خطورة المفاهيم في زمن الفتن المذهبيَّة


السيد د. جعفر فضل الله 
ندرك بوجداننا أنَّ عالم الذّهن مغايرٌ للعالم خارجَ ذواتِنا، وما يحضر للإنسانِ هو الصّور التي تنطبع في ذهنه، بحيث ينقُلُ الإنسانُ الخارجَ إلى عالمه الذّهنيّ، ويعبّر عن ذلك العالم الخارجيّ بألفاظٍ تمثّل مفردات أيّ لغة. والمفردة قد تدلّ على معنًى بسيط في الخارج، ولكنَّه في الوجود الذهني يصبح مركّبًا من مجموعة من المعاني.

مثلًا، كلمة (ماء) تدلّ على السّائل المعروف الذي تنطبع صورتُه في الذّهن، ولكنّ اللفظ ذاته يدلّ على مفهوم السيلان، كما يدلّ على شفافيّة ذلك السائل، وعلى كونه مسلوب الطّعم والرّائحة، وأنّه شرط ضروريّ للحياة، وعلى كونه مؤلَّفًا من الهيدروجين والأوكسيجين من الناحية الكيميائيّة، وما إلى ذلك. نعم، يُمكن للإنسان أن يهتمّ ببعض هذه المعاني تبعًا لطبيعة التّوظيف الذي يستعمل اللفظ لأجله.

من هذا القبيل، المفاهيمُ المرتبطة بعلاقة الإنسان مع بني جنسه، حيث للتّسمية دورٌ محوريٌّ، لا في الدلّالة على المسمَّى فحسب، وإنّما في نوعيَّة المعاني التي تتضمَّنها تلك التّسمية. وعادةً ما ترتبط هذه المعاني بأحداث شخصيَّة، شكَّلت أساسًا لانفعالاتٍ نفسيّةٍ مؤثّرةٍ لدى الفرد، ولو كانت تلك الانفعالات نحو مصادفةٍ. فقد نجد أنّ إنسانًا يسافر إلى بلدٍ، فما إن ينزل من الطائرة، حتّى يصاب بحمّى تدخله المستشفى، فهنا يرتبط اسم البلد بالمرض، بحيث يستدعي الذّهن أحدهما كلّما ذكر الآخر. هنا قد يلعب النسيان والانغماس في تجارب الحياة دورًا في تفكيك الأمرين اللّذين ليس بينهما تلازمٌ، بدليل أنّ كثيرًا من النّاس الذين يسافرون إلى هذا البلد، لم يصابوا بما أصيب به ذلك الإنسان، ولكنّ تكرار تجارب سيّئة من هذا النّوع، قد يثبّته في النفس على نحوٍ غير قابل للتفكيك بسهولةٍ أو بمجرّد التقدّم في العيش.

الذّهن نفسُه، ونتيجةً للضّغوط النفسيّة، قد يمارس نوعًا من الانتقائيَّة التي لا تركّز إلا على ما يعزّز الارتباط بين البلد والمرض، أو بين السّفر والمرض، بحيث يجري تأكيد التّلازم في النّفس، قد يصل الأمر إلى أن يصبح المرض جزءًا لا يتجزَّأ من مفهوم السَّفر أو ذلك البلد. نعم، صدمةٌ إيجابيَّة موازية في تأثيرها قد تدفع في اتّجاه التّفكيك القهريّ بين المعنيين.

هذا الارتباط الشخصي بين المعاني قد يتحوَّل إلى ارتباطٍ لدى جماعةٍ ما، قد يكون ذلك بسبب قوَّة تأثير ذلك الشخص في فكر الجماعة وإيمانها، أو عبر دخولها في مناهج التربية والتّعليم التي تهدف إلى تشكيل رأيٍ عامٍّ موحَّد حول قضايا الحياة، ومنها العلاقات بين النّاس والجماعات، والتي تحكمها الإيجابيّة تارةً (تحت عناوين الصّداقة والولاية والتّحالف والتّعاون…) والسلبيَّة أخرى (تحت عناوين العداوة والصّراع والتّقاطع والإقصاء والتّكفير…).

انطلاقًا من ذلك، من الممكن لنا هنا أن نتصوَّر إمكانيَّة تحوّل الاختلاف في المذهب ضمن الدئرة الإسلاميّة مثلًا إلى حالة من العداوة، في الوقت الّذي يعبّر الاختلاف – في بداية الأمر – عن اختلافٍ في وجهات النّظر المعرفيّة أو العلميّة أو السياسيّة تجاه جملةٍ من المسائل الأساسيّة في حياة الجماعة.

