السيد د. جعفر فضل الله
في كلّ عامٍ نحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف، بعضُنا يرسُم صورةً مشرقةً لهذا الاحتفال ويعتبره مركزيًا في انبعاثِ المجتمع، كما نشهده في اليمن، وبعضُنا يُطلق المدائح والأناشيد كجزءٍ من الامتنان بهذا المولد الذي بعث الله بواسطته نوره إلى هذا العالَم؛ وبعضُنا يرى في الاحتفال به بدعةً لا يراها في الاحتفال بغيره.
وهكذا تتنوّع مكوّنات الأمّة الإسلاميّة في التعبير عن علاقتها بهذا الحدث التاريخي الكبير المُرتبط بالنّبي الخاتَم للأنبياء، حيثُ لا نبيّ بعدَه، ولا وحيَ خلفَه.
ونحن نُريد هنا أن نسلّط الضوء على المعنى الذي نفهمه للاحتفال بالمولد، والإحياء لذكراه (ص) في كلّ عامٍ.
أولًا: ينقسم الإحياء إلى جماعيّ وفرديّ؛ أمّا الجماعي فتعبّر فيه الجماعة الإيمانيّة عن المعاني التي تستعيدها في الأشكال والرموز والقصائد والأناشيد والأفعال التي تنتجها في الاحتفاء به، وهو أمرٌ هامٌّ وضروريٌّ لتجذير الهويّة، وتأكيد الانتماء، وتأصيل المعاني التي تريدها الجماعة أن تصلَ إلى الأجيال على امتداد الزمن، وهذا الأمر نرى تأصيله في قوله تعالى: (لقد كانَ في قصَصِهِمْ عِبْرَةً لأولي الأَلْبابِ)1 .
أمّا القسم الثاني، فهو الاحتفال الفردي، وهو الذي يهمّنا أن نقفَ عنده بشيء من التفصيل؛ لأنّنا العصر الذي نعيشُ فيه يُلقي بثقله ونمطه على كلّ واحدٍ منّا ليطبعه بطابعه، ويفرض عليه المعنى والرمز والهويّة، وقد بدأنا نشهد ذلك على شكل استغراق الجيل في الآليّات الرقميّة، المتزايدة مع التطوّر التقني في حجم اللحظة، وما فرضه ذلك من انغماسٍ في المادّة واللحظة واللذّة المادّية والصّورة الحسّية، بحيثُ ابتعدَ الكثيرون عن أن يشعروا بأنّ الانتماء إلى محمّد (ص) يعنيهم، وأصبحوا يرون أنّهم لا بدّ أن يحيوا حاضرهم لا تاريخهم، ويرتبطوا بالنّاس من حولهم أكثر من ارتباطهم بأشخاص ينتمون إلى عصورٍ ماضية!
ماذا يعني الاحتفال الفردي هذا؟
إنّه يعني عدّة أمور:
أوّلًا: أن نعلم أنّ الذي صنعَ محمّدًا هو الله تعالى، وأراده أن يكون النموذج الأسوة لنا، فقال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا)2 ، وهذا التأسّي هو الطريق لنصنع أنفسنا كما أراد الله: (قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحبِبْكُمُ الله ويغفر لكم ذنوبكم)3 . وقد تمثّل الدّليل إلى هذه الصناعة بالقرآن الكريم، ولذا كان من مهامّ النّبي أنّه (يتلو عليهم آياتهم) .
ثانيًا: أن نزكّي أنفسنا؛ بأن نطهّرها في نواياها وتوجّهاتها، وأن نهذّبها في أقوالها وأفعالها، وأن لا نسمحَ لأيّ “برمجةٍ” لا يرضى الله عنها بأن تلوّث هذه النفس، وتطبعها بنمطها، فنفقد بذلك الفلاح في الدُّنيا والآخرة. قال تعالى: (قد أفلح من زكّاها، وقد خابَ مَنْ دسّاها)5، أي بتلويثها بالإثم والمعاصي. وهذه هي المهمّة الثانية للنبيّ (ص)، وهي التي ترسُم علاقتنا به أيضًا، وذلك هو قوله تعالى – بعد قوله (يتلو عليهم آياته): (… 6ويزكّيهم) .
