ومن ذلك قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[7].
  5. الرَّحمة بمعنى النِّعمة والرِّزق، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا}[8].
  6. الرَّحمة بمعنى المغفرة والعفو، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}[9].

الرّحمة في بعدها الاجتماعي

وقد وردت الرّحمة صفةً أساسيّة للمجتمع الإسلاميّ، فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[10]، وجعلها عنوانًا من عناوين سلوك المسلمين وهمّهم العامّ، فقال تعالى: {وتواصَوْا بالصَّبر وتَواصَوْا بالمرحَمَة}[11].

وعندما تحدَّث عن الخليّة الأولى للحياة الاجتماعيّة، وهي الحياة الزوجيّة، جعل الرّحمة عمادًا إلى جانب المودّة، فقال تعالى: {ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لكم من أنفُسِكُم أزواجًا لتَسْكُنوا إليْها وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَة}[12]، وأراد لعلاقة الولد بأبويه أن ترتكز إلى مبدأ الرّحمة، فقال تعالى: {واخْفِضْ لهما جَناحَ الذُّلِّ من الرَّحْمَةِ وقُل رَبِّ ارْحَمْهُما كما رَبَّياني صَغيرًا}[13].

ومن خلال ما قدَّمناه من مفهوم الرّحمة الّذي يشير إلى تتميم النّقص وسدّ الحاجة، يُمكن النَّظر إلى الرَّحمة كشرطٍ ضروريّ للتّماسك الاجتماعي، فمن دونِها، ينغلق كلّ إنسانٍ على حاجاته الشخصيَّة، ولا يعودُ من رابطٍ بين الناس في معنى إنسانيّتهم، وتتحوَّل العلاقات عندئذٍ إلى علاقات مادّيّة بحتة تفرضها طبيعة الحاجات المتبادلة.

إنَّ الرّحمة المطلوبة هنا هي تلك النّابعة من الحاجة الداخليّة للتّعبير عن التعاطف مع الآخرين، انطلاقًا من أنَّ طبيعة علاقة الذّات الإيمانيّة تجعل الآخرين كأنّهم جزءٌ منها، وبذلك تشعر بأنَّ حاجات الآخرين هي حاجات الذّات، وهنا تتحوَّل الرّحمة إلى سلوكٍ ذاتيّ، بمعنى أنّه ليس تبادُليًّا يفترض تقدير من تتوجَّه إليه، فالراحمون يرحمونَ لأنّهم هم كذلك، تمامًا كما الشَّمسُ تُشرق لأنَّ طبيعتها الإشراق، ولذلك لا تميّز بين من يحبُّ نورَها ومن لا يقدّره.

فالمجتمع المتراحم هو الّذي ينطلق أفرادُه ليشعروا بالمسؤوليّة الإنسانيّة والعمليّة تجاه نقاط ضعفه، فتتحوّل الرّحمة حينئذٍ إلى سلوكٍ عمليّ يعمل على احتضان نقاط الضّعف بنقاط القوّة، ومن ذلك يتولّد التّكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، فيعطي غنيّهم فقيرهم، ويعين قويُّهم ضعيفهم، ويرحم كباره صغاره، وما إلى ذلك، وبهذا يتحوَّل المجتمع إلى بنيانٍ مرصوصٍ يشدُّ بعضُه بعضًا، ويتحوَّل إلى جسدٍ واحدٍ، كما قال رسول الله(ص): “مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد الواحدِ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى”[14]

ولكنَّ الأهمّ من ذلك كلّه، أن يتحوّل التراحم إلى نظام حياة، وتشكّل الرّحمة حينئذٍ حالة مؤسَّسيّة مبنيّةً على قواعد وأسس، فيُبنى النِّظام السياسيّ على أساس الرّحمة، كما أشار إلى ذلك الإمام عليّ(ع) في عهده إلى مالك الأشتر حين ولّاه مصر: “وأشعر قلبك الرَّحمة للرعيَّة، والمحبَّة لهم واللّطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم؛ فإنّهم صنفان: إمَّا أخٌ لك في الدّين، وإمّا نظيرٌ لك في الخلق، يفرطُ منهم الزّلل، وتعرض لهم العِلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الّذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنَّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولّاك”[15]. ومن الواضح أنَّ تعقيد الإدارة السياسيّة للبلاد، تتطلّب تحويل هذه العمليّة من الرحمة بالرعيّة واللّطف بهم، إلى نظامٍ يضبط سلوك الدّولة في أجهزتها ككلّ، وإلّا فالحاكم كفردٍ لا يقوى على تحريك فعل الرّحمة من ناحية فرديّة لكلّ فردٍ من أفراد رعيّته.