التّسمية الأصليَّة

عندما بُعث رسول الله (ص) بالنبوّة، أطلق القرآن الكريم على كلّ من آمن بالإسلام اسم مسلم، فقال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}[1]، وعلى هذه التّسمية تأسَّس مجتمع مسلم، يستند إلى رسالة الإسلام قاعدةً لحركته وفاعليَّته. كان الإيمان بالله ربًّا وبمحمَّدٍ نبيًّا ما يجمع أولئك المسلمين، ويصهر تنوّعاتهم القبليّة والحزبيّة والعرقيّة وما إلى ذلك، كما شكَّل الأساس لضبط اختلافاتهم الفكريّة، على هدى قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[2].

وهكذا، عندما اختلف المسلمون بعد وفاة النبيّ(ص) على خلافته، كان الإسلام هو العنوان الذي يحدِّد الموقف، وهذا ما نلمحه في كلمة الإمام عليّ في كتابه إلى أهل مصر، وهو يحدّد الظروف التي حكمت موقفه بعد بيعة النّاس بالخلافة لأبي بكر: “فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلمًا أو هدمًا تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوتِ ولايتكم…”[3].

في كلِّ الأحوال، فإنَّ دراسة طبيعة الحراك الّذي حكم تلك المرحلة من حياة المسلمين، يُشير بوضوحٍ إلى أنَّ الخلاف بقي في إطار وحدة المجتمع الإسلامي، ووحدة مصادر المعرفة الدّينيّة، بمعنى أنَّ الخلاف كان حول إثبات سنّة النبيّ(ص)، وأنَّ النبيَّ(ص) قال كذا أو لم يقل كذا، وحول فهم هذا الحديث أو ذاك، أو حول تفسير آية قرآنيّة وتحديد دلالاتها، من دون أن ينعكس ذلك على تشكّل جماعات مذهبيّة ذات بنى متمايزة بالمعنى الواقعي، حتّى لو كان موقف إحداهما خطأً بنظر الأخرى؛ لأنَّ هناك فرقًا بين أن ترمي أحدهم بالخطأ، وبين أن تجعله مباينًا لك في أصل الدّين الذي يجمع بينك وبينه.

الانقسام والتّسميات

بمعزلٍ عن العوامل التي ساهمت في تكريس مسارٍ لانقسام المجتمع الإسلامي إلى جماعاتٍ متمايزة، ومذاهب متباينة، وتغليب المختلَف فيه، وهو قليل، على المتَّفق عليه، وهو كثيرٌ، هذه العوامل الّتي لعبت الصِّراعات السياسيَّة دورًا أساسيًّا فيها؛ لأنّنا نزعم أنَّ كثيرًا من حكّام المسلمين فقدوا المشروعيَّة الإسلاميّة، بمعايير السنّة والشيعة معًا، فكان منهج هؤلاء هو اللَّعب على وتر الخلافات لإدخالها في إطارها العصبيّ، وتضخيم نقاط الافتراق لتحويلها إلى أولويّات تأخذ على الناس اهتماماتها اليوميّة، حتّى غدت كثيرٌ من الأفكار الفرعيَّة سببًا في حروبٍ طاحنة، وليست مسألة خلق القرآن إلّا نتيجة من نتائج ذلك… بمعزل عن كلّ ذلك، فقد بات واضحًا أنَّ المجتمع الإسلامي اليوم منقسمٌ إلى مجتمعين أساسيّين: سنّة وشيعة، وغاب التَّداول بالاسم القرآنيّ، وهو المسلم، لصالح ذلك الانقسام، وكأنّنا نتحدَّث عن دينين بدلًا من تعبيرٍ علميّ مذهبيّ عن دينٍ واحدٍ برؤيتين مختلفتين.