لا يصحُّ للإنسان الذي ينتمي إلى رسول الله (ص) أن يتركَ نفسه للخُلق السيّئ؛ يفحش للناس بالقول، والنبيّ (ص) قال: إن الله حرم الجنة على كل فحاش بذيء، قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له”7؛ ويلوّث نفسه بالحقد والبغضاء، والإفساد، فقد ورد عنه (ص) أنّه قال: “و الذي نَفسي بيدِهِ ! لا تَدْخُلوا الجنةَ حتى تُسْلِمُوا ، ولا تُسْلِمُوا حتى تَحابُّوا ، و أَفْشُوا السلامَ تَحابُّوا ، و إِيَّاكُمْ و البُغْضَةَ ؛ فإنَّها هيَ الحالِقَةُ ، لا أَقُولُ لَكُمْ : تَحْلِقُ الشَّعْرَ، و لكنْ تَحْلِقُ الدِّينَ”8، وأنّه قال: “ألا أخبرُكُم بأفضلَ من دَرجةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدَقةِ قالوا بلَى قال صلاحُ ذاتِ البينِ فإنَّ فسادَ ذاتِ البينِ هيَ الحالِقةُ” ..9
كيف ننتمي إلى رسول الله (ص) ونحتفي بمولده، ونحن نحقد على بعضنا البعض، لمجرّد اختلافٍ في الرأي؛ ونحن لا يهمّنا أن يدخل الفساد في علاقاتنا؛ بين الأزواج أو الأولاد أو الآباء أو الجيران أو المؤمنين وما إلى ذلك؟!
ثالثًا: أنّ نتعلّم (الكتاب والحكمة) من قولِ رسول الله وفعله وحركته، بحيثُ ندرُسُ سيرَته على ضوء كتاب الله، فلا نتيه بين حديثٍ صحيح وآخر مكذوبٍ؛ ولا نضلُّ بفكرةٍ فيها غلوٌّ ولا بأخرى فيها تقصيرٌ؛ ولا نضيعُ بين زمانه وزماننا، فنفهم الفعل على ضوء القاعدة، وعندئذٍ نستطيع أن نطبّق الفعل ذاته بوسائل العصر الذي نعيش فيه.
على سبيل المثال، عندما يردُ قولُ النّبي (ص) لأصحابه: “غيّروا الشيب”، أي بالخضاب، وندرس القاعدة التي يبيّنها الإمام عليّ (ع): “إنما قال صلى الله عليه وآله ذلك والدِّين قُلٌّ، فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار”10، فنفهم أنّه ليس سُنّةً، ولكنّه تدبيرٌ آنيٌّ مرتبطٌ بطبيعة مرحلة زمنيّة عاشتها الرسالة في تحدّياتها، وهكذا في اللباس والمأكل والمشرب وغير ذلك.
إنّنا هنا لا نتعلّم عناوين عامّة، ولا شعاراتٍ نظريّةً فقط، وإنّما نتعلّم – كما أرادنا رسولُ الله (ص) – الحكمةَ التي تعرفُ كيفَ تطبّق النظرية مع اختلاف الأحوال والظروف والأزمنة، وهو ما نفتقرُ إليه في كثيرٍ من تعاطينا مع الإسلام، في مفاهيمه وأخلاقه وآدابه وقواعده وأحكامه.
ونحن نعتقد، ونحن نعيشُ في السابع عشر من ربيع الأوّل، ذكرى ولادة الإمام جعفر الصّادق (ع)، الذي عاشَ عصرُه انبعاثَ ثقافة الإسلام على يديه، فكان معلِّمَ أئمّة المذاهب ومعلّميهم، وقد أسّس القواعد التي يُعرفُ فيها صحيح الحديث من سقيمه، ودقيق التفسير من سطحه، وأرسى علم القواعد التي تُعرفُ بها الأحكام مع اختلاف الأزمنة والعصور..
ولذلك رأينا أنّ المشروع الرسالي الذي أرسى النبيُّ (ص) دعائمه قد حُفظ في مدى قرنين ونصف من الزمن، عبر الأئمّة من أهل البيت (ع)، وقد ورد عن الحسن بن علي بن زياد الوشاء البجلي لابن عيسى القمي: “إني أدركت في هذا المسجد – يعني مسجد الكوفة – تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد (عليه السلام)”11.
خطبة جمعة تاريخ 14 ربيع الأول 1445هـ – 29-9-2023م
الفهرس:
1- سورة يوسف، الآية 111.
2- سورة الأحزاب، الآية 21.
3- سورة آل عمران، الآية
4- سورة الجمعة، الآية 2.
5- سورة الشمس، الآيتان 9-10.
6- سورة الجمعة، الآية2؛ وسورة البقرة، الآية 129؛ وسورة آل عمران، الآية 164.
7- الكليني، الكافي، ج2، ص323، ح3.
8- البخاري، صحيح البخاري، الأدب المفرد (260).
9- أخرجه أبو داود (4919)، والترمذي (2509) واللفظ له، وأحمد (4/ 444).
10- نهج البلاغة، ج4، ص5، رقم 17.
11- رجال النجاشي، ص 40، رقم 80 (ضمن ترجمة الحسن بن عليّ الوشّاء)؛ أيضًا: معجم رجال الحديث، ج6، ص28، رقم 2968.