فالحاكم الرَّحيم – على سبيل المثال – هو الّذي يضع مصلحة النّاس أمامه، فوظيفته أن يفعّل كلّ طاقات المجتمع والدّولة والأمّة في سبيل أن تحقِّق القوّة للنّاس في أوضاعهم وحاضرهم ومستقبلهم، قوّةً اقتصاديّةً، فلا يضغط على الفقراء ليستأثر بلقمة عيشهم الأغنياء. الدّولة تتحرَّك في سبيل هذا الأمن الغذائي، ليكون الإنسان عزيزًا وكريمًا.

الحاكم هو الّذي يستنفر كلّ طاقات المجتمع في سبيل خدمة المجتمع، ولا يجعل المجتمعَ لتأمين شهواته وحاجاته ومستقبله. لا نقصد هنا الحاكم الفرد فقط، وإنّما النظام الحاكم. لتتحوّل السياسة من حالة تحكّم بمصائر النّاس وأوضاعهم، إلى أن تكون خدمةً للنّاس تستهدف رفع إنسانيّتهم ورفع مستواهم، حتى وهي تستخدم القوّة في فرض النظام وهي تسجن، وحتى وهي تأخذ روح إنسانٍ قتل بريئًا!

وعندما تتحرّك الدولة لتفرض ضرائب على النّاس من موقع الرحمة بهم، فإنّها تبني نظامها الضّريبي على أساس دراسةٍ دقيقة لأوضاع الناس، واحتياجاتهم في العيش الكريم، وطبيعة الظّروف الموضوعيّة التي تحيط بحركة الاقتصاد، وما إلى ذلك، بما يؤسِّس لتحريك منطق العدالة في وضع النظام الضريبي، فيُلاحظ التّفاوت الاقتصادي بين الأغنياء والفقراء، ولا يُجعل الجميع في سلّة واحدة.

والمجتمع المتراحم هو الّذي يعمل على الإنماء المتوازن، وتتوجَّه الأولويّة في العمل والجهد والموازنة تبعًا لأولويّات الحاجات، فلا يجري تضخيم الإنماء في منطقة معيّنة، في حين تبقى المناطق الأخرى رهينة الحرمان والبؤس.

الرّحمة فكر وشعور

وهكذا قد نخلص هنا إلى أنَّ الرحمة ليست مجرّد شعورٍ بالشّفقة يتحسَّس فيه الإنسان آلام الآخرين، وإنما تعني مواجهة الواقع بما يحقِّق مصلحة الإنسان قياسًا بالرّؤية التي تحكم وجوده ودوره ووظيفته في الحياة، ومن دون ذلك، قد تتحوَّل الرّحمة العاطفيّة إلى فعل قسوة من النّاحية العمليّة!

ولنضرب لذلك مثالًا، الموقف الّذي يأخذه الطّبيب الجرّاح تُجاه المريض الّذي تمّ تشخيص الحاجة إلى بتر أحد أعضائه، إذ يُمكن له -أي الطبيب الجرَّاح- في هذه الحالة، أن ينظر بعين الشفقة إلى العضو نفسه، فيمنعه ذلك من بتره، ولكنّ هذا الامتناع عن البتر سيؤدِّي إلى فقدان المريض حياته، ومن الواضح أنَّ النظر إلى أهمّية سلامة الجسد كلّه واستمرار حياة الإنسان، هو الموضع الحقيقيّ للرّحمة التي تسمح عندئذٍ ببتر العضو المريض، ولا يكون ذلك منافيًا للرّحمة، بل يكون هو عين الرحمة.

واستنادًا إلى ذلك، تتطلّب الرّحمة موقفًا فكريًّا يؤسِّس لحالة التعاطف من الناحية الشعوريّة بشكل متناسب معه، وهذا الموقف الفكري يتضمَّن:

‌أ. الرؤية العامّة والأهداف الكبرى والتحدّيات المتنوِّعة التي تتَّصل بوجود الإنسان ودوره في الحياة.

‌ب. وعي تلك الرّؤية والأهداف والتحدِّيات واختزانها في داخل النفس، بما يولّد إحساسًا بالتفاعل المتناسب مع ذلك الوعي.

‌ج. قياس الموقف أو الفعل أو السّلوك الواقعيّ على تلك الرّؤية والأهداف الكبرى.