ولذلك، أصبح لدى كثيرين الحديثُ عن وحدةٍ إسلاميَّة ضربًا من الخيال، بل يمثِّل تناقضًا، باعتبار أنَّنا لا نتحدَّث عن تنوّعٍ في دائرة واحدة، بل عن دائرتين منفصلتين، واستعيرت لذلك مقولات فقهيّة وعقديّة عديدة جعلت الانقسام يذهب بعيدًا إلى المبدأ الأساس، وهو التَّوحيد والنبوَّة، حيث اعتبرت بعض الخطابات الفقهيَّة للشّيخ ابن تيميّة – مثلًا – أنَّ الموقف السلبيّ من بعض الصَّحابة لدى المسلمين الشّيعة نتيجة الخلاف على أمر الخلافة بعد النبيّ(ص)، ينسحب إلى الموقف من النبيّ(ص)، بشيءٍ من التّأويل الّذي لا يمكن أن يلتزم به المسلمون الشيعة أنفسهم، فيقول: “هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله(ص)… ليقول القائل: رجلُ سوءٍ، كان له أصحاب سوءٍ، ولو كان رجلًا صالحًا لكان أصحابه صالحين”[4]، في الوقت الّذي يمكن إرجاع المسألة – في أقصى الحالات – إلى خلافٍ علميٍّ حول تقويم موقع هؤلاء الصَّحابة، أو على الخلاف حول حديث النبيّ(ص) في تنصيب عليٍّ بن أبي طالب أو ترك أمر الخلافة شورى بين المسلمين، وهذا الجانب العلميّ يبقي المسألة في الدّائرة الإسلاميّة العامّة الجامعة للتّمايزات والاختلافات في وجهات النّظر.

كذلك يمكن أن نمثِّل للأمر بالمتداول الشّائع عن المسلمين الشيعة، أنّهم يعتبرون جبريل(ع) خائنًا لأمانة الرّسالة، وأنّه كان عليه أن ينقلها إلى عليٍّ فنقلها إلى النبيّ(ص)، وهذا مع أنّه أقربُ إلى السّخف، فإنّه يضرب الأساس الثّاني من أسس الإيمان لدى المسلمين الشّيعة في الذهنيّة الشائعة.

وإضافةً إلى ذلك، نجد مسألة تحريف القرآن التي تُلصَق زورًا بالمسلمين الشّيعة، ويتمّ التركيز على بعض روايات يوجد مثلُها في الصحاح المعتمدة في المجال الإسلامي السنّي، في الوقت الّذي يرفض المسلمون، شيعةً وسنّة، هذه الروايات، أو يتمّ التركيز على كتابٍ شاذٍّ لعالمٍ من علمائهم، كلّ ذلك في عمليّةٍ انتقائيّةٍ لما يتوافق مع المزاج المذهبيّ في زمن الفتنة التي تحوِّل أيّ مسألة علميّة إلى مسألة عصبيّة.

ما يصنعه هذا النّوع من الخطاب، هو إضافة معنًى جديد إلى التشيّع أو إلى الرّافضة – حسب المصطلحات المتداولة بكثرة في الأدبيات المذهبية في الفترة الحاليّة – وهو الموقف السلبيّ من النبيّ(ص) نفسه، وبذلك يتلازم مصطلح الرّافضة أو الشيعة مع الخروج من دائرة الإسلام بالكلّيّة؛ لأنَّ الإسلام إذا كان هو النطق بالشّهادتين، فإنّ أيّ فكرةٍ تصل – بحقٍّ أو غير حقٍّ – إلى ضرب إحداهما، فإنَّ صاحبها يخرج من الإسلام.

هكذا يمكن أن يتحوَّل مصطلح الرّفض من مفهوم سياسيّ يدلُّ على مطلق المعارضة للواقع السياسي القائم، إلى مصطلحٍ عقديٍّ يتمّ توظيفه في الخطاب الدّيني أو السياسي، لإيجاد أحكامٍ جاهزة يمكن أن تبرّر السكوت عن حروبٍ وعن قتلٍ وتدميرٍ وما يُشبه الإبادة الجماعيّة.

وممّا قد يشير إلى المضمون السياسيّ لمصطلح الرفض، ما نقله ابن عساكر في كتابه “تاريخ دمشق الكبير”، عن استخدام معاوية بن أبي سفيان (ت60هـ) للمُصطلح في المعارضين لحكومة عليّ بن أبي طالب وسلطته، وهو ما تضمّنه كتابٌ من معاوية إلى عمرو بن العاص: “وإنّ جريرًا لما أبطأ عليه معاوية بالبيعة لعليٍّ، كلَّمَهُ في ذلك وقال له: إنَّ هذا أمرٌ له ما بَعْدَهُ، فدعا معاوية ثقاته فاستشارهم، فقالَ له عُتبة، وكان نظيرَ معاوية: استعِنْ في هذا الأمر بعمرو بن العاص؛ فإنَّه مَنْ عرفتَ، وقد اعتزَلَ عثمانَ في حياته، وهو لأمرِكَ أشدّ اتِّباعًا؛ فكتب إليهِ معاويةُ، وعَمْرٌو بفلسطين: “أمّا بعدُ، فإنَّه قد كان من أمرِ عليٍّ وطلحة والزّبير ما قد بلغَكَ، وقد سقط[5] الشَّامَ مروانُ بنُ الحكم في رافضةِ أهل البصرَةِ، وقد قدمَ عليَّ جرير بنُ عبدِ اللهِ ببيعةٍ عليٍّ، فأقدِمْ عليَّ على بركة اللهِ؛ فإني قد حبست نفسي، ولا غنى بنا عن رأيك”[6]؛ وهذا يعني أنَّ الكلمة اصطلاحًا لها مضمون سياسيّ، وليس مضمونًا عقديًّا، وبالتّالي، فتسمية الرّافضين لمناصرة زيد بن عليٍّ بالرافضة لرفضهم مناصرته، بمعزلٍ عن السبب الحقيقي الدّاعي إلى الرفض.

قد تكون المسألة قد برزت في الآونة الأخيرة أكثر حدّةً في المجال الإسلاميّ السنّي، ولكنّ الأمر ذاته يمكن أن يرد عندما نتناول مصطلح النَّصب، والمقصود به نصب العداء لأهل البيت، وهو مصطلح يشير إلى سياسات السلطة الجائرة، ليتحوَّل نتيجة ظروف وعوامل متعدّدة إلى مصطلح عقدي قد يُربَط في الذهنية العامَّة بكلّ من لم يؤمن بإمامة أهل البيت والتزم بالخلافة لغيرهم، بينما المصطلح يشير إلى موقفٍ خاصّ؛ ولذلك كلّ المسلمين يجلّون أهل البيت ويودّونهم، إلا الشّواذ، ولعلّهم من يعيش ذهنيّة الخوارج المنبوذين من الطرفين.

المصطلحات أحكام

ما نرمي إليه هنا، هو أنَّ المصطلحات المستخدمة ليست عبارةً عن مفاهيم ساذجة يُشار بها إلى جماعاتٍ معيَّنة، وإنّما هي مفاهيم مركَّبة من معانٍ متعدّدة، وبعض هذه المعاني يشكِّل أساسًا لأحكام فقهيَّة قد تصل إلى حدِّ القتل والسبي والتّدمير وما إلى ذلك، وقد ساهمت فيها أحداثٌ عديدة كرّستها عبر الزّمن، ولم تنشأ في لحظة زمنيَّة محدَّدة.

المفاهيم – بهذا المسار – هي جزءٌ من الحياة الاجتماعيَّة، وأيّ صراعٍ يدخل بين جماعتين، يؤثّر في التسميات والمصطلحات المتداولة لدى كلِّ جماعةٍ عن الأخرى، وقد يُستبدلُ مصطلح بآخر بسبب أنَّ المصطلح الأوَّل قد يشير إلى حالةٍ أقلّ حدّةً ممّا تقتضيه حركة الصِّراع.

وهذا ما نشهده حاليًّا، حيث هُجِر مصطلح الشّيعة ليحلّ محلّه مصطلح الرّافضة المحمّل تاريخيًّا، ولا سيَّما لدى المدرسة السلفيّة، بالكثير من الأحكام السلبيّة، بحيث يكفي أن يُقال عن جماعةٍ ما إنّهم رافضة، ليكون مبرِّرًا لتفجير مساجدهم، أو أسواقهم، ومع أنَّ الزيديّة ليسوا رافضةً بحسب المصطلح، فإنّ استبدال الزيديّة بالحوثيّة من جهة، والقول بتحوّلهم إلى رافضة، يؤدِّي وظيفة تبريريّة في الخطاب، انطلاقًا ممّا يتضمَّنه المصطلح من مفهومٍ في الذهنيَّة العامَّة.