الرّحمة والحكمة والعدالة

وبهذا المعنى، فإنَّ مفهوم الرَّحمة كمفهومٍ إسلاميٍّ مركزيٍّ لا ينفكُّ عن الحكمة والعدالة، ولا يمكن أن ينفصل عنهما، ومن هذا المنطلق، نستطيع أن نفهم عمق الرّحمة الإلهيّة في حركة الوجود، في الكوارث الطبيعيّة من الزلازل والبراكين ونحوها، التي لا بدَّ من النَّظر إليها استنادًا إلى ما تقتضيه طبيعة الوجود والنّظام الكوني في المحافظة على توازنه من جميع الجهات، وهو ما يفرض سلبيَّاتٍ من خلال محدوديّة عالم المادّة، ولكنَّها سلبيّات لا تقاس بحجم الإيجابيَّات التي تنتج من الحركة الكلّية للنظام.

كما أنّ فهم مواقع الرَّحمة الإلهيّة، لا ينبغي أن يقاس إلى الحياة الدّنيا فحسب؛ لأنّ النظرة الإسلاميَّة تؤكِّد اتّساع حياة الإنسان إلى الدّنيا والآخرة، فقياس الرَّحمة لا يكون بمعزلٍ عن الحياة الأبديَّة حينئذٍ. وهذا يمكن أن يشكِّل منطلقًا لفهم البلاءات والأمراض الّتي يتعرَّض لها الناس، سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات، بحيث يكون أحد أهداف ذلك، هو تخليص الإنسان من آثار ذنوبه، كما ورد في بعض الأحاديث، أو دفع النّاس لتعديل مسارهم الخطير في أوضاعهم، كما توحي بذلك كثير من الآيات، ومنها قوله تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[16]، فأهمّية رجوعهم إلى الله، وعدم الاستغراق في حالة النّعم التي توحي بالطغيان – على قاعدة {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى}[17]- أوجبت إيجاد القانون الّذي يسمح بحصول الفساد بيد الإنسان، ومن الطبيعيّ أنّ ذلك الفساد سيؤثّر في آخرين صالحين، ولكنَّ الرَّحمة ارتبطت بالهدف الكبير الَّذي هو: الرّجوع إلى الله. ويمكن أن تتحرّك الرّحمة لهؤلاء من جوانب أخرى مرتبطة ببعض أوضاعهم في الحياة الدّنيا، أو في ما يريد الله لهم في الآخرة، ولعلَّ هذا ما يوضحه أكثر قول الله تعالى: {ولولا دفعُ الله النّاسَ بعضَهُم ببعضٍ لفسدتِ الأرضُ}[18].

الرَّحمة في التَّشريعات العنفيّة

وبناءً على ما تقدَّم أيضًا، لا يمكن فهم التَّشريعات التي قد تصنَّفُ على أنّها سلوكيّات عنفيّة، كالإعدام وقطع يد السَّارق وجلد الزّاني وغير ذلك، بأن يُنظر إليها مجرّدةً عن الرؤية الكلّيّة والأهداف العامّة للإنسان والمجتمع، فقال تعالى: {ولكم في القِصاصِ حياةٌ يا أولي الألباب}[19]، فالمحافظة على توازن حياة النّاس، يجعل من الحكمة التّضحية ببعض أفراده عندما تخلُّ حركتهم بذلك التّوازن، ويكون القبض على أيديهم فعل رحمةٍ حينئذٍ.

وهنا فقط يمكن أن نطلّ على المعنى العميق لوصف الله تعالى رسولَه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[20]، وذلك من خلال النّظرة الشّاملة إلى الإسلام عقيدةً وشريعةً ومنهجًا أخلاقيًّا، وقياس ذلك على الفطرة الإنسانيَّة في صفائها وعناصرها الأصيلة، وعلى متغيّرات الحياة وتطوّرها على قاعدة الهدى والرّشاد. وبذلك تمثّل رسالة الرّسول الرّسالة الأكثر رحمةً بالإنسان في التّخطيط الإلهيّ الشّامل لوجوده وحركته في الحياة. وهذه هي الرّحمة بالمعنى الحضاريّ الّتي ترسي كلّ صناعة الحضارة الإنسانيّة على ضوء التقاء حركة الأرض مع قيم السّماء؛ والله من وراء القصد.

[1] ابن منظور، لسان العرب، ج12، ص 230.

[2] الأعراف: 52.

[3] الأعراف: 156.

[4] الكهف: 58.

[5] آل عمران: 107.

[6] هود: 28.

[7] الرّوم: 50.

[8] الإسراء: 100.

[9] الزّمر: 53.

[10] الفتح: 29.

[11] البلد: 17.

[12] الروم: 21.

[13] الإسراء: 24.

[14] صحيح مسلم، ج8، ص20.

[15] نهج البلاغة، ج3، ص83.

[16] الروم: 41.

[17] العلق: 6-7.

[18] البقرة: 251.

[19] البقرة: 179.

[20] الأنبياء: 107.