كذلك، فإنّ مصطلح الكافر نفسه خضع لهذا اللّون من التغيّر، فالكفر يتحرّك في الفضاء المعرفي، حيثُ إنَّ معناه في اللّغة العربيّة هو “ستر الشّيء”، والذي نرى أنّه يختزن معنى الجحود، وهو أن يخالف الإنسان قناعته بفكرةٍ ما في ما يعلنُ من موقفٍ أو يتحرَّك به من سلوك، وبالتّالي، فالكفر يختزن تناقض الإنسان نفسه مع قناعاته، وبالتّالي، هو يقاس على ما ثبت عند الشّخص من الحقّ فيقوم بإنكاره، أمَّا ما لم يثبت عنده الحقّ فيه، ممّا كان خاضعًا فيه لوجهات النّظر والاجتهاد واختلاف القناعات، فإنّه لا يمكن اعتبار شخصٍ ما كافرًا بلحاظ قناعات شخصٍ آخر.

وهذا الأمر هو الّذي يجعلنا نسجِّل ملاحظة منهجيَّة على الوهّابيّة التي تعتبر أنّ زيارة القبور – مثلًا – هي شركٌ، بناءً على رواية معيّنة، أو رأيٍ اجتهاديٍّ في بيان معنى التّوحيد، فإنّ اعتبار الممارس لزيارة القبور مشركًا، إنّما هو قياسٌ على اعتقادات الوهّابيّة، ولا يصحّ عند من لم تصحّ عنده الرّواية المذكورة، أو تأوّل دلالاتها بما لا ينافي التّوحيد.

من هذا الباب أيضًا، مصطلح “أهل الكتاب” في الدّلالة على الجماعات الدّينيّة الأخرى ذات الكتب السماويّة، كاليهود والنَّصارى – بمصطلح القرآن نفسه – وقد أعطى القرآن قيمة إيجابيَّة للكتاب في الجُملة، وجعل نفسه في موقع المكمّل أو المصدّق لما جاء في تلك الكتب[7]، ففي حين استخدم مصطلح “أهل الكتاب” 31 مرّة، وبتعبير “أوتوا الكتاب” 18 مرّة، لم يرد مصطلح اليهود سوى 8 مرّات، والنصارى 9 مرّات – بغضّ النظر عن أنَّ في جانبٍ منها مدحًا لبعضهم، والنّصارى بالخصوص – فقد استُبعد المصطلح الأوَّل (أهل الكتاب) من دائرة التّداول في المجتمع، ليحلّ محلّه المصطلح الثاني الذي اكتسب معاني سلبيّة تبعًا لتاريخ العلاقة مع تلك الجماعة؛ بل ربّما قلّ استعمال المصطلح الثّاني لصالح مصطلحات أخرى، كالصليبيّين، في إشارة إلى النصارى مثلًا، تحت تأثير أحداث كبيرة ومؤثّرة، كالحروب الصّليبيّة. وبذلك، كان غياب الاسم الأوَّل عنصر إضعافٍ للمعاني الإيجابيَّة التي يختزنها تجاه الجماعات المنضوية تحته، وبذلك لعبت التسمية دورًا في استبعاد تلك المعاني لصالح المعاني السلبيّة النّاجمة عن تلك الأحداث، وربّما ساهمت أيضًا في اختزال الجماعة كلِّها في التّسمية الجديدة، سواء الذين كان لهم علاقة بتلك الأحداث، أو الذين لم يكن لهم علاقة بها، وربّما لم يكونوا موافقين عليها ضمنيًّا.

حول مصطلح السنَّة والشّيعة

وقد يحسن أن نشير هنا إلى أنَّ التّقابل الحاليَّ بين السنّة والشّيعة قد لا يكون كذلك في تاريخه، ومن المحتمل هنا أنّ تسمية هذه المدرسة الفقهيّة بمدرسة “السُّنّة” نشأت من أمرين، أو أحدهما على الأقلّ:

الأوّل: بسبب الانشغال بالحديث النبوي الذي يمثّل “سُنّة” النبيِّ محمَّد، ولا سيَّما أنّ جزءًا من الجدل الفقهي كان حول معايير قبول الرّوايات، ومدى صلاحيّة العقل للخوض في ما وراء النصّ، وغير ذلك؛ فأضفت التسمية الشرعيّة الفقهيّة في كونها تمثيلًا لسُنَّةِ النبيِّ محمّد، ولا سيّما إذا لاحظنا أنّ عددًا من المؤلّفات التي جمعت الأحاديثَ النبويّة سُمّيت باسم السّنن ونُسبت إلى أصحابها، فكان كتابُ “سنن أبي داود”[8] و”سنن البيهقي”[9] و”سنن النّسائي”[10] و”سنن الترمذي”[11] و”سنن ابن ماجة”[12] و”سنن الدّارمي”[13]، وغير ذلك.

الثّاني: أن تكون تسميةً في مقابل الفئات الأخرى ممّن عُدّوا من المبتدعة، أي الّذين أَلحقوا بالدِّين ما ليس فيه. وهذا التقابل تضمّنته آثارٌ مرويّة عن الصّحابة أو التابعين؛ ففي سنن الدّارمي، عند عبد الله قال: القصدُ في السُّنَّةِ خيرٌ من الاجتهاد في البدعة”[14]؛ وفي “سنن الترمذي” بابٌ بعنوان: “الأخذ بالسُّنَّةِ واجتناب البدعة”[15]؛ وفي “سنن البيهقي”: “باب ما جاء في طلاقِ السُّنَّةِ وطلاقِ البدعة”[16]، وفيه أيضًا: “هنالك تُترك السُّنَّةُ وتظهرُ البِدعةُ”[17]. ورُبَّما يؤكِّد ذلك أبو زهرة، بعد استعراضه للمسار التّاريخيّ للفقه على النَّحو الذي أسلفناه آنفًا، وتحت عنوان “فقه الشّيعة والخوارج”، يقول: “كان كلامُنا كلُّهُ في فقه الجماعة، وهو ما يُسمَّى في عُرف التّاريخ الإسلاميّ بفقه السُّنَّةِ، وأنَّ تلك الفرق الأخرى قد ظهر فيها فقهٌ، وله مدوَّناتٌ تُقرأ، وأقضيةٌ يُعمَلُ بها، وفتاوى تُتَّبع، ولا بدَّ أن نخوض في هذه الفرق بكلماتٍ موجزاتٍ”[18]، حيث قابَلَ بين فقه السُنَّة الذي اعتبره “متّصلًا” بعهد النبيِّ والصحابة والتابعين، وبين فقه غيرهم من الفرق التي اعتُبر بعضُها منحرفًا وبعضُها خارجًا عن الإسلام وبعضُها مبتدِعًا وإن لم يخرج عن الإسلام[19].

وثمّة احتمال ثالث، وهو أن يكون مصطلح السنَّة تكوَّن أو ترسَّخ في مقابل مدرسة الرّأي التي مثّلها أبو حنيفة وأتباعه، ولا سيَّما مع ما رافق ذلك من تحزُّبٍ لبعض الآراء الاعتقاديّة، وتحديدًا قضيَّة خلق القرآن[20]، وموقف مدرسة ابن حنبل منها، إضافةً إلى بروز مدرسة الرأي كخطٍّ فقهيٍّ معتمدٍ من السلطات السياسيّة المتنوّعة؛ الأمر الذي يجعلنا أمام أكثر من عاملٍ لعبَ دورًا في تشكّل المفهوم. وقد يكون للتّقابل الحاصل بين الاتجاه المعتزلي والاتجاه الأشعري أيضًا دخلٌ أيضًا في تشكّل مصطلح السنّة؛ باعتبار أنَّ البارز بين المدرستين كون الاتجاه العقليّ هو ما كان يطبع المعتزلة، والاتجاه النَّصّي هو ما كان يطبع منهج الأشاعرة؛ بل من الواضح أنَّ السّياق العامّ لصراع الأشاعرة والمعتزلة يؤيّد ذلك.

وانطلاقًا من هذه النّقطة، فقد يمكن لنا اعتبار أنَّ مصطلح السنّة تكوّن خارج سياق التقابل بين السنّة والشيعة، وإنّما تمَّ في إطار المجال السنّي نفسه، وهذا يجعلنا نحتمل أنَّ التقابل بين مصطلحي السنّة والشيعة ربّما يكون تأخَّر عن ذلك، وأتى نتيجة تأزّم الصراع المذهبي بما جعل الشيعة في خطِّ البدعة، كما سنشهد ذلك في الاتجاه الذي تبنّاه الشيخ ابن تيمية في حقّ الشّيعة أو الرّوافض.

خاتمة

على هذا الأساس، يمرُّ إعادة تشكيل العقل الإسلاميّ حكمًا عبر إعادة إنتاج المصطلحات، وإحلالها مكان المصطلحات السّابقة. وإعادةُ إنتاجِ أيِّ مصطلحٍ، لا بدَّ من أن يلحظ مسار تشكّله التاريخي، ليُعاد تركيبه ضمن الواقع ظروف الواقع المعاصر الذي يحمل حكمًا تطوّراتٍ وتغيّرات عديدة تلحق بالجماعات المذهبيَّة وغيرها. إضافةً إلى ذلك، على الجماعات المذهبيّة أن يدقّقوا في دلالات المصطلحات في ذهن الجماعة الأخرى، حتّى يعرفوا ما هو نوع الرّسالة التي يرسلها الخطاب باستخدامه مصطلحًا دون آخر؛ بل لعلَّ من الضروريّ أمام الهجمة الاستكباريّة على العالم الإسلامي، واستغلاله لحالات الفرقة بين المسلمين، أن تهجر، بل أن يُحرَّم استخدام كثير من المصطلحات التي تعزِّز الانقسامات المذهبيّة، وأن يركّز في حقل التّداول على المصطلحات الجامعة، وأهمّها التسمية القرآنيّة لكلّ من التزم بالإسلام دينًا، كما قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}[21]؛ والله من وراء القصد.

[1] سورة الحجّ: 78.

[2] سورة النساء: 59.

[3] نهج البلاغة، من كتابه إلى أهل مصر.

[4] ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، ج4، ص 446.

[5] أي نزل.

[6] ابن عساكر (ت 571هـ)، تاريخ مدينة دمشق، 1415هـ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ج59، ص131.

[7] انظر: القرآن الكريم، الآية 41، ص7.

[8] السجستاني، سليمان بن الأشعث، أبو داود (ت275هـ)، سنن أبي داود، تحقيق وتعليق سعيد محمّد اللحّام، ط1 جديدة منقّحة ومفهرسة، دار الفكر، 1990م، بيروت، لبنان.

[9] البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي، أبو بكر (ت458هـ)، (غير مذكور)، دار الفكر، (غير مذكور).

[10] النسائي، أحمد بن شعيب بن علي بن بحر، أبو عبد الرحمن، سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية الإمام السندي، ط1، دار الفكر، 1930م، بيروت، لينان.

[11] الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، أبو عيسى (ت279هـ)، سنن الترمذي، حقّقه وصحّحه عبد الوهّاب عبد اللطيف، ط (غير مذكور) دار الفكر، (..)، بيروت، لبنان.

[12] القزويني، محمد بن يزيد، ابن ماجة (ت275هـ)، سنن ابن ماجة، تحقيق فؤاد عبد الباقي، ط (غير مذكور)، دار الفكر، (غير مذكور)، بيروت، لبنان.

[13] الدارمي، عبد الله بن الرحمن بن الفضل بن بهرام، أبو محمد (ت255هـ)، ط (غير مذكور)، دار إحياء السنّة النبويّة، 1349 هـ، دمشق، سوريا.

[14] الدارمي، عبد الله بن الرحمن (ت 255هـ)، سنن الدارمي، 1349هـ، مطبعة الاعتدال، دمشق، سوريا، ج1، ص 72.

[15] الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق وتصحيح: عبد الرحمن محمد عثمان، 1403هـ – 1983م، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ج4، ص149.

[16] البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى، دار الفكر، ج7، ص323.

[17] م. ن.، ج8، ص 145.

[18] محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، ص261.

[19] راجع: أبو زهرة، م. ن.، ص263-264؛ والشهرستاني، الملل والنحل، ص27.

[20] مسألة هل إنّ القرآن – باعتباره كلام الله – مخلوقٌ أم غير مخلوق، مسألة أثير الجدل حولها في عهد المأمون العبّاسي، وقد قتل فيها الناس بعضهم بعضًا، وحبس فيها علماء ومحدّثون، وممّا يذكره التاريخ من شواهد على ذلك، أنّه في سنة 218هـ، كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد في امتحان القضاة والشهود والمحدّثين بالقرآن، فمن أقرّ أنّه مخلوق محدث خلّى سبيله، ومن أبى أعلمه به ليأمره فيه برأيه وطول كتابه بإقامة الدّليل على خلق القرآن وترك الاستعانة بمن امتنع عن القول بذلك. انظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ط(غير مذكور)، دار صادر، 1965م، بيروت، لبنان، ج6، ص423. وبهذا يمكن أن نرى بوضوح تدخّل السلطة في معتقدات الناس الفكريّة، بمعزلٍ عن تأثير الأفكار على السلوك العملي بما له علاقة بأمن الدولة والمجتمع.

[21] سورة الحجّ: 